الرئيسية » مقالات » هلموا شاهدوا موتي!!

هلموا شاهدوا موتي!!

لا يعلن عنوان هذه المقالة, بحروفه الصارخة, عن قصيدة عصماء, او عن فلم مثير, بل هو ترجمة حرفية, تقريبا, لما قاله لي, بحرقة, صديقي وقريبي منذ لحظات على الهاتف من بغداد؛ إذ قال, مجيبا على سؤالي له, ” شلونكم؟ “, وكان جوابه, “شلونّه! تعالوا شوفونة, شلون دنموت “!! هل يعقل بأن الأمر في العراق قد أضحى بهذه المأساوية, وبهذا القدر من الدمار والإنحطاط!!؟ لا يمكن وصف مايجري في بغداد, على وجه التحديد, فلا هو حرب مثل كل الحروب, ولا هو إنتفاضة لها أغراض محددة ووسائل معينة, بل هو فوضى من الجرائم والبطش, يتناوب عليها وحوش, يتعذر وصفهم؛ إذ لا وحوش على الأرض سبقتهم في الضراوة والهمجية والجهل والخسة, بغض النظر عن اللافتة التي ينضوون تحتها, وبغض النظر عمن يمثلون أو يدّعون أنهم يدافعون أو يقاتلون من أجله. إن ما يجري هنا هو خسة لا يمكن أن يرتكبها بشر لهم مواصفات بشر, بل ولا حتى حيوانات بهيمة. ليس بوسعنا هنا تصوير كل ما يجري من مشاهد؛ ولكننا سنعرض مقطعا واحدا من حيّ السيدية, حيث يعيش قريبي وصديقي مع عائلته الصغيرة؛ ( زوجته وأولاده )؛ ويسكن في شقة متواضعة في إحدى تلك العمارات المتآكلة التي بنيت منذ عدّة عقود. إليكم هذا المشهد؛ وعليكم أن تتخيّلوا مشاهدا أخرى لا تنتهي من بقية مقاطع هذه المسرحية المأساوية, بل البكائية المرّة التي قد تقضي حتى على تشبثك الأخير بإيمانك بخير الإنسان والإنسانية؛ وقد يتناوشك الجزع والإنكفاء على الذات, مما قد يقودك لتعلن براءتك من كل ما يمت للإنسانية بصلة, ربما ليس في العراق فقط, بل في العالم بأسره!!
” منذ ما يزيد على شهر”, يقول صاحبي بنبرة حزن موجعة, ” نحن لا نتخطى عتبة الشقة. ناهيك عن العمارة “, ” لأن الخروج هو الموت بعينه, وقد تكون محظوظا لو حصلت على الإختطاف, أي الموت المؤجل “؟!
” لماذا “؟ وكان هذا سؤال سخيف مني, طبعا. لأن المليشيات حسبما يقول صاحبي وحسبما نعلم, تتقاتل. مرة ضد بعضها الآخر , ومرة مع الجيش والشرطة التي سرعان ما تنقسم هي بدورها على نفسها وتدير أسلحتها ضد بعضها, تضامنا مع المليشيات التي ينتسب بعضهم إليها سرا, أو يتحالف معها البعض الآخر علنا؟! هكذا, إذن, الحامي هو القاتل, والقاتل هو الحامي؟
أخبروني أيها الناس عن أية حرب جرت في تأريخ البشرية وفقا لهذه القواعد التآمرية والخيانية, إذ, لا عهد, ولا قيمة ولا ميثاق؛ فقانون الشرف هنا هو, أقتل ثم حصّل على أكثر ما تستطيع, فلا حساب ولا سؤال, ولا هم يحزنون. هل من يخبرني عن أرض سكنها بشر, جرت فيها جرائم قتل على هذا المنوال؟؟ لقد شهدت شخصيا بعض أحداث الحرب الأهلية في لبنان في مطلع الثمانينات من القرن الماضي, حيث حوصرنا, ولكنهم أطلقوا سراحنا, فورا, بإعتبارنا مدنيين عزل من السلاح!! لماذا إذن, لا ذمة لمقاتلينا في العراق؟
قلت له إسمع ” أبو فلان “, أجبني على الأسئلة المتتالية الآتية بدون تفاصيل جانبية “؛ “تفضل عيوني “, كان جوابه.
أولا؛ “شلون تتسوقون “؟, الجواب, “نشكل فرقة من سكان البناية, لها مقدمة إستطلاعية, ومؤخرة للإرشاد بالإنسحاب, وهكذا يصلون الى دكان منزلي, ( أي داخل أحد المنازل الخاصة ), ليجدوا فيه بعض الأساسيات التي تساعدنا على مجرد البقاء أحياء؛ مثل, شوية طماطة, شوية خضرة, شوية خبز ( رول ) , .. الخ, فيتسوقون لكل الأسر في شقق العمارة, ثم يعودون بإنسحاب منظم “!!
ثانيا, ” زين “, ” ما أريد أسأل على الكهرباء, ولكن الماء كيف يصلكم,. أقصد ما الشرب؟”. أجاب أبو فلان: ” أخوي أبو المكارم, طبعا لا تسأل على الكهرباء, سمّيناها ” البدر ” لمّا يهلّ, ولكن الماي, أي ماي, نجفت عليه جفت لما يجي خلال ساعة أو ساعتين لنملأ كل ما يتوافر لدينا من الأوعية, وحشاك, لو بيدنة, حتى الجزمات نمليهه هم. بعدين, أي ماء شرب تقصد, هو كله خابط ولونه يميل الى السواد. المسكينة بنتي الصغيرة, أصيبت بالإسهال, وهي مريضة, وطبعا ليس بالإمكان إرسالها الى أي مكان لعلاجها “. و فلان مستمرا؛ ” أمس شفنا رجل مسنّ وهو يخرج, ناديناه من النافذة لئلا يخرج, ولكن الجوع دفعه لذلك, فجندلوه برصاصهم القذر, وبقيت جثته ثلاثة أيام, ونحن نراها من بعيد,عبر النافذة, وليس بوسع أحد أن يفعل شيئا, لأنه لو خرج للقي نفس المصيرّّ !! ” إنا لله وإنا إليه راجعون”, تحشرجت هذه الكلمات في صدري, ولم أشعر بالرغبة في الإستمرار بالحديث. قلت له, ” شوف أخوية أبو فلان, حالما تهدأ الأمور, وطبعا لا أنت ولا أنا نعرف متى, أهرب الى مكان آخر, وسوف نتقاسم كل شيء, من الهم الى المال “.
ما تقدم هو مقطع صغير من مشهد ومشاهد مأساوية أخرى تتكرر وتكّر في كل حي و شارع , وأهلنا لا يموتون, فحسب بل يموتون مع العذابّّ.
لماذا ياقادتنا, يامهندسوالخطة الأمنية؟؟ أنا لا أناشد المحتلين, فهم من خلق الورطة والظروف, وربما قد أفلتت منهم الأمور الآن, إنما هم سيجعلونكم كبش الفداء؛ فأنتم المسؤولون؟ أليس بينكم من يستطيع أن يفك ألغاز هذه المسرحية الدامية؟ ألا يرى أي لبيب فيكم بأنه؛ طالما يقوم نظامكم اليوم على المحاصصة, (دينية/مذهبية ), وعرقية, فليس هناك مجال لفك الإشتباكات وتوحيد الولاءات. وطالما هناك جهات خارجية تموّل. وفلول نظام سابق يجهزون, ليس هناك مجال لإيقاف المتوحشين المأجورين عن القتل .. وطالما لا تسعون بإخلاص لإنقاذ العراق بحكومة من مستقلين أنقياء, لا ولاء لديهم سوى للعراق؛ ستفشلون وستحبط أهدافكم حتى الفئوية منها؛ وستذهب خطتكم الأمنية أدراج الرياح. وعندها سيتمزق العراق, شذر مذر, وسينوح الجميع, ليس على الفرص التي ضاعت, إنما على الضياع نفسه الذي ما بعده ضياع!!

د. كامل العضاض
1حزيران- 2007