بين الحين و الآخر نسمع من هذا المسؤول او ذاك ان اربيل في طريقها لتصبح مثل دبي. وهذه مفارقة مريرة تدعو الى البكاء قبل الضحك. فالقدوة سواء كان شخصاً او مكاناً او ظاهرة او تجربة حضارية يعني انها تكتسي اكبر قدر من الفضائل وتحتوي على أقل قدر من الشوائب التي يمكن تلافيها و إلا لما اصبحت قدوة تقتدى او مثالاً يحتذى. و الحال ان (دبي) مدينة من مدن الامارات العربية المتحدة المؤلفة من مجموعة من القبائل و المشايخ التي اتحدت عام 1970 بقرار بريطاني و ليس عربي وهذا ليس طعناً بل حقيقة و يقطنها نحو (1.4) مليون 80% منهم من الاجانب و ايجابيتها الوحيدة انها عائمة على احتياطي هائل من النفط. اما التنمية التي تشهدها فهي عمرانية فحسب بفعل الرأسمال الوطني و الاجنبي الهائل و المستثمر فيها، ولكن هذه المدينة ومثل قطر و البحرين وغيرها من الدول لاتتوفر فيها الحدود الدنيا من التنمية البشرية (التربية و التعليم بأصولها الحضارية و التراكم المعرفي و مراكز البحث العلمي وكل مايتعلق بتأهيل الانسان معنوياً) او التنمية الانسانية (حقوق الانسان و مساواة الرجل و المرأة و حق التعبير وكل مايمت الى الحقوق المدنية و السياسية للافراد بصلة)…
وقد تسنى لي مؤخراً زيارة قطر مرتين بدعوة من قناة الجزيرة و قطر لاتختلف عن (دبي) لجهة النسق الاجتماعي و الاقتصادي السائد فيها. وقد حدثني سائق التكسي الذي أوصلني الى مطار (الدوحة) قائلاً كل عام يموت هنا وفي دبي وغيرها من المدن عدد من العمال الاجانب من شدة الحر اللاهب دون توفر الحدود الدنيا من الضمانات. قد اكون أسهبت و أطلت ولكن سؤالي هو لماذا تصبح (دبي) وهي مدينة مؤلفة من الصفيح والاسمنت والحجر والحديد والزجاج قدوة لمدينة مثل اربيل التي تسكن عمق التاريخ وتحمل تراثاً عمره (5) آلاف سنة. لماذا لانجعل اربيل وغيرها من المدن الكوردستانية شبيهة بأية قرية (ولا أقول مدينة) ألمانية او سويدية او بريطانية؟ ان المدن تقاس الآن بما فيها من ألفة و حميمية و مرافق خدمية و ليس بما فيها من عمارات شاهقة و فنادق راقية لايستطيع اكثر من 90% بالمئة من النا س النوم فيها ليلة واحدة بسبب الغلاء الفاحش. اننا نريد اربيل مزودة بالكهرباء وهي أساس الحياة و بشبكة للصرف الصحي ومياه نقية صالحة للشرب وعشرات المكتبات و المقاهي الحديثة للشباب ودور السينما و المسرح و أماكن تسلية تنمِّي قدرات الشباب الكوردي الذين يشكلون 70% بالمائة من شعبنا ومقاهي الانترنيت التي تعتبر جسر الانسان مع الفضاء اللانهائي للعلم و المعرفة. ان اربيل تستحق ان تكون مدينة متاحف وملاعب رياضية ومطاعم رخيصة و صحف متخصصة لكل العقول ولكل الفئات العمرية ولكل مجالات الاختصاص، وهي يجب ان تصبح مدينة لكل الناس من الرجال والنساء والشباب والشابات وكل الفئات الهامشية و المحدودة الدخل، وليس مدينة للنخبة كما هي (دبي) او مدينة بلا قلب و بلا حنان مثل كل مدن الخليج العربي التي لاتفوح منها إلا رائحة البترول ممزوجة ببؤس الوافدين وهو التعبير الذي يطلق على العمال الاجانب الذين يقضون كل عمرهم هناك دون ان يحصلوا على 1% بالمئة من الحقوق التي يتمتع بها أي عامل أجنبي في أية دولة اوروبية. ان علم تخطيط المدن طرأ عليه تطور هائل وتعتبر التجربة الالمانية بعد الحرب العالمية الثانية مثالاً رائداً في هذا السياق، حيث يُنظر الى الانسان قبل الحجر وكتل الحديد والزجاج وينظر الى الشباب وذوي العاهات والاطفال وكل الفئات الهامشية قبل التعويل على مصالح وحياة النخب المترفة. لذلك نرى كل القرى والمدن الالمانية مزودة بكل مرافق الحياة وبكل الخدمات بأسعار يستطيع الوفاء بها حتى الذين يعيشون على اعانات الدائرة الاجتماعية او الذين يستلمون بدل البطالة. اربيل مدينة قادمة من التاريخ وهي تعشق الحاضر وتنظر بأمل الى المستقبل فرفقاً بها و بأملها المشروع هذا. اتمنى على اي مسؤول في اربيل ان يجيب على هذه الاسئلة قبل التطلع لجعلها مدينة شاهقة مثل دبي العامرة بالحديد البارد و المفتقرة الى أدنى درجات العواطف والمشاعر الانسانية الحارة. كم هي عدد دور العرض السينمائي في اربيل، و السينما هي الفن السابع و أحد أرقى فنون الحضارة الحالية؟ كم مكتبة عامة فيها؟ الجواب واحدة فقط؟ كم محل لبيع الصحف اليومية والمجلات؟ الجواب العدد لايتعدى (3) او (4)، كم مركز انترنيت رخيص او بسعر رمزي للشباب؟ كم عدد الشباب الذين لايستطيع توفر الحد المادي الادنى للزواج و الاستقرار؟ ولماذا أدى هذا الواقع المرير الى بروز ظاهرة ماتسمى بالعنوسة بين الفتيات و بشكل يفوق التصور؟ ما مدى الشروط الصحية التي تفرض على المطاعم في اربيل التي غدت الاكثر قذارة و الاكثر غلاء في المنطقة؟ هل فكر اتحاد عمال كوردستان ان يزور و يراقب العمال في المطاعم والفنادق ليرى حجم الحرمان والاضطهاد الذي يلاقونه من أرباب العمل دون وجود شروط حياتية او ضمانات عمل او حقوق؟. كم هي عدد الحفر والأخاديد في شوارع اربيل التي تغرق فيها السيارات اذا هطلت امطار لمدة ساعات محدودة؟ كم هي مساحة الارض الخضراء في هذه المدينة الملوثة بيئياً بفعل دخان السيارات وافرازات آلاف المولدات الكهربائية المنتشرة في المدينة؟ اذا أجبنا على هذه الاسئلة و غيرها سندرك بعد مراجعة الارقام و الحقائق و البيانات، ان اربيل ليست (دبي) و (دبي) اصلاً ليست المدينة-القدوة. ومن الافضل ان نبحث عن نموذج آخر في العالم نقتدي به. ان (دبي) احجار صماء لايعيش أهلها فيها، فهي مسكونة بالوافدين، اما اربيل فيعيش فيها نحو مليون انسان ليس لهم المال الكافي للتسكع طوال شهور السنة في شوارع لندن و جنيف و فرانكفورت وغيرها من المدن الاوروبية. اذن اربيل بأمس الحاجة الى لمسات اجتماعية انسانية حافلة برغبة تقديم كل الخدمات الحياتية وهي (بقلعتها) المهيئة ستجتاز (دبي) بمراحل اذا تعاملنا معها بحسٍ انساني عاطفي ودي يعوِّل على البشر قبل الحجر. قبل ايام اعلن مندوب احد الشركات التركية انه يبني في اربيل شقق سكنية سيكون ايجارها الشهري (3000) ثلاثة آلاف دولار. طبعاً هذا في مدينة تنتمي لثورة مازالت وقودها بالاساس المعدمون و الفقراء و الفلاحين و المثقفين الثوريين، وتنمتي لشعب ظل على مدار التاريخ يعاني التجزئة و القمع و الظلم السياسي و الاجتماعي. ألم يكن الاجدر تكليف هذه الشركة التركية ببناء آلاف القطع السكنية الرخيصة الثمن لآلاف الشباب في كوردستان و لذوي الدخل المحدود و للمناضلين الذين أحرقوا عمرهم كله في لهيب الثورة الكوردية المقدسة. ان التنمية بنسق اجتماعي مدروس هي التي تجعل المدن مزاراً للناس. دعونا اذن نتكاتف لنبني اربيل على هيئة الاحلام الفكرية لـ(گيو موكرياني) والمشاعر العابقة بربيع الحب للشاعر (عبدالله په شيو) وبقدر تصورات الشاعرة (كه ژال احمد) حول علاقة التوازن المنشودة بين الرجل و المرأة، ومثل افكار عاشق اربيل الأزلي خريج جامعة السوربون د. عبدالله حداد المسكون بحب مدينة الآلهة الأربعة. وبحجم المثقف و المهندس المعماري و الفنان والكاتب خسرو جاف الذي اتمنى ان اعثر على امثاله من الأثرياء الذين يكرسون الثروة للمزيد من العطاء الفكري و الفني و الادبي مقروناً باعمق درجات التواضع و الوعي السياسي. فالى مدينة عامرة بالاشجار قبل فنادق الـ(5) نجوم و زاخرة بالحب و العطاء و روح الشباب و آفاق الثقافة و متميزة بالخدمات الاجتماعية و الحياتية للجميع و حينها سنجد من يقول نريد (دبي) على هيئة اربيل.
شفق