بعد هذه السنوات الاربع المليئة بالهدم والقتل التي تلت إنهيار حكم العبث والدمار، فقد إتضحت ماهية القوى التي تقف وراء هذه الافعال الشريرة. كما اتضحت أكثر فأكثر أهدافها و مساعيها. إنها ليست بمقاومة حريصة على سيادة العراق كما تدعي ولا تهدف الى إخراج العراقيين من البؤس الذي عانوه خلال عقود عجاف طغت عليهم. لقد أصبح من الواضح وبإعتراف من ينفذ “برنامج الفوضى والقتل” إن هذه “المقاومة” ما هي الا تنظيمات تسعى لبث الفوضى والتطرف، والتي تغذيها منظمة القاعدة الارهابية الدولية وعملائها من العراقيين إضافة الى حلفاء لها من فلول العهد المباد وشلل من أنصار العبث والفوضى في البلاد وفلول الجريمة المنظمة وأوساط مخابراتية إقليمية وتجار الإرهاب. فإذا كان لدى البعض من العراقيين بعد إنهيار الديكتاتورية أوهام عن مسببي الهدم والموت في البلاد، فإن الصورة غدت واضحة ولا تقبل التأويل الا لمن أصيبوا بعمى الألوان أو من المغرضين الذين يضعون مسؤولية هذه الأحداث على قوى وجهات أخرى.
إن لدى الأطراف التي تقف وراء تأجيج العنف والقتل والدمار هدف واحد هو إشاعة عدم الإستقرار والفوضى وبث الرعب بين العراقيين، على الرغم من الدعوات المتباينة بل وحتى المتناقضة لهذه التنظيمات الضالعة في هذا العبث المدمر. فإن ما يجمعهما هو هدف واحد هو العبث والفوضى لتحقيق برامج فوضوية. فالارهاب الدولي يسعى الى إقامة دولته الإسلامية على شاكلة دولة ملا عمر في أفغانستان والتي لا تعني الا أمر واحد هو إشاعة الظلامية والركود بشكل لم تشهده شعوبنا في كل تاريخها الملئ بالمتناقضات. أما فلول النظام السابق فإن حلم العودة هو ما يدفعهم الى زرع الفوضى في البلاد كوسيلة كي يترحم الناس على “أمنهم” السابق والعودة من جديد الى دوامة القهر والعسف. ويلتقي هذا الطرفان وفلول الجرية المنظمة ميدانياً بحكم تطابق المصالح وينسقون جهودهم من أجل فر ض الفوضى على العراق ومنع الاستقرار فيه.
إن الأسلوب الأجرامي في تفجير المراقد المقدسة والجوامع والكنائس ودور العبادة الأخرى ليس هو بالجديد سواء في تاريخنا الغابر أو الحديث. ففي بداية القرن السابق كانت هجمات أسلاف هؤلاء الارهابيين التكفيريين والوهابيين ينتهزون الفرصة بين الحين والآخر لشن غاراتهم من الأراضي السعودية ليقوموا بتدمير الأضرحة في النجف وكربلاء ونهب الممتلكات والكنوز الثمينة وحرق المكتبات وقتل أبناء هاتين المدينتين. ولم تنفذ هذه الإعتداءات على الاضرحة ومقامات الأولياء لأنها قواعد للقوات المتعددة الجنسيات ولا للجيش العراقي والشرطة الوطنية، ولا لكون منائر هذه المقامات هي رادارات معادية أو مركز لأجهزة الإنصات أو محطات لرصد الأقمار الصناعية. كلا وألف كلا، فإن هذا الأسلوب الهمجي هو جزأ لا يتجزأ من تراثهم الثقافي قديم قدم الإسلام وبدايته، والذي يمكن لأي مراقب أن يطلع عليه سواء في نشراتهم أو بشكل صريح على ما ينشر على مواقع المتطرفيين والارهابيين والتكفيريين.
ضريح الإمامين الهادي والعسكري في سامراء بعد جريمة التفجير
تفجير مرقد الشيخ عبد القادر الگيلاني في بغداد
ولنا في هذا السلوك الشائن أمثلة حية يومية تقع في غالبية المدن الباكستانية حيث يتم حرق ونسف المساجد من قبل إمتدادات هذه الزمر الإرهابية، والتي لها مواقع هامة في المدن الباكستانية او على الحدود الافغانية الباكستانية. هذه الزمر التي يجري تمويلها بسخاء من قبل اثرياء الارهاب في دول الخليج. إنه إخطبوط إرهابي دولي يتمتع بإمكانيات كبيرة وينبغي عدم الإستهانة به وهو يعمل بنشاط على الأراضي العراقية.
إن من بين الأمثلة العديدة والأكثر إثارة على هذا الطغيان والذي تتداخل فيه أطراف إرهابية وأجهزة مخابراتية عديدة هو ما حصل في 20 حزيران عام 1994 عندما تم تفجير أحد أجنحة ضريح الامام موسى الرضا في مدينة مشهد الإيرانية، مما أدى الى وقوع 26 قتيلاً وخراب جزء من مبنى الضريح. و في هذا المجال يشير الكاتب البريطاني سيمون ريف في كتابه “الثعالب الجديدة” الى أن أحد رموز القاعدة وهو رمزي يوسف، ولا يعرف هل هو مواطن عراقي أم كويتي أم إماراتي، هو الذي أدانه القضاء الامريكي بسبب تنفيذه لجريمة تفجير مركز التجارة العالمية في نيويورك في 26 شباط عام 1993. وتم إلقاء القبض عليه لا حقاً في 7 شباط عام 1995، وحكم عليه بالسجن المؤبد ويقضي مدة محكوميته حالياً في سجن في ولاية كولورادو. إن هذا الشخص بعد هروبه من الولايات المتحدة وبجواز عراقي إثر تنفيذ العملية، إلتقى مع ممثلي مجاهدي خلق الذين يعسكرون في الرعاق والى الآن وإتفق معهم على القيام بعدد من العمليات داخل إيران. وجند لهذا الغرض والده وشقيقه عبد المنعم وعدد من التكفيريين الباكستانيين، كما جند لهذا الغرض سعيد إمامي وهو أحد موظفي الإستخبارات الايرانية لتنفيذ مهمة تفجير مرقد الإمام موسى الرضا في خراسان. وقد أفصح رمزي يوسف عن هذه العملية لإرهابي آخر من جنوب أفريقيا وهو “إشتياق باركر” والمعتقل حالياً. ويشير أحد المسؤولين في المخابرات الهندية وهو ب.رامان في كتاب صدر له في 3 أيار عام 2004 بأن “مصعب الزرقاوي كان يرافق رمزي يوسف في تفجير ضريح الإمام الرضا في مشهد”، هذا الزرقاوي الذي أصبح لاحقاً ضيفاً على الحكومة الإيرانية ولقي ملاذاً فيها لينتقل بعدها الى العراق للعبث فيه الى أن واجه مصيره المحتوم.
ماذا يريد الارهابيون من فعلتهم؟ وأية رسالة يوجهونها الى الشعب العراقي والعالم؟ في الحقيقة إنهم يعترفون بحالة عراقية راهنة وهي أن كل مخططات التكفيريين وحلفائهم العراقيين في إشعال نار طائفية في العراق لم تلق الإستجابة من المجتمع العراقي. وبقي هذا التجاذب الطائفي في إطار الحركات السياسية المتلبسة برداء الطائفية المتطرفة عراقية كانت أو غير عراقية أو رجال الدين المتطرفين. هذه الأطراف هي التي تسعى بشكل محموم الى إشعال هذا الحريق كي تعم الفوضى وسفك الدماء العراقية ولكن دون فائدة ونتيجة هامة لحد الآن. ولذا فهم يكررون فعلتهم السوداء مرة وأخرى علهم يستطيعون في النهاية تحقيق مآربهم. وهكذا فهم يعيشون حالة تخبط فتارة يفجرون مرقد الشيخ عبد القادر الگيلاني في بغداد أو يكررون جريمتهم بهدم ما تبقى من ضريح الإمام الهادي والعسكري في سامراء. وتتم كل هذه التفجيرات عبر تخطيط منظم يلفت الإنتباه. فبعد تفجير منارتي الامامين الهادي والعسكري في سامراء، تم مباشرة تفجير مرقد الصحابي طلحة بن الزبير التاريخي في البصرة وبسرعة وبفارق زمني قليل يسترعي الإنتباه، ويدل على أن الجهة المخططة لهذين الفعلين الإجرامين في كلا المدينتين هي واحدة. فلا يمكن النظر الى تفجير البصرة على أنه رد فعل غاضب من طرف طائفي ضد الطرف الطائفي الآخر، لأن التحضير لمثل هذا التفجير الضخم في البصرة الذي الحق الدمار بالموقع يحتاج الى إستعدادات مسبقة لنقل المواد المتفجرة وزرعها لا خلال ساعات بل خلال أيام. هذه الظاهرة الملفتة للنظر أخذت تلقى التفهم من قبل الشارع العراقي. وفطن العراقيون لهذه اللعبة الجهنمية ولم يعد ينصاعوا للدعوات الطائفية المتطرفة لإشعال حريق الفتنة والفوضى في البلاد.
إن ردود الفعل على موج التفجيرات التي طالت دور العبادة هي الأخرى تسترعي الإنتباه وتوجه الإتهام لبعض من تعالى صراخه في محاولة للتستر على الفاعلين. إن غالبية ردود الفعل التي صدرت من قبل الغالبية الساحقة من العراقيين توجه أصابع الإتهام الى الإرهاب الدولي وأذنابه من العراقيين وفلول العهد السابق. ومن الطبيعي أن توجه الإنتقادات الى الحكومة العراقية والقوات المتعددة الجنسيات لقصورها وأخطائها في ضبط الوضع الأمني في البلاد. ولكن هناك أطراف عراقية وغير عراقية تحرف إتجاه الإتهام وتتستر على الفاعلين الحقيقيين في محاولة خلط الأوراق وإثارة الشارع العراقي. هذه الأطراف في الحقيقة تدفع كل مراقب الى توجيه الإتهام لها في الضلوع في هذا المخطط الإجرامي الذي يسعى الى إشعال نار الإحتراب الداخلي في العراق. للننظر ما جاء في بيان هيئة علماء المسلمين الذي جاء فيه مايلي:”أدانت هيئة علماء المسلمين في العراق، وهي أكبر مرجعية سنية في البلاد، حادث تفجير منارتي مرقدي الامامين العسكريين في سامراء صباح اليوم الأربعاء محملة قوات الاحتلال الأمريكية والحكومة مسئولية الحادث بشكل مباشر”. كما يخرج أنصار مقتدى الصدر ببيانات مماثلة حيث يشير بيان للتيار الصدري الى ما يلي:” نهيب بالشعب العراقي المجاهد أن يدحض ويفشل المخطط الأمريكي الإسرائيلي البغيض الذي يهدف الى بث وزرع البغضاء بين الاخوة المسلمين”. ويؤكد الناطق بإسم التيار الصدري عبد المهدي المطيري هذا الإدعاء ويقول:” إن الحركة تحمل القوات الأمريكية والحكومة العراقية المسؤولية عن هذا الهجوم”، ويذهب صلاح العبيدي مدير مكتب الصدر في النجف الى أبعد من ذلك ويقول:”إن الأيادي التي قامت بهذا العمل هي أيادي الإحتلال التي تريد بالبلاد سوءاً”. ولا يشير هذا التيار لا من قريب ولا من بعيد الى دور الاطراف التكفيرية ولا الارهاب الدولي الذي يعلن صراحة جواز قتل العراقيين من “الروافض” و”النواصب” على حد سواء، بل وكل من لا ينصاع الى إرادة هذه الفئات البربرية. أما حكام أيران المتطرفين الذين يتدخلون في كل شؤون العراق ويرسلون الاسلحة الى عصابات العنف ويمولوها ويثيروا الفتن وعدم الاستقرار والغارقين حتى نافوخهم في مسلسل الفوضى في بلادنا، فلم يتخلفوا عن المشاركة في جوقة التستر على الفاعلين وتزييف الحقائق. فقد أشار آية الله الكاشاني في خطبة الجمعة الى “المؤامرة الامريكية الإسرائيلية وأجهزة إستخباراتها” في تفجير المقام العسكري؟؟. ويؤكد ذلك آية الله بروجردي ويقول :” إن الامريكيين وحلفائهم خططوا لهذه المؤامرة بغية تمديد فترة وجودهم العسكري”. وشرعت “المظاهرات المليونية” تطوف شوارع طهران لتحرق أعلام الولايات المتحدة وبريطانيا واسرائيل دون ان تشير ولو بهمس الى مسؤولية الارهاب الدولي والمتطرفين والتكفيريين. بالطبع لا يمكن تجاهل “خبطات” الولايات المتحدة في العراق، ولكننا في العراق أمام حوادث ملموسة، والتي تستهدف الجوامع والمراقد ودور العبادة والكنائس ومعابد المندائيين وغيرها، حيث لا يمكن الا ان تجد أصابع التطرف الإرهاب الدولي في هذه الجرائم. ولقد أعترف الكثير ممن قبض عليهم واودعوا السجون العراقية بهذه الآثام.
إن من واجب الحكومة العراقية أن تتخذ إجراءات أكثر فاعلية للجم جيش الصعاليك وتحسين أداء القوات المسلحة وتطهيرها ممن يشك في ولائه للعراق والعملية الدستورية. وفي هذا الإطار فمن واجب الحكومة العراقية أن تفتح ملفات ممن قبض عليهم من الإرهابيين وإمتدادتهم الإقليمية ودعم دول الجوار لهم وفضح ذلك للرأي العام العراقي والدولي، إضافة الى إتباع سياسة خارجية فعالة للجم التدخلات المخابراتية الإقليمية والخارجية، ودور هذه التدخلات في تأزيم الوضع في بلادنا. ويجب على الحكومة العراقية تقديم الشكاوى الى الامم المتحدة وجامعة الدول العربية والمؤتمر الإسلامي ضد كل من يتدخل في الشأن العراقي ويثير الفتنة فيه. فما زالت الحكومة العراقية قاصرة عن فضح الادوار التخريبة الاقليمية، بل أن بعض أطراف الحكومة تتستر على هذه الأدوار المدمرة.
كما يجب على الأحزاب والحركات السياسية العراقية أن تحسم موقفها من ما يسمى “بالمقاومة”، والتي ما هي الا إمتدادات لمخابرات إقليمية وتنظيمات إرهابية ولا علاقة لها بمصلحة العراقيين. إن كل سلوك هذه الزمر التي تدعي المقاومة سواء في العراق وخارجه يؤكد أنها مجرد حركات هدفها زرع الفوضى وإشاعة القتل وحرمان شعوبنا من إقامة دولة قائمة على القانون. لنتابع ما يقوم به أنصار “الدولة الاسلامية في العراق” وجيش الحق والجيش الاسلامي وكتائب ثورة العشرين التابعة الى حارث الضاري وجيش المهدي اللغز. كما ينبغي ان ننظر الى ما يفعله أمثال هؤلاء في لبنان، فتح الاسلام التي تدربت على القتل في العراق، او في فلسطين حيث تحولت هذه التيارات المتطرفة الى عصابات تحيك الإنقلابات العسكرية وتشيع الفوضى وتحرف نضال الفلسطينيين عن مسعاهم لإقامة دولتهم والتخلص من العربدة الإسرائيلية، وبذلك فهم حلوا مشكلة الشعب الفلسطيني على طريقتهم الفوضوية بحيث لم تعد القضية الفلسطينية قضية العرب المركزية بعد أن “حرروا” غزة في الأيام الأخيرة لا من قبضة الإحتلال الإسرائيلي، بل من قبضة منظمة فتح!! . فماذا يمكن ان نسمي ما يحدث في غزة والضفة غير بلطجة سياسية وفوضى وتنفيذ مهمات بالنيابة عن اطراف إرهابية دولية ومخابراتية إقليمية؟
إن سلوك الإرهابيين والمتطرفين في العراق والقائم على إشاعة الفوضى والقتل والهدم، لا يعطي ولا يبق أي حجج تتكأ عليه أقلام صفراء في العراق وخارجه كي تدافع عن هذه الشراذم، وتدون المقالات وتسطو على المواقع الألكترونية تحت واجهة كاذبة هي مقاومة الإحتلال. فالأحداث المريرة التي تمر على العراقيين تفضح أصحاب هذه الأقلام ودوافعهم، ولا تعطيهم الفرصة كي يقنعوا الناس بحججهم وأكاذيبهم. لقد غدت الصورة واضحة، والشعب العراقي يستخلص الدروس من أفعال المتطرفين الذين يلفظون أنفاسهم وحججهم المريضة.