الإنسان، وكما يعتقد أكثر الناس وعلى مرّالعصور والأجيال، مكوّن من جسد وروح . وإمتزاج الروح بالجسد يولد ما نسميه بالنفس وهي ماهية الشخص وسلوكه وطبائعه. ان حالة الجسد(الدماغ على وجه الخصوص) وتركيبته وخصائص بنائه الذاتية والمكتسبة سوف تتحكم بطبيعة وخواص النفس الإنسانية وسلوكها. وعلى ضوء ذلك فإن خصائص المرء وطبيعة تصرفه تعتمد على كنه مادة الدماغ وطبيعة برمجتها . وهكذا يرجح علماء الإجتماع والنفس بأن سلوك الفرد يعتمد على عنصرين أساسيين وهما :
1- عامل الوراثة أو عامل الجينات: أي أن خلايا دماغ شخص ما تعتمد في قابليتها على الفهم والتركيز والتبصر والإجتهاد على عوامل أو جينات وراثية يكتسبها المرء من آبائه وأجداده.
2-عامل المحيط الخارجي أو المجتمع : إذ أن خلايا دماغ الإنسان تتبرمج برمجة خاصة تمليها ظروف المحيط الخارجي الذي يتواجد به الإنسان. ومصادر هذه البرمجة عادة هي من ثقافات الأديان أو الثقافات الإنسانية الأخرى والعادات والتقاليد المتبعة في مجتمعه وكافة المعلومات والسلوكيات التي يستقيها في مدرسته و بيته و حارته.
السؤال الذي يطرح نفسه : هو أيهما الأهم في تكوين شخصية الفرد عامل الوراثة أم عامل الإكتساب الخارجي ؟ . هنا يختلف العلماء مع بعضهم ، فمنهم من يرى أن تركيبة شخصية الإنسان تشبه شكل المربّع أي ذي أضلاع متساوية . فالعامل الوراثي في عملية تكوين الشخصية يساوي عامل المجتمع . ومنهم من يرجّح عامل المجتمع ويجعل له الأثر الأكبر. ومهما يكن حجم التباين في التأثير بين هذين العاملين ، فإن عامل المجتمع يلعب دورا رئيسيا في بناء شخصيّة الإنسان وتكوين مفاهيمه . ولكي تسمو النفس وتترفع عن المراتب الدنيا في التصرف والأخلاق ، فأنه من الواجب أن يتفهم المجتمع والمتنفذون فيه سبل وطرق تهذيب النفس وإرشادها الى السلوك الصحيح والسيرة الحسنة . وحينما يهمل المجتمع أبناءه ويتركهم في مهب الريح ، عليه أن يتحمل عندئذ عواقب ومضاعفات ذلك .
أن مجتمعات العالم لا تخلوا من المتطرفين بآرائهم ونوازعهم ، وهذا التطرف هو داء وخيم على بنية المجتمعات وأسسها . فمحاصرة واحتواء هؤلاء المتطرفين وتحجيمهم تكمن في درجة المناعة المكتسبة التي يستطيع المجتمع أن يمنحها لأبنائه لمنعهم من الوقوع في براثن التطرف والمغالاة ومن ثم الإرهاب ومفاصله .
أن التطور التقني وثورة التكنولوجيا الحديثة وإتساع رقعة الإتصالات بين الناس ، جعلهم في مستقر واحد يرى أحدهم الآخر ويسمعه وأن إبتعدت المسافات آلاف الأميال فيما بينهم . وهذا ما يسهّل ويسرع عملية إنتقال المشهد أو الكلمة . ترك المجتمعات لأبنائها سابحة في هذا الفضاء الفسيح الواسع والملوث بأمراض الأفكار وجراثيمها في بعض الأحيان ، سوف يجعل إنتقال العدوى المرضية أمرا سهلا وسريعا فيما بينهم.
إصابة أبناء مجتمع ما بمرض الإرهاب ومضاعفاته هو أشبه ما يكون بإصابة الإنسان بالأمراض المعدية . حيث أن الجسد الضعيف ذو المناعة الواهية يكون أكثر عرضة للإصابة بالجراثيم والفايروسات ، والجسد القوي السليم يكون أكثر مناعة لذلك. النفوس والطبائع في مجتمعاتنا على الغالب تعاني من ضعف ووهن وحبوط نفسي عام متأتي من حالة الشعور بالظلم والإضطهاد والحرمان ومن تردي الأوضاع الإجتماعية والمعاشية والثقافية والسياسيّة. وقد أدى هذا الوهن الى جعل نفسية المواطن العربي هشّة ، ضعيفة ، حائرة ومهيّاة لإستلام الأفكار السقيمة والمرضية في بعض الأحيان . فإن لم تتحصن الأجيال وتهذب تهذيبا إنسانيّا وأخلاقيّا ودينيّا صحيحا فإنها من السهولة أن تقع ضحيّة العدوى الفكرية القاتلة التي تنتقل اليوم بين البشر كانتقال الفايروسات المرضية في الفضاء .
يترتب إذن على المجتمع والدولة مسؤولية كبرى في حقن أبناء مجتمعها بحقن المناعة الفكرية أو قد أسميها بـ”مضادات الإرهاب” أن صح التعبير ، من أجل تحصين أبنائها ومنعهم من السقوط السهل في فضاء الأفكار المريضة . وهذا يتم من خلال برامج الدراسة في المدارس العامة وبرامج التوعية في وسائل الإعلام والندوات العامة ومن خلال مؤسسات المجتمع المدني وباقي المؤسسات. كما أن لمراكز العبادة والمساجد الأثر الأكبر في تصحيح الفهم الخاطىء للإسلام وفضح سبل تشويه تعاليمه من قبل قادة الإرهاب. المثقفون من أبناء المجتمع يتحملون أيضا عبئا كبيرا في بث روح الوعي وإنتشال أبناء مجتمعهم من هوّة الرتابة في التفكير والتصرف .
على الدولة ومؤسسات المجتمع فيها أن تتهيّأ ليس فقط في سعيها الى حماية المجتمع وتطعيمه ضد الأفكار السوداء والتطرف الأعمى فحسب وإنما توفر أيضا جرع العلاج اللازمة لمعالجة أسباب هذه الظاهرة ومنابع إنطلاقها وبؤر تكاثرها . لأن التطعيم وحده لن يكون كافيا أمام من إلتهمهم المرض ووقعوا فيه . ومن دون شك فإن التحري عن الأسباب الحقيقية والعميقة والمزمنة وعلاجها بشكل جذري وصريح سوف لن يكون مسألة سهلة أو هيّنة . ولكن الصمت المطبق وعدم الحراك من قبل الدولة ومؤسسات المجتمع يعني إستشراء الداء وإستفحاله وصعوبة التعامل معه أو السيطرة عليه لاحقا ! .
لقد ظن الكثير من المتابعين بأن ظاهرة الإرهاب هي ظاهرة غريبة تستشري بالتحديد بين صفوف البسطاء والمحرومين من الناس والذين يتعرضون لـ “غسيل دماغ” مركز ،من قبل أناس متخصصين بهذا الشأن، دون غيرهم. ولكن الأحداث الإرهابية التي حصلت وتحصل الآن أشارت وتشير الى أن مرض الإرهاب قد يصيب مختلف الطبقات والشرائح من الناس. فيصيب المثقف كما يصيب الجاهل ويصيب العاطل عن العمل كما يصيب المهندس والطبيب ويصيب المرأة كما يصيب الرجل. وان يدل هذا الأمر على شيء إنما يدل على عمق “التكتيك” المستخدم من قبل أخصائيي الإرهاب وساسته، حيث يستطيعوا بـ “تكتيكهم” الخاص أن يخترقوا أفكار المتعلمين وغير المتعلمين من الناس وعلى حد سواء!
على الجميع أن يجهد ويجتهد لكشف الأساليب المستعملة من قبل ساسة الإرهاب ومروجيه في خطف أفكار بعض الناس وعقولهم وتوجيههم الى هذا المنزلق الخطير. هذه المسؤولية تبدأ من الدولة ومؤسساتها وتمر بمنظمات المجتمع المدني وتقف عند حد المواطن نفسه لأنه هو الهدف السهل الذي يبحث عنه الإرهاب ويستهدفه الإرهابيون. كشف أساليب ساسة الإرهاب وطرق تأثيرهم على عقول الناس ومشاعرهم مهمة كبيرة ومنتجة حيث سيسهّل ذلك عملية الفعل المعاكس الذي يعادل ويمتص فعل تأثير ثقافة الإرهاب على نفوس الآخرين ومشاعرهم.
تعريف مصطلح الإرهاب محور تباين ونقاش عالمي، فتعريف عصبة الأمم المتحدة يختلف عن تعريف الولايات المتحدة وتعريف الإتحاد الأوربي يختلف عن تعريف العرب لها وهكذا، ولذلك لا يوجد تعريف رسمي ومقر لهذه الكلمة في مجلس الأمم المتحدة اليوم. قد يشعر المتابع في هذا الشأن بضرورة إبدال هذه الكلمة بكلمة أخرى أكثر وضوحا تدلّ وبشكل واضح على معناها ألا وهو : قتل الأبرياء العزل وتدمير ممتلكاتهم، حتى لا تعد هذه الكلمة قابلة لتأويل وتفسيرمن هب ودب ، وحتى لا تكون عذرا للمتصيدين في الماء العكر والذين يشير بعضهم “على سبيل المثال” الى ورودها في القرآن الكريم حيث قال تعالى ” وأعدو لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم”. وهكذا يفسر المفترون هذه الآية حسب أهوائهم وميولهم. ورود كلمة ترهبون في هذه الآية لا تعني مصطلح الإرهاب المستعمل اليوم وإنما تعني تخيفون والرهبة هو الخوف والإرهاب هو التخويف وليس هناك علاقة بما جاء في هذه الآية في حث المسلمين المحاربين على تنظيم أنفسهم وتقوية شأنهم من أجل تخويف المعتدي وصده وبين قتل الأبرياء العزل!. فما علاقة هذا بذاك!؟ ثم أن مصطلح الإرهاب في المعنى السياسي قد أستعمل لأوّل مرة في عام 1795م من قبل الفرنسيين وكان يعني إرهاب المجتمع من أجل الضغط على الدولة. ولا تعني هذه الكلمة في معناها اللغوي بالضرورة قتل الأبرياء والعزل في قواميس العالم ولا في قاموس أكسفورد السياسي.
رغم شدة الهجمة الإرهابية وتأثيراتها وإنعكاساتها ومضاعفاتها على حياة الناس ومستقبلهم، إلاّ أنه من المحزن والغريب أن يشعر المرء ويحس بعدم التحمس عند الغالبية المطلقة من العرب والمسلمين في معالجة هذه الظاهرة الغريبة التي تضرب في ذات العرب والمسلمين قبل غيرهم!. فأين رجال الدين عن هذه الظاهرة!؟. هل تطرقوا الى ذلك في خطبهم وفتاويهم ؟ أين الكتاب والمثقفين عن هذا المرض الإنساني المهلك والفتاك؟. هل كتبوا الكثير عن هذه الظاهرة وحللوا أسبابها وشجبوها وكما ينبغي!؟. أين مؤسسات المجتمع المدني، التي ترفع شعارات مكافحة الآفات الإنسانية، مالذي عملته في مكافحة هذا الوباء الطاعوني الخطير؟. ثم مالذي قامت به حكومات العالم بشكل عام وحكومات الدول الإسلامية والعربية بشكل خاص؟. هل حصنّت أبناءها من هذا الداء؟ وهل طورت ثقافاتهم ووسعت مفاهيمهم ورؤاهم ؟ هل بحثت عن مسببات الخلل وعالجتها؟. على الجميع أن يفهم ويدرك بأن أمراض الفكر والعقيدة لا تعالج بعصي الشرطة أو بمتابعات رجال الأمن والمخابرات ولا بشن حرب بسوس على الإرهاب كما تعمل أمريكا بجيوشها ودباباتها الآن، إنما بالنظر الى الدواعي والأسباب ومداواتها بالتي كانت هي الداء !