الرئيسية » الآثار والتنقيبات » كردســـتان .. امتــــداد حضــــاري عريـــق

كردســـتان .. امتــــداد حضــــاري عريـــق

الاتحاد

ثمة مراحل حضارية غائرة في القدم قد تصل الى عشرات الالآف من الاعوام كان قد قطعها انسان كردستان العراق تمثلت بالمكتشفات الحضارية التي توصل اليها المنقبون والاثاريون والعلماء المختصون الذين تحروا جبال كردستان وكهوفها وسائر اصقاعها الاخرى، وبالرغم من ابتعاد هذه المراحل الحضارية عن زمن التدوين والكتابة بفواصل زمنية بعيدة جدا، الا انها تشير بصورة عامة الى ان بذرة الحضارة الانسانية الاولى كانت نمت في تلك التربة من ارض كردستان، وانها قد وجدت فيها كل عوامل الخصب والنماء التي وصلتها بالعصر السومري المؤرخ في بدايات الالف الثالث قبل الميلاد حتى اتسعت تضاريس الحضارة العراقية وارتقت بالانسانية الى افق اعلى من الانجاز والابتكار ومهدت السبل لتأسيس مجتمعات متطورة وسيلتها الفعل المبدع، ودليلها العقل الخلاق..

لقد اظهرت المكتشفات الاثرية ان ذرى كردستان العراق وسفوحها وما يتخللها من كهوف غائرة وممرات ضيقة تمثل اقدم بداية لانتقال الانسان من العصور المغرقة في بدائيتها الى عصور اكثر تطورا، فقد اكتشفت عالمة الاثار “أ. دكارود” في كردستان العراق ملتقطات تعود الى العصر الحجري القديم في كهفين قرب السليمانية، وقد دفع هذا الاكتشاف المعهد الشرقي التابع لجامعة شيكاغو في خمسينيات القرن الماضي وكذلك الدكتور “سوليكي” الى التنقيب في عدة مناطق هناك وخاصة في “بردة بلكة” و “بالي كوره” و “كريم شهر” وفي حوض الزاب، حيث تم العثور على اكتشافات مدهشة “زادت كثيرا في ملعوماتنا وملأت ثغرة مهمة من تاريخ الشرق الادنى” كما خلص الى ذلك المنقبون الغربيون، فقد عثر في موقع “بردة بلكة” الذي يبعد ميلا ونصف الميل عن شمال شرق جمجمال بين كركوك والسليمانية على ادوات مصنوعة من حجر الصوان تعود للعصر الحجري القديم، ولدى تتبع اصل تلك الادوات تم العثور على “ورشة عمل” وفق التسمية التي اطلقها المكتشفون تألفت من فؤوس على شكل “قلب” وادوات حصوية مصنوعة من حجر الكلس جرى صنعها بشكل دقيق لتستعمل من “الكشط” يعود تاريخها الى مائة وعشرين الف عام..! وفي حدود التاريخ المتقدم تم العثور على ادوات اكثر تطورا مما تقدم في كهف “هزار مرد” الذي يبعد حوالي اثنى عشر ميلا جنوب السليمانية، على ان الانعطاف الاهم الذي يعتبر فتحا حقيقيا للنشوء الحضاري في كردستان العراق يعود للمكتشفات التي استخرجت من كهف “شانيدار” قرب مدينة رواندوز، وهو ملجأ صخري يطل على وادي الزاب الكبير وما يزال هذا الكهف يستخدم من قبل الرعاة الكرد في فصل الشتاء، وقد قام بالتنقيب فيه الدكتور “سوليكي”: لحساب جامعة مشيغن عام 1951 وعثر فيه بعد حفريات بعمق خمسة واربعين قدما على طبقات من الرماد واماكن لمواقد تحتوي علىادات عظمية وصوانية، مما يشير الى ان هذا الكهف كان مسكونا منذ العصر الحجري الوسيط وان سكانه قياسا للادوات المكتشفة كانوا على قدر كبير من التنظيم والادراك والتطور الاجتماعي، وهذا ما تشير اليه المخلفات الفنية الحجرية كالمسنات والمكاشط والمثاقب وما الى ذلك من ادوات.
ومما يشير الى تطور “انسان شانيدار” ادراكه لبعض المعارف الطبية، فقد اكتشف الدكتور “د.ت. ستيوارت” ان بعض المطببين آنذاك قد قام ببتر ذراع رجل مشلول منذ الولادة بواسطة عملية جراحية مستخدما نصلا صوانيا خشنا، ويعود ذلك لزمن يتراوح بين خمسة واربعين الف عام وستين الف عام، وفي زمن “احدث” ما بين اربعة وثلاثين الف وخمسة وعشرين الف عام عثر في ذلك الكهف على ادوات اكثر تطورا تشير في تكوينها الى مرحلة حضارية انضج من المراحل السابقة، حيث استخدم فيها النحت بعناية بالغة وبأشكال غريبة مع ميل لتصغير الاعمال الفنية كما يظهر على المكاشط الدائرية ونصول السكاكين الصغيرة حتى اطلق على تلك المرحلة من تطور “ الفن العراقي” تسمية (البرادوستية)” نسبة الى جبل “برادوست” الذي فيه كهف “شانيدار” ووجدت مثل تلك الادوات وبكميات كبيرة في كهف “زرزي” قرب السليمانية وفي كهف “كورة” شرق جمجمال وفي كهفي “كايوانيان” و “براك” الواقعين غرب وجنوب رواندوز.
ومن خلال المكتشفات علمنا ان “انسان شانيدار” في العصر الحجري القديم كان قد امتد تأثيره الى سوريا وفلسطين وعموم المنطقة الغربية، اذ تشابهت الصناعات الصوانية هناك وبشكل كبير مع الاثريات التي عثر عليها في كهف “شانيدار” مما يشير بصورة جلية الى تأثير بواكير حضارة كردستان العراق في سكان تلك الاصقاع، واثبتت المكتشفات ايضا ان “انسان شانيدار” قد امتد تأثيره الى شبه جزيرة الاناضول والمرتفعات الايرانية من خلال علاقاته التجارية التي اقامها معها، فقد اثبتت التنقيبات ان المواد التي وجدت في كهفي “شانيدار” و “هزار مرد” تتشابه مع تلك المواد التي وجدت في كهف “بسيتون” غرب ايران وفي كهف “كوراين” في تركيا.
وقد بلغ من تطور “انسان شانيدار” انه صنع بعض ادواته من الزجاج البركاني، واقرب مصدر له يقع في منطقة بحيرة “وان” في اورمينيا مما يشير الى انتقال ذلك الانسان الى تلك الاماكن البعيدة سعيا للاكتشاف وفق رأي معظم علماء الاثار الغربيين الذين ذهبوا الى “ان تقنيات الصناعات الحجرية في كردستان العراق قد انتقلت من مكان لآخر حتى بلغت قارة اوربا” وخلاصة القول فان المتخصصين بعلم الاثار يرون “ان كردستان العراق بسبب موقعها المتفرد قد حافظت على ميزاتها الحضارية الخاصة وان الصناعة البرادرستية نسبة الى “برادوست” قرب رواندوز تعتبر صناعة متفردة في الشرق الادنى” وبتوالي العصور وصولا للعصر الحجري الوسيط الذي يعود لعشرة الآف عام قبل الميلاد تحيلنا مكتشفات كهف “شانيدار” الى مرحلة من التطور البشري يرى فيها الدارســـون المتخصصون في هذا المجال “ان الانسان قد اصبح في هذه المرحلة مجدا بما يكفي لأنجاز اعمال دقيقة وذكيا بدرجة تؤهله لأكتشاف امكانية ان يصرع فريسته عن بعد بواسطة السهام”.
يبقى ان نذكر ان السهوب الشمالية وجبال كردستان تعد مهد حضارة العهد الحجري الحديث وموطنا لبواكير حضارة العصر الحجري المعدني في هذا الجزء من العالم الذي سيمر حسب توالي العصور بخمسة ادوار حضارية من التأكيد على ان الانسان في تلك السهوب والجبال فان قد اكتشف الزراعة في بداية العصر الجليدي القديم وقد قام بتدجين الحيوانات، وقد عد الدارسون والمتخصصون في العصور العراقية القديمة “ان اكتشاف الزراعة يعتبر بد ذاته ثورة عظيمة لم تصل اوربا الا بعد الآف عديدة من السنين، بينما تأصل هذا الاكتشاف المهم في منطقة الشرق الادنى في العراق على وجه الخصوص قبل ذلك بوقت طويل” وتبع اكتشاف الزراعة الانتقال من مرحلة “اقتصاد جمع القوت” الى مرحلة “اقتصاد انتاج القوت” الامر الذي ادى الى الاستيطان الثابت والدائم ثم الى بداية نشوء المجتمعات وارتباط الانسان بالارض، ويقدر الدارسون ان ذلك يعود الى سبعة الآف سنة قبل الميلاد، والخوض في هذا الموضوع يحتاج لوقفة اطول لا يستوعبها هذا الموضوع المقتضب.