فصل من كتاب منشور للكاتب عن ثورة 14 تموز الخالدة ” ثورة 14 تموز وعبدالكريم قاسم “ الفصل السابع الثورة والقضية الكردية
نبذة تاريخية
وفي نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، بدأت المشاعر القومية عند أمم الشرق بالظهور، والنضال من أجل قيام دولهم الخاصة بهم، والكرد ليسوا بإستثناء. فكانت منطقة كردستان العراق في العهد العثماني تشكل جزءً من ولاية الموصل. وبعد الحرب العالمية الأولى (1914-1918) وموت الرجل المريض (الدولة العثمانية) كان الكرد، كغيرهم من الأمم، يطمحون في أن تكون لهم دولتهم القومية الخاصة بهم. وفعلاً أقر الحلفاء لهم هذا الحق في معاهدة سيفر في 10/8/1920، ومن بين بنودها نصت على قيام دولة كردية بموجب المواد 62، 63، و64. ولكن رفض الإنكليز بعد ذلك هذا الحق، فألغيت هذه البنود وفق معاهدة لوزان في عام 1923 التي حلت محل معاهدة سيفر. وحصل ظلم فاحش بحق الكرد وتم تقسيم بلادهم، كردستان، على أربع دول محيطة بها. ومنذ ذلك التاريخ بدأت المأساة الكردية ولحد هذا اليوم.
ورداً على موقف الإنكليز هذا، قامت معركة بين الأكراد بقيادة الشيخ محمود الحفيد في السليمانية في يوم 21 أيار 1919 وحررها من الإنكليز، وقبض على الحكام السياسيين فاعتقلهم، وأعلن نفسه حاكماً عاماً. وكان رد الإنكليز عنيفاً فقضوا على حركة الشيخ محمود ونفوه إلى الهند. وألحقت كردستان الجنوبية بالدولة العراقية الحديثة عند تأسيسها عام 1921 بقرار دولي يشترط إقامة حكومة كردية داخل الحدود العراقية التي رسمت بعد إنتهاء الحرب العالمية الأولى ببضع سنوات، كما هو مثبت وأكدته وثيقة بريطانية عراقية مشتركة في 25/12/1925. ولكن الحكومات العراقية المتعاقبة لم تف بتحقيق الحكم الذاتي الحقيقي.
على إن الحركة الكردية استمرت في نضالها والمطالبة بتحقيق الحقوق القومية المشروعة للشعب الكردي ضمن الوحدة العراقية. ففي الأربعينات قامت ثورة البارزانيين بقيادة الزعيم الكردي الملا مصطفى البارزاني، وتم القضاء عليها ونفي القائمون بها إلى الإتحاد السوفيتي ولم يعودوا إلى العراق إلا بعد ثورة 14 تموز 1958.
موقف الثورة من القومية الكردية
وساهم الضباط الأكراد في تنظيمات الضباط الأحرار التي هيأت للثورة وساهموا في حمايتها.
وقد نص الدستور المؤقت للثورة في المادة الثالثة منه على أن “العرب والأكراد شركاء في هذا الوطن ويقر هذا الدستور حقوقهم القومية ضمن الوحدة العراقية” وهي خطوة لم تكن موجودة في القانون الأساسي (الدستور في العهد الملكي) الذي ألغي في 14 تموز 1958.
وعند اندلاع الثورة صبيحة 14 تموز 1958، ضم مجلس السيادة، من بين أعضائه الثلاثة، عضواً كردياً وهو العقيد خالد النقشبندي، كما مثل الأكراد وزير واحد وهو بابا علي الشيخ محمود الحفيد، من أصل عشرة وزراء تضمهم الوزارة الأولى للثورة وتم تعيين ضابط كردي المقدم عبدالفتاح الشالي عضواً في المحكمة العسكرية العليا الخاصة.
لقد أحدثت الثورة زلزالاً قوياً في إيقاظ الشعور القومي الكردي بعد كل ذلك الكبت والقهر والإستلاب عبر قرون. وأصدرت الثورة قراراً بالعفو العام عن البارزانيين ودعتهم للعودة إلى وطنهم وذلك في 3 أيلول 1958. وفي 5 تشرين الأول /أكتوبر 1958 عاد الملا مصطفى البارزاني ومعه شقيقه الشيخ أحمد البارزاني وأولاده وعائلته، وخصصت لهم الحكومة العراقية بيت نوري سعيد في الصالحية للسكن فيه. كما خصصت له سيارة عبد الإله لتنقله، وصرفت لهم رواتب سخية فكان الملا مصطفى يتقاضى راتباً قدره 500 دينار والشيخ أحمد 150 دينار. كما وخصصت حكومة الثورة رواتب لكل بارزاني قادم من هناك تتراوح بين 30 ديناراً إلى 150 ديناراَ.
تظاهرة بَحرية في شط العرب
وفي المساء رست الباخرة في ميناء البصرة وقد استقبلتهم جماهير غفيرة من المواطنين وعلى رأسها الملا مصطفى البارزاني وحمزة سلمان عبد الله من المكتب السياسي للحزب الديمقراطي الكردستاني. كما كان على رأس المستقبلين أيضاً وفد من حكومة الثورة يضم مدير شرطة بغداد وضباط آخرون.
العلاقة بين الثورة والحركة الكردية
ويمكن التعبير عن هذا التلاحم بين الشعبين العربي والكردي والوحدة الوطنية في الأغنية الجميلة التي نظمها الشاعر الكردي الخالد زاهد محمد زهدي: (هربجي كرد عرب رمز النضال) والتي يقول فيها:
من تهب انسام عذبة من الشمال
عَ الضفاف الهور تتفتح اقلوب
ولو عزف عَ الناي راعي بالجبال
عَ الربابة يجاوبه راعي الجنوب
وقد غناها المطرب الراحل أحمد الخليل وهو كردي أيضاً. وراحت هذه الأغنية تتردد على كل لسان من أبناء الشعب العراقي.
بداية التوتر
ويقول الدكتور محمود عثمان (أحد قياديي الحزب الديمقراطي الكردستاني آنذاك) بهذا الصدد: ” كما إن القوى الأجنبية التي كانت ضد الثورة التي قضت على بعض مصالحها في العراق، حاولت توسيع الثغرات في العلاقة بين الحكم والقيادة الكردية وخلق المزيد من الخصومات بينها، وهكذا تفاقم الوضع بسرعة واتخذت السلطة إجراءات ضد الجانب الكردي فخلقت ردود فعل واسعة على الصعيد الكردي، حيث أن الشعب الكردي كان يريد الحفاظ على وجوده ومكاسبه ومستعداً لدفع الثمن.”.
ويضيف الدكتور عثمان: ” لقد لعب الشعور القومي المتصاعد في كردستان دوراً هاماً في الرد على سياسة السلطة وإجراءاتها، بإجراءات كانت في بعض الأحيان غير مدروسة بدقة، الأمر الذي صعَّد التوتر بشكل خطير. كذلك فإن جهوداً أخرى كردية إضافية لم تنجح في إبعاد القتال بين الطرفين. ومن أهم هذه الجهود إرسال وفد كردي كبير ومسئول إلى بغداد لعرض المطالب الإدارية والثقافية التي كانت في إطار القرارات الإيجابية لثورة تموز نفسها. إلا إن الوضع كان متأزماً لدرجة أن عبد الكريم قاسم لم يقابل الوفد كما لم تسفر جهود بعض الجهات الصديقة للطرفين كالإتحاد السوفيتي وغيرهم عن نتائج إيجابية
… وهكذا أدى التصعيد في الوضع إلى الإقتتال المؤسف بين الطرفين والذي كان له دور في إضعاف الثورة وتهيئة الأرضية للمزيد من التآمر لإسقاطها، إضافة إلى أضراره البالغة بالكرد وبكردستان وبالعلاقات العربية-الكردية والوضع في العراق بشكل عام.”الصدام المسلح
غير إن الزعيم عبد الكريم قاسم رفض ما جاء في المذكرة، لأنه كان محاطاً بعدد من الشوفينيين الذين كانوا يخططون للوقيعة بين الطرفين كما ظهر فيما بعد. فاستمرت الحشود العسكرية في المناطق الشمالية للقضاء على أعمال الشغب التي قامت بها بعض العناصر المسلحة من الإقطاعيين والأغوات الأكراد الذين هربوا بعد قيام ثورة 14 تموز 1958 وإصدار قانون الإصلاح الزراعي إلى إيران، ضد مراكز الحكومة في الأقضية والنواحي الشمالية من القطر، ومن بين هؤلاء حسين أغا المنكوري وعباس مامند، واحتل آخرون سد دربند خان مما حدا بالحكومة إلى تسليح بعض القبائل الموالية لها وأمرها بالزحف على الأغوات المتمردين وعلى مقاطعة برزان أيضاً.
وقد حذر الحزب الشيوعي العراقي من تدهور الوضع بين حكومة الثورة والحركة الكردية وقد جاء في بيان الحزب الصادر في 22 آب 1961 “حول الوضع الراهن في كردستان” مؤكداً على النضال لتسوية الوضع المتأزم في كردستان بضرب نشاط عملاء الإستعمار وحلف السنتو في المناطق المتاخمة للحدود الإيرانية وبالوقوف ضد أي صدام بين القوات الحكومية المسلحة والمواطنين البارزانيين..” كما جاء في تقرير اللجنة المركزية للحزب الشيوعي في تشرين الأول 1961 ” أن حزبنا وقف موقف الحذر واليقظة من الأحداث التي وقعت في كردستان وكان يراقبها عن كثب ولقد نبه حزبنا منذ مدة طويلة إلى تفاقم النشاط الإستعماري الرجعي في كردستان، إذ استغل العملاء والإقطاعيون سوء الأوضاع الإقتصادية والسياسية المعادية للديمقراطية… ” ويضيف البيان ” ولكن الحكم الفردي لم يصغ إلى هذه النصيحة بل تمادى في سياسته فأوغل فيها.. ونبه (الحزب) القوميين الأكراد إليها وطلب منهم أن يتحاشوا الإنجرار وراء الإستفزازات وأن يفضحوا نشاط العملاء المشبوهين الذين يحاولون إستغلال سوء الأوضاع والتقرب إليهم، وأن يلتزموا الحكمة وعدم التورط في أعمال إنعزالية مغامرة يائسة. وقد أظهرت الحوادث أن القوميين الأكراد لم يصغوا إلى نصائحنا وكانوا نشيطين في كسب أي أغا مهما كان مريباً أو مفضوحاً كعميل لمجرد مساهمته أو رغبته بالمساهمة في حركتهم” ومضى التقرير يقول: “إن اشتراك عملاء الأمريكان والإنكليز في الحوادث الأخيرة في كردستان في ظروفنا الراهنة إضعاف للإستقلال الوطني أولاً بتصدع الوحدة بين الشعبين وثانياً بخلق استياء لدى الشعب الكردي جراء موقف الحكومة منه مما يمكن إستغلاله من قبل الإستعماريين في الوقت المناسب” وقد طالب التقرير بتحقيق مطالب الشعب الكردي.
ومن جانبه، اتهم الزعيم عبد الكريم قاسم في مؤتمره الصحفي الذي عقده في مبنى وزارة الدفاع بتاريخ 23 أيلول 1961، الشركات النفطية الإحتكارية بتحريض الإقطاعيين الأكراد على التمرد ليمارسوا ضغطاً على العراق في مجالين:
مفاوضات النفط (التي كانت جارية آنذاك).
مطالبة العراق بالكويت والإنزال البريطاني فيها.
وقال أيضاً: “لقد صرفت السفارة البريطانية ما يقارب نصف مليون دينار على هذه الأعمال العدوانية الخبيثة التي لفت الرجعية وقطاع الطرق والسراق والإنتهازيين وعملاء الإستعمار”
ويذكر السفير البريطاني في بغداد (همفري ترفليان) بأنه قام بجولة في جبال العراق اجتمع خلالها بالشيوخ الأكراد. إلا إنه لم يذكر دعمه المالي لهؤلاء الشيوخ.
كما وأكد الحزب الشيوعي العراقي في بيانه المشار إليه أعلاه بتاريخ 22 آب 1961 (حول الوضع الراهن في كردستان) دور أمريكا بالإضافة إلى دور السفير البريطاني جاء فيه: “.. في الفترة بين 20-23 تموز 1961، اجتمع السفير الإمريكي في إيران (هولمز) وبمساعدة الملحقين العسكريين الإمريكان وقنصل أمريكا في مدينة رضائية الإيرانية- بعد أن نظموا سفرات في المناطق الكردية من إيران واتصلوا ببعض الشيوخ والأغوات- وفي نفس الوقت قام رئيس الإستخبارات الإيرانية ببعض السفرات المريبة في المناطق الكردية من إيران. وكانت باكورة النشاط التآمري الإمريكي على الجمهورية العراقية إرسال علي حسين أغا المنكوري على رأس عصابة مسلحة بالأسلحة الإمريكية بإشراف مبعوثين أمريكيين والسلطات الإيرانية، وقد اجتاز الحدود العراقية ليفرض سيطرة عصابته المسلحة على ناحية ناودشت ويعتقل بعض موظفيها”
من الواضح أن الزعيم عبدالكريم قاسم كان في اقتتاله مع الحركة الكردية متألماً ومرغماً، وفي أغلب الأحوال كان في حالة الدفاع، على العكس من الحكومات القومية التي جاءت بعده والتي كانت تحارب الكرد كأعداء حقيقيين. إذ يقول المرحوم عبداللطيف الشواف، وزير التجارة في حكحومة عبدالكريم قاسم في هذا الخصوص: [ لقد سمعت من صديق أثق بخلقه وكفائته أنه لما نشب الخلاف بين المرحوم الملا مصطفى البرزاني وعبدالكريم قاسم في الستينات وسرعان ما وصل إلى مواجهات عسكرية خطيرة في شمال العراق – حاول الشاه استغلال الوضع للحصول على مكاسب سياسية فعرض سراً – على عبدالكريم بواسطة الملحق العسكري الإيراني في بغداد – التعاون للقضاء على الثورة الكردية، فجوبه برفض المرحوم عبدالكريم قاسم وقوله له: “بأنه لا يتآمر ضد أبناء شعبه – يقصد الملا مصطفى والثورة الكردية” – إن الذي روى لي هذه الرواية هو الزعيم عبدالله العمري (صديق عبدالكريم وصديق الحزب الوطني الديمقراطي وعميد كلية الأركان في عهد المرحوم عبدالكريم)].
أهداف الإقتتال
1-إرباك الوضع الداخلي وإضعاف حكومة عبدالكريم قاسم في المفاوضات النفطية التي كانت جارية آنذاك، والضغط عليه بغية دفعه للإستسلام والتراجع عن المطالب العراقية المشروعة في هذه المفاوضات.
2-الضغط على عبدالكريم قاسم لسحب ادعاءاته بالكويت التي هي مركز النفط في الشرق الأوسط والذي تسيطر عليه الشركات البريطانية والأمريكية.
3-إعاقة تطبيق قانون الإصلاح الزراعي في شمال العراق، لأنه أدى إلى تضرر الأغوات والإقطاعين كما إنه يؤدي إلى ضغط الفلاحين في إيران على حكومتهم من أجل سن قانون مماثل للإصلاح الزراعي.
الجهات الدافعة للقتال
تحالف الحركة الكردية مع الجبهة القومية العربية
وقد سادت في شتاء 1962-1963 فترة هدوء نسبي بين الجانبين، بل وفي غضون ذلك أصدر عبد الكريم قاسم أوامره بوقف الهجمات على الأكراد ووجه إنذاراً يدعو فيه المتمردين إلى الإستسلام واعداً بالعفو حتى أيلول من آذار 1963، ولكن حدوث إنقلاب شباط 1963 أدى إلى وقف الحرب في الشمال مؤقتاً لإتفاق سابق بين الأكراد والجبهة القومية يقضي بوقف القتال في حالة قيام حركة شعبية ضد عبد الكريم قاسم…”
فقد نجح علي صالح السعدي (زعيم حزب البعث آنذاك) قبيل ثورة رمضان بعقد أول لقاء “رسمي” بينه وبين صالح اليوسفي، حيث اتفقا على بعض الأمور. وقد أبلغ اليوسفي الملا مصطفى البرزاني بوعده الأخير بأن سيكون أول المؤيدين إذا ما تمكن البعث من إسقاط عبد الكريم قاسم، وسيتم وقف إطلاق النار المتبادل بين الجيش العراقي وقوات البشمركة الأكراد.
*- وعندما وقع اإنقلاب 8 شباط 1963، أرسل البارتي إلى مجلس الثورة برقية نصها ” إن ضربات الشعب الكردي تلاحمت بالثورة المجيدة على العدو اللدود للقوميتين الشقيقتين العربية والكردية وبقية الشعب العراقي على الجلاد الأوحد لشعبنا الكردي المسلم وعلى أوكار الخيانة الملطخة بعار دماء شهداء الشعب وقواته المسلحة وكوارثهم وويلاتهم”. التوقيع: صالح اليوسفي، فؤاد عارف (مستقل).
ومن الجدير بالذكر أن صحيفة (نداء الكرد) اللندنية أجرت مؤخراً مقابلة مع الأستاذ حبيب محمد كريم، سكرتير الحزب الديمقراطي الكردستاني آنذاك، ولما سُئِل عن برقية اليوسفي وعارف إلى الإنقلابيين أجاب قائلاً: “أن برقية التأييد التي أرسلها إلى القيادة الجديدة كل من المرحوم الأستاذ صالح اليوسفي والأستاذ فؤاد عارف لم تكن موضع إرتياح لدى البارزاني الخالد الذي وصف مرسليها بالتسرع الذي لم يكن له أي مبرر ودون أخذ رأيه مسبقاً ولم يبادر إلى تكذيبها أو نفيها دفعاً للإحراج لأن البارزاني كان يعتبر قيادة البعث عملاء للغرب وكان هناك نوع من التنسيق بين البارزاني وبينهم في حينه مع ملاحظة أنه لم يتم الإتفاق مع البعثيين على أي شيء وسرعان ما تم إستئناف القتال معهم بعد بضعة شهور من المفاوضات غير المجدية.”
وكان سلام عادل قبل مقتله بأيام قد كتب رسالة يقول فيها: “إن القوميين الأكراد حاربوا قاسم بصورة عمياء، طالبوا العون والمساعدة من أية جهة لإسقاط قاسم، وغازلوا القوميين العرب اليمينيين وتعاونوا معهم، وتصوروا بأن إنقلاب 8 شباط 1963 كما لو كان إنتصاراً لهم، إن هذه السياسة تنم عن ضيق الأفق القومي وقصر النظر البرجوازي، إنهم يجابهون الآن عدواً أشرس من قاسم. إن مطامح الشعب الكردي تتعارض مع أهداف الإنقلاب على خط مستقيم تماماً “. وكانت جريدة نيويورك تايمز قد نشرت مقالاً بقلم دانا شميدت يقول فيها ” إن الملا مصطفى البرزاني زعيم الثورة في جبال المنطقة الشمالية يطلب الآن المساعدة الإمريكية بإلحاح وإصرار، وهو يعرض لقاء ذلك الإطاحة برئيس الوزراء العراقي اللواء قاسم ويتحول العراق إلى أقوى حليف للغرب في الشرق الأوسط” ، وقال إن الحكومة الإمريكية أجرت في نهاية 1962 مفاوضات سرية مع الحكومة الإيرانية لحملها تأييد حركة التمرد ومساعدة المتمردين بالأسلحة” وكان ذلك قد تزامن مع تصاعد المعركة بين قاسم وشركات النفط حول قانون رقم (80).
ومن نافلة القول أن حكومة إنقلاب 8 شباط 1963 لم تكن جادة في وعودها مع قيادة الحركة الكردية إذ كانت قد بيتت لها حلاً عسكرياً شرساً كما تبيَّن فيما بعد. ولم يدم شهر العسل بين الطرفين طويلاً، ولا يبدو أن الحكومة كانت تأمن جانب الأكراد، كما إن الحركة الكردية آوت في الجبال الشيوعيين الفارين من جحيم المطاردات عقب الإنقلاب المذكور.
فبعد الإنقلاب مباشرة وتبادل برقيات التهنئة، أرسل البارتي وفداً إلى بغداد للبدء بالمفاوضات. ومن أول جولة تبين مدى البون الشاسع بينهما. فرفض وفد البعث المفاوض المطالب الكردية رغم بساطتها وشرعيتها فافترقا. وبينما كان أعضاء الوفد الكردي في طريق العودة إلى السليمانية ألقي القبض عليهم في كركوك وأودعوا رهن الإعتقال لأن حكومة البعث قد قررت حسم الموقف عسكرياً سلفاً.
فكان من رأي العسكر أن يشن الجيش عملية واسعة ضد الأكراد، هدفها إحراز النصر التام كي يستعيد الجيش معنوياته المفقودة، ورأوا أن إنجاز النصر مهمة قابلة للتحقيق في فترة وجيزة جداً، واحتجوا بأن عبد الكريم قاسم لم يكن يقاتل الأكراد بجدية.
وكان أبشع العمليات العسكرية الحاقدة التي شنها الجيش أيام حكم البعث الأول ما يسميه الأكراد “باليوم الأسود” وهو يوم 6 حزيران 1963 حيث قام العميد صديق مصطفى بمجزرة ضد المدنيين العزل في مدينة السليمانية راح ضحيتها أكثر من أربعمائة من الأبرياء العزل من سكان المدينة.
الدرس البليغ
لقد أثبتت التجارب المريرة التي عاشها الشعب العراقي بجميع مكوناته أن الكفاح المسلح ليس الحل الأوحد، بل الحل الأسوأ. وكما قال الدكتور محمود عثمان بحق: “إن هناك وسائل وطرقاً كثيرة بديلة عن الصراع المسلح وكان يمكن طرقها للوصول إلى حلول وسلام كردي عربي وطيد في العراق. وكان يمكن تطوير الفكرة التي وردت في المادة الثالثة من الدستور العراقي المؤقت الذي أعلنته حكومة عبدالكريم قاسم عام 1958 “إن العراق يتكون من الشراكة العربية الكردية” وهذا مبدأ كان يمكن تطويره بالحوار الطويل الصبور والمفاوضات وإرادة السلام.”
لقد آن الأوان أن يعيد العقلاء من السياسيين العراقيين، ومن كافة مكونات الشعب العراقي، النظر في سياساتهم ويركنوا إلى التفاهم والحكمة والصبر والديمقراطية وحق تقرير المصير، السبيل الوحيد والأسلم ليجنبوا البلاد من ويلات أخرى وليعيش الجميع بسلام ورفاه وتحقيق العدالة والتآخي والمساواة في عراق ديمقراطي فيدرالي، وطن القوميات المتآخية.
المصادر
-د.ليث عبدالحسن الزبيدي، نفس المصدر ص 288 عن إدمون غريب، الحركة القومية الكردية، دار النهار للنشر، بيروت، 1973، ص28-29.
-ليث عبدالحسن الزبيدي نفس المصدر ص288 عن صحيفة إتحاد الشعب، العدد 71، 20 نيسان 1959.
-د. محمود عثمان، محاضرة ألقاها في ندوة الذكرى 42 لثورة 14 تموز في لندن مساء 15 /7/2000.
-د. ليث عبدالحسن الزبيدي، نفس المصدر، ص 289-292.
– د.ليث عبدالحسن الزبيدي، نفس المصدر، ص 295-297.
– د.ليث عبدالحسن الزبيدي، نفس المصدر، ص 300.
–
عبداللطيف الشواف، كتاب: عبدالكريم قاسم وعراقيون آخرون، دار الوراق، ط1، سنة 2004، لندن، ص 94.– د.ليث عبدالحسن الزبيدي، نفس المصدر، ص 299-300.
-د.ليث عبدالحسن الزبيدي، نفس المصدر، ص 299 .
-د.علي كريم سعيد، عراق 8 شباط 1963، ص 262.
-د.ليث عبدالحسن الزبيدي، المصدر السابق، مقابلة شخصية مع الأستاذ صديق محمد شنشل بتارخ 5-4-1976 ص293 .
-د.علي كريم سعيد، نفس المصدر، ص248.
-د. علي كريم سعيد، نفس المصدر،ص 250.
-صحيفة نداء الكرد، لندن، العدد الخامس، شباط 2002.
-علي كريم سعيد، عراق 8 شباط، ص 250.، نقلاً كتاب خليل إبراهيم حسين، موسوعة 14 تموز، عبد الكريم قاسم، السقوط، ص192.
-د.علي كريم سعيد،المصدر السابق، ص 256.
–
مسعود البارزاني، زعيم الحزب الديمقراطي الكردستاني، فصل عن ثورة 14 تموز 1958، من كتاب: البارزاني والحركة التحررية الكردية.-د.علي كريم سعيد، المصدر السابق، ص 263