التاريخ الإنساني يصنعه العظماء، خصوصا اولئك الذين يمزجون حبر المعرفة وعرق الجبين بدم الشهادة في سبيل الحق والحرية ليصنعوا منه اكسير المجد والخلود.
ان الدين الاسلامي الحنيف هو المتميز دائما وابدا في تكريم واجلال الذين ضحّوا بانفسهم من اجل حياة فيها كرامة وعز وازدهار.. باعتبارهم النموذج الاصدق في التفاني والايثار والبعد عن مغريات الدنيا ولهوها ورياءها.
ويرتب الاسلام الناس في مراتب حسب عملهم وعلمهم وتقواهم والادوار التي يقومون بها، ويوجب لصاحب الدور المتميز في التضحية وعمل الصالحات حقوقا على غيره من الناس فيأمرهم باحترامه والاقتداء بعمله الصالح، وبمقدار ما يتقدم في هذه الادوار يؤمر غيره بتكريمه، ولذلك يوجه الاسلام الحنيف اتباعه الى الدرجات التي يستطيعون بواسطتها ان يسلكوا سبل التكامل.
وفي هذا المجال فان منزلة الشهيد منزلة خاصة تكتسب اهميتها من انه قد ترك وبرضاه كل شئ، واهمه حياته في سبيل رضا بارئه وخالقه، لذلك فانه يستحق كل تكريم واجلال واقتداء. لأن عمل البر الذي قام به يعتبر فوق كل بر، كما قال رسول الله(ص): فوق كل بر بر حتى يقتل الرجل في سبيل الله فاذا قتل في سبيل الله فليس فوقه بر، وكما قال الامام جعفر الصادق(ع): من قتل في سبيل الله لم يعرفّه الله شيئا من سيئاته.
ان الامم والمجتمعات الحيّة والفاعلة في العالم لا تصبح كذلك إلا بعد اهتمامها الكبير برموزها السالفة والآنفة، ونقطة الانطلاقة لدى هذه المجتمعات هي الاهتمام بتاريخها الايجابي وفي قمته (الشهداء)، ذلك انها اذ تكرم الشهداء وتعظم قدرهم انما تكرم نفسها وتكرم القيم المثالية في المجتمع، لان الشهداء هم ضحية الهم الاجتماعي الذي يرتبط بكل الناس.
وفي الوقت الذي تنتهي فيه الامم التي تشجع الهموم الفردية والمصالح الخاصة الى التفكك والتشرذم، فان المجتمعات التي تهتم بتاريخ التضحية الخاص بها تكون اكثر قابلية للتقدم والتماسك.
ولهذا السبب نجد اهتمام المجتمعات الحية بأبطالها الماضين حيث يدخلون ضمير الشعب كشعلة امل متقدة على الدوام، ونجد شخوصهم معبرا عنها في كل المفاصل التعليمية والحياتية اليومية.
ومن هذا المنطلق فان الشهداء يصبحون مدرسة تربوية نافعة لتخريج مجاميع جديدة من المناضلين والمجاهدين. الذين تصبح سواعدهم أداة ايجابية في البناء والتنمية والنهضة.
وخير مثال على ذلك مسيرة الدم المستمرة بعد شهادة الامام الحسين(ع)، حيث بعد ان مضى الامام شهيدا قامت العقيلة زينب عليها السلام بتخليد ذكره واحياء أمره ونتج عن ذلك الاحياء ثورات وثورات وشهداء، وتراكمت وتكثفت حتى أنهت الوجود الأموي البغيض.
ان شهداء الامة عنوانها الوضح، وهويتها الشخصية، ولذلك لابد من الحفاظ على هذا العنوان واحترام تلك الهوية والحرص عليها من الاندثار والاهمال، ونحن ان اردنا لعراقنا الجريح ان لا يضيع في زحمة المؤامرات والارهاب والاحتلال والاجندات الدولية فعلينا ان نحافظ بقوة وعزم على هويتنا المعرّفة بدم الشهادة.
لقد حمل احفاد رسول الله(ص) من المراجع الكرام والعلماء الأفاضل والمؤمنين المخلصين لواء الثورة ضد الاستبداد والطغيان على مر التاريخ ليؤكدوا بذلك على استمرار حملات الجهاد ضد الباطل بكافة اشكاله.
ومن بين اولئك العظماء الذين نشروا العلم، وحاربوا الشرك، وجاهدوا الدكتاتورية والاستبداد طوال النصف الثاني من القرن الماضي الشهيد آية الله السيد حسن الشيرازي (رحمه الله)، الذي نبحر هذه الايام في سفينته المعنونة بالزهد والتقوى وحسن العاقبة مخلدين ذكرى وفاته الاليمة.
ليس من المفارقة ان يصاغ الشهيد الشيرازي بقالب العلم والاجتهاد والنضال في آن واحد، كونه ترعرع في ظل (البيت الشيرازي) الذي عرفت عنه جميع انظمة الحكم المتناقضة حمله لراية المعارضة وقيادته لرواد الفكر الاسلامي المنسجم مع حياة اسلامية تتناغم مع الواقع المعاش في اطار القيادة المرجعية الرشيدة.
فمن جانب التاريخ الجهادي حمل المجدد الشيرازي(قدس سره) لواء الكفاح منذ الاحتلال البريطاني للعراق بداية القرن الماضي، وابلى بلاء حسنا في قصة التنباك المعروفة، كما ان الميرزا اية الله العظمى الامام الشيخ محمد تقي الشيرازي قاد ثورة عارمة ضد الوجود الانكليزي في العراق بشراكة كافة الطوائف الاسلامية المعارضة في (ثورة العشرين) التي انتهت الى طرد الانكليز وانهاء احتلالهم للعراق.
من هذه الاسرة الفاضلة انحدر الشهيد السعيد اية الله السيد حسن الشيرازي، اذ ولد عام 1937م، ليكمل مسيرة العلم والجهاد والدرس على ايدي كبار علماء العراق، وانعكس هذا العلم مع نبوغه السريع مكونا خزينا فكريا قادرا على استنباط الاحكام الشرعية من الاصول الفقهية، فوصل الى درجة الاجتهاد، ووضع تعليقاته في شرح العروة الوثقى، ودرّس البحث الخارج في الحوزة الزينبية التي اسسها الشهيد في سوريا بجوار مرقد السيدة زينب (ع).
واضاف الى هذا العلم الحوزوي نفحات من اللوازم الهامة التي يحتاج اليها المفكر الثائر من اجل تزريق الجماهير المتعطشة بفكر اسلامي يواكب العصر الذي يعيشونه ويتفاعلون معه، ومن هنا نرى توجهه الى تكوين صيغة للادب الاسلامي الذي اندثر في غمار الادب الفارغ من الافكار الاسلامية الاصيلة، ولاضفاء بيان جميل يعطي مظهر الافكار الاسلامية رونقا وجمالا، ومن خطواته المشهودة في هذا المجال تاليف كتابي، العمل الادبي، والادب الموجه، اذ شرح فيهما صفات الادب الاسلامي الرصين، ليكون بذلك عميد الادب العربي الحديث في تلك الفترة.
ان العظمة التي وصل اليها شهيدنا السعيد لا تقتصر على مكانته العلمية الراقية بقدر ما هي راجعة في قسمها الاكبر الى الجهاد الذي مزجه مع النبوغ العلمي، خصوصا وانه اعتمد ازاء الوضع داخل العراق في ذلك الحين لوازم اساسية اسس عليها سائر خطواته الفكرية والسياسية والجماهيرية.. راسما بذلك الصورة البيضاء لرجل الدين المجاهد الذي لم يعكف على الاهتمام بالامور التقليدية فحسب بل قاده طموحه العالي الى دخول ساحة الصراع مع الباطل كرقم قوي يتمكن من ترجيح ميزان الكفة الاسلامية ضد الوجوه العميلة التي ظلت تتوالى على حكم العراق.
ان فضيلة الشهيد السيد حسن الشيرازي التي تقرأ في ابيات شعره الكاشفة عن نفسيته العالية وروحه الجهادية أو كتبه التي تعكس صفاء فكره وخلوص نيته وسلامة خطه المنبثق من روايات اهل البيت عليهم السلام.. هذه الفضيلة تضاف عليها روح الوحدة وجمع الاطراف، فقد كان عمله مركزا من اجل تكوين جبهة اسلامية عريضة للتصدي للديكتاتورية المتسلطة.. تجمع كافة التوجهات والشخصيات السياسية والعسكرية والدينية والعشائرية، فقد كان رحمه الله ذو جهاد ثوري مرتبط وثيقا مع جهاد آخيه الامام الراحل السيد محمد الحسيني الشيرازي.
من هنا كانت خطوة الشهيد السيد حسن الشيرازي لتكوين هذه الجبهة خطوة متقدمة نحو الانتصار، لاسيما وان شرارة الرفض اذا شملت كافة الشرائح الاجتماعية فان قوات النظام لا يمكن ان تقف امام طوفان المد الشعبي المتنامي.
الاعتقال والهجرة والشهادة
ولما كانت الانظمة الشمولية وخصوصا الحكم البعثي الديكتاتوري في العراق، خائفة على عروشها من جهاد الثوار والمؤمنين، استمرت بالسعي الدؤوب لإعتقال هؤلاء الثوار والمجاهدين، وحبسهم من اجل منع التفاعل مع التموجات الجماهيرية الغاضبة بالاضافة الى محاولة التاثير النفسي على المعتقلين.. ليكون ذلك بداية تراجعهم عن العمل السياسي والثوري المعارض، وعندما ضاق حزب البعث البائد ذرعا باعمال السيد الشهيد الشيرازي لم يجد وسيلة اجدى من اعتقاله لتوقيفه عن نشاطاته السياسية والاعلامية المكثفة ضد النظام البائد، ولهذا فقد اقدم النظام على تنفيذ هذه الخطوة الجبانة حين اعتقل السيد الشهيد في اوائل ربيع اول عام 1389هجري، نقل على اثرها فورا لمركز التعذيب القاسي في قصر النهاية المعروف..
ولاقى الشهيد ألماً تعرض خلاله لـ44 نوع من انواع التعذيب البشع في سجون البعث الرهيبة، وسطر مجلداً خالدا باستقامته وصموده وعدم اعترافه على قائمة كانت تظم 300 شخصية اسلامية كان النظام ينوي اعتقالهم والتنكيل بهم وقتلهم.
وبعد ثلاث شهور من السجن والتعذيب نقل الشهيد الشيرازي الى المستشفى العسكري ببغداد، ومنه الى سجن بعقوبة حيث تحسنت حالته الصحية قليلا وسمح النظام البائد لأهله بزيارته والاطمئنان عليه، ومن المفارقة هنا ان والدة الشهيد لم تعرف وجهه على اثر السجن والتعذيب بل عرفته من نبرات صوته وشكله، ولما اطلق سراح السيد الشهيد فيما بعد عاد الى كربلاء التي كانت على موعد معه لتزف اليه تهاني الصمود والانتصار.
بعد تلك التجربة المريرة مع البعث البائد فكر الشهيد بطريقة اخرى يكمل بها مسيرته الثورية والجهادية، فكانت فكرة الهجرة الجهادية الى خارج العراق والتي اعطت بعدا اقليميا وعالميا اوسع للحركة الاسلامية الثورية ضد البعث.