كانت العلاقة بين السلطة والمثقف موضوع أبحاث وروايات وكتابات كثيرة. فهي في غالب الأحيان ملتبسة, وهي قضية قديمة وجديدة في آن, أو متجددة باستمرار. إنها ورغم كونها تعبر عن علاقة بين طرفين هما السلطة والمثقف, إلا أن المجتمع الذي تحكم فيه السلطة ويعيش فيه المثقف, يشكل معهما حجر الزاوية في هذه العلاقة أيضاً.
تمتلك السلطة, أي سلطة, القوانين والأنظمة الإدارية والأجهزة الحكومية, بما فيها الأجهزة القمعية والسجون وأدوات التعذيب والمحاربة بالرزق,كما تمتلك الحق في ممارسة العنف والقوة دون غيرها لتكريس القانون من حيث المبدأ. ولكنها لا تمتلك دولياً حق التجاوز على حقوق الإنسان وحقوق المواطنة. والسلطة التنفيذية تقف على قدم المساواة مع السلطتين التشريعية والقضائية. وتعتمد سبل استخدام السلطة لصلاحياتها ومدى احترامها للدستور وللسلطتين التشريعية والقضائية على طبيعة وبنية الدولة والحكومة لا من حيث كونها ملكية أو جمهورية, بل من حيث كونها دولة القانون الديمقراطي أو دولة الاستبداد بمختلف صورها ومبرراتها. فسلطة تستند إلى دستور ديمقراطي ودولة القانون واحترام السلطتين واستقلاليتهما عن السلطة التنفيذية وخضوع الأخيرة لإرادة المجتمع تختلف كلية عن سلطة استبدادية تركل الدستور بقدميها وتدوس على القوانين وتخضع السلطتين التشريعية والقضائية لإرادتها ورغباتها وتنتهك حقوق الفرد والجماعة وتتخلى عن كل المعايير والقيم الحضارية الحديثة, بغض النظر عما إذا كان هذا النظام الاستبدادي مدني أم عسكري, حزبي أم قبلي أو عشائري, حزبي أم فردي أم يرتبط بعائلة بعينها, إذ أن الحصيلة واحدة, والحكم ظالم.
أما المثقف فلا يمتلك سوى ثقافته وإرادته, سوى قدرته وموهبته على التعبير بمختلف أشكال التعبير المرئية والمقروءة والمسموعة والملموسة, سواء أكان شعراً أم رواية أم قصة أم مقالاً أم عملاً تشكيلياً أم أغنية أم لحناً موسيقياً أو نقداً أو أي عمل إبداعي ونشاط ثقافي بما في ذلك الوعي بواقع المجتمع ومشكلاته وحاجاته وسبل التعبير عنها. هذه هي أدواته في العمل وفي الكفاح اليومي.
بين هذين الطرفين يمكن أن تسود أجواء دولة القانون الديمقراطية واحترام متبادل ونقد موضوعي وعمل بناء لصالح المجتمع وتطور الدولة, وهي حالة يمكن أن نجدها في بنية المجتمع المدني الديمقراطية بصيغ غير كاملة ونموذجية بطبيعة الحال, ولكنها تعبر عن المستوى الذي بلغته حضارة الإنسان وقيمه ومعاييره التقدمية. ومثل هذه المجتمعات لا تخلو من عيوب, ولكنها الجنة المفقودة بالنسبة لأوضاع المثقفين في دولة الاستبداد وغياب دولة القانون والحياة الحرة.
في الدولة الاستبدادية التي عاش العراق في ظلها طويلاً جداً وما يزال لم يتخلص من بقاياها وسيبقى يعاني المثقف, ومعه المجتمع, طويلاً وكثيراً إلى حين تكريس دولة القانون والحياة الدستورية الديمقراطية. لقد أجبر النظام المقبور, وهذا يحصل في كل نظام مماثل, أن يتوزع المثقفون على ثلاث جماعات, وهي:
1. الجماعة التي اصطفت منذ البدء إلى جانب السلطة نتيجة تبنيها الإيديولوجية والمواقف السياسية المماثلة لمواقف السلطة السياسية.
2. الجماعة التي اصطفت ضد السلطة السياسية نتيجة تبنيها إيديولوجيا مختلفة عن أيديولوجية السلطة وتباين مواقفها السياسية واختلاف قناعاتها.
3. الجماعة المستقلة التي تشكل الغالبية العظمى من المثقفين, وهم في الغالب الأعم يتخذون مواقف ديمقراطية عامة. فهذه الجماعة لا تنتمي إلى حزب أو جماعة ولكن لها مواقفها الفكرية والسياسية ورؤيتها الخاصة لدور الثقافة والمثقف.
هذا التقسيم لا يعني عدم وجود جماعات بينية أخرى أو تفاصيل كثيرة في إطار كل جماعة وكل حزب.
فالسلطة السياسية المستبدة تسعى في نشاطها اليومي إلى تأمين المسائل التالية:
• أن يكون الولاء كاملاً ومطلقاً وملتزماً من جانب مثقفي السلطة إلى جانب السلطة بكل كتاباتهم وممارساتهم, ولا يقبل الدكتاتور بأقل من ذلك.
• ممارسة أسلوب ومبدأ “الجزرة والعصا” في الوصول إلى الجماعتين الثانية والثالثة لكسب عناصر المجموعتين إلى جانب مثقفي السلطة, وبتعبير أدق إلى جانبها. وإذ تعمل الجماعة الثانية وتكتب ضد السلطة وسياساتها, تمارس الجماعة المستقلة دورها المستقل في تأييد أو رفض ما تراه مناسباً أو تلجأ إلى الصمت طويلاً أو تستخدم أسلوب “كليلة ودمنة” في التعبير عما تريد قوله.
• ترفض السلطة الدكتاتورية وجود مثقفين معارضين أو مستقلين, فليس في قاموسها ما يسمى بالموقف الثالث, إذ أنها تحدد موقفين أما “أن يكون المثقف مع السلطة وإما ضدها”.
لقد أدت هذه السياسة إلى هلاك الكثير من المثقفين في المجموعتين الثانية والثالثة, ولكن لم ينج جميع من كان في صف السلطة من الهلاك, بل أن بعضهم خسر حياته بسبب بعض المواقف الجريئة.
ويتطلب الأمر أن نشير هنا أيضاً بأن من يقف إلى صف المعارضة ضد سلطة مستبدة لا يعني أن تلك القوى المعارضة هي بالضرورة ديمقراطية, وإنها إذا ما وصلت إلى السلطة ستمارس أساليب ديمقراطية في علاقتها مع المثقفين أو مع المجتمع أيضاً. فحين تتحول قوى المعارضة إلى مواقع السلطة, يتحول من كان في السلطة إلى صف المعارضة في ظروف بلدان نامية ومتخلفة اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً ووعياً بضرورة الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان, وبالتالي تنقلب المعادلة ولكن لا تختلف مضامينها.
في مجرى الصراع مع النظام الدكتاتوري الصدّامي, استطاع النظام أن يكسر شوكة بعض المثقفين من المعارضين والمستقلين وأن يجرهم إلى مواقعه وأصبحوا من المدافعين عنه وعن نظامه أكثر من مثقفي السلطة ذاتها. وهي حالة ليست نادرة في التاريخ. ولكن الغالبية العظمى من المثقفين المعارضين والمستقلين حافظوا على رفضهم للنظام السابق, بغض النظر عن خلفياتهم الفكرية والسياسية, أو ما مارسه البعض بعد وصول المعارضة إلى السلطة, إذ هو ليس موضوع بحثنا. واستشهد الكثير من المثقفين تحت التعذيب أو كان نزيل زنزانات النظام, أو أصبح في مقابره الجماعية, أو أنها أجبرت الغالبية العظمى منهم على الهجرة خارج البلاد.
موضوع هذه العلاقة القديمة الجديدة بين السلطة والمثقف يعالجها الصديق الكاتب والصحفي ماجد الخطيب في مسرحيته الجديدة “عاشق الظلام”. فقد صدرت عن إحدى دور النشر الدمشقية في نهاية العام 2006 هذه المسرحية, وهي من فصل واحد وممثل واحد وأصوات عديدة دون وجوه وصوت متفرج واحد.
المسرحية التي يقدمها لنا السيد ماجد الخطيب تعالج موضوع العلاقة الجدلية بين السلطة والمثقف, السلطة المالكة لأدوات القهر والمثقف الذي لا يملك سوى ثقافته, من خلال تناول شخصية شاعر عراقي, ولكنها في الوقت نفسه تعالج الوضع الثقافي العراقي في فترة الحكم الدكتاتوري المقبور عبر أبعاد ثلاثة رئيسة, وأعني بها:
البعد الأول هو المثقف الضحية في ظل نظام استبدادي مقيت, والأجواء والهاوية التي يمكن أن ينحدر إليها الضحية بعد سقوطه, وليس كل ضحية بالضرورة.
البعد الثاني هو السلطة أو الجلاد الذي اسقط الضحية نتيجة ممارسته سياسة الجزرة والعصا وأساليب تلك القوى التي تأتمر بأمر الدكتاتور والتي بدونها لما استطاع المستبد البقاء في الحكم طويلا.
البعد الثالث هو القارئة والقارئ أو الجمهور الذي عاش التجربة ويشارك في متابعة المسرحية.
وفي الوقت الذي أعطى حيزاً كبيراً للضحية, باعتباره موضوع المسرحية أساساً ويعيش صراعاته الداخلية, فأنه ومن خلال حديثه المباشر مع نفسه كشف بصورة مباشرة وغير مباشرة عن سلوك الجلاد وأساليبه في التعامل مع الشعراء وإخضاعهم لما يسعى إليه الدكتاتور بشتى السبل المتوفرة تحت تصرفه بغض النظر عن مدى شرعيتها أو تحريمها دولياً. ولكن من خلال المسرحية لم يبرز دور المثقف الرافض لضغوط السلطة وقهرها إلا من خلال حديث الممثل الوحيد (س) القائل بأنه كتب وتحدث ضد الساكتين فقط! ظاهرة الرفض كانت أوسع من ظاهرة الخنوع والخضوع للدكتاتورية في صف المثقفات والمثقفين في العراق.
السؤال الذي يراود الجميع هو: هل يمكن أن تتخلى السلطة, أي سلطة, عن السعي لتطويع مثقفيها؟ وفي أي من الأجواء يمكن أن ينشأ المثقف المستقل الذي لا يخضع لهذه السلطة أو تلك بل يتصرف بوحي من ضميره ووعيه وقدرته على تقدير الموقف الصائب الذي يفترض أن يتخذه؟ إنها الإشكالية الكبيرة من الناحية النظرية والعملية في آن.
ليس صعباً أن نقوم بتحليل العلاقة بين المثقف والسلطة في فترة البعث فقد عشنا التجربة بكل حذافيرها. إذ أنها مشكلة الديمقراطية والحياة والمؤسسات الدستورية وحقوق الإنسان الغائبة عن حياة ونشاط الشعب العراقي بكل مكوناته خلال فترة حكم صدام حسين. فالمثقف لا يمتلك الحرية لكي يقرر موقفه من الأحداث. ولكن كيف عالج الكاتب في مسرحيته عاشق الظلام هذه القضية الحساسة, قضية العلاقة بين السلطة والمثقف؟ لقد اختار الكاتب شخصية الشاعر بسبب إصرار الدكتاتور على التعامل بشكل خاص مع الشعراء على طريقة الحكام العرب في مختلف العهود, من يتلوا مديحاً للدكتاتور يتسلم عطايا المستبد بأمره ومن لا يفعل ربما يواجه السجن والمحاربة بالرزق أو حتى الموت.
الجديد في المسرحية ليس طبيعة الصراع فهو دائم الوجود, بل هو الأسلوب الذي اختاره الكاتب لطرح المشكلة وتجلياتها في مجرى الحوار وسبل ولوج الأصوات الأخرى إلى المسرحية في ظل منولوج ذاتي يجسد أبعاد صراعه الداخلي وموجه في جوهره للمشاهدين الذين يراد لهم العيش في التجربة ذاتها. فالأصوات كانت تنطلق إما من غرف أخرى في الشقة لا وجوه لأصحابها, وإما أن تظهر على شاشة التلفاز أو عبر الهاتف, إضافة إلى صورة الكاتب ذاته أو ضميره المخطوف من جسده حتى أصبح غريباً عنه. ليس سهلاً السيطرة على مشاعر وانتباه الجمهور في مسرح لا يقف فيه سوى شخصية سلبية واحدة, لهذا كان الحوار التلفزيوني والتلفوني وأصوات أفراد العائلة مدخلاً مهماً في بناء المسرحية من أجل تغيير أجواء السرد المسرحي بحركة صوتية يتسنى لها تغيير أجواء المسرح لصالح النص والممثل وتحقيق التفاعل الحسي بين الممثل والنص والجمهور, خاصة وأن الجمهور يعرف الحقيقة بكل أبعادها!
المسرحية تقدم للقارئات والقراء وللمشاهدات والمشاهدين, إذا ما أخرج النص مسرحياً, نموذجاً حياً لشخصية شاعر ألفناها في حياتنا اليومية في فترة الحكم الدكتاتوري المقبور, شخصية معروفة, رغم وجود ما يماثلها, شاعر كان مبدعاً ينزع عن نفسه ضميره ويتصرف بحرية المغلوب على أمره لصالح الطاغية وحروبه وسياساته ولم يعد شعره ينبض بالحياة. ويبدو من مجرى الحوارات الذاتية ومع الضمير غير الفاعل أن الشاعر كان يتبنى مواقع فكرية أخرى غير مواقع فكر الدكتاتور, ولكنه انتقل إلى مواقع المستبد بأمره دون أن يشعر بالندم على فعلته, بل كان يغوص فيها ويشرب كأس الذل حتى الثمالة. ولكنه, ورغم سقوطه الكامل وتحوله إلى مثقف السلطة كان يخشى السلطة من جهة, ويستعيد أحياناً شبح ضميره الذابل والمعذب المرمي على قارعة الطريق ليحاسبه على ما اقترفه بحق نفسه وشعره قبل غيره بصوت يشوبه الشك ويسيطر عليه العجز عن العودة إلى جسد الشاعر الذي غادره دون رجعة من جهة أخرى. ويمكن للمتفرج أن يؤشر بيديه دون تردد إلى هذا الشاعر أو ذاك بأنه المقصود من هذه المسرحية, سواء أكان شاعر السلطة أو تحول إلى شاعر للسلطة بفعل عوامل عديدة, علماً بأن الأصابع تمتد إلى شخص بعينه, والمنافسة التي تتجلى في حديثه مع الموظف الكبير أو مع البيدر, باعتباره شاعر السلطة بالأساس, وهو لا يختلف عن طينة وطبيعة (س) ذاته, إن لم يكن ذاته, إذ يمكن أن يتبادلا المواقع. نحن هنا أمام صراع بين السلطة والمثقف وخضوع الأخير للسلطة, وهو نموذج واحد غير سائد في العراق, لكنه مألوف ومعروف ومدان. وهنا نلتقي بصراع آخر, هو الصراع بين الشاعر المعارض, الذي تحول إلى شاعر جديد للسلطة, وبين شاعر السلطة منذ البدء, إذ يكشف لنا الكاتب حقيقة الغيرة والحسد التي تقتل الاثنين بسبب سعيهما المشترك إلى ما يرضي الدكتاتور ليمنحهما ما شاء من الأوسمة والعطايا المالية وليحتلا لديه الموقع الأول!
يمنح الكاتب الصراع بين الضحية والجلاد أبعاداً أخرى ذات أهمية فائقة للضحية التي تسقط تحت سياط الجلاد المستبد بأمره, تحت وابل من الجزرات والعصي في آن واحد.
حين يبدأ الشاعر بالهبوط من عليائه الشعري, حين يعدو مدفوعاً بسرعة فائقة من قممه العالية في أعالي الجبال نحو الهاوية لا يشعر بأي وخز للضمير, بل يزيد على ذلك حين يبدأ بالتكالب في المنافسة مع شعراء آخرين من ذات الطبيعة, بهدف التقرب من الدكتاتور للحصول على وسام جديد أو لقب الشاعر الأول أو شاعر القادسية أو أم الحواسم وللوصول إلى عطايا أخرى, ولكنه يبقى في المحصلة النهائية شاعر الظلام والجبن والرذيلة, شاعر البؤس الداخلي, رغم أن الظلام يمنحه بعض الجرأة لمواجهة نفسه والحديث الصريح مع نفسه حول الجلاد, ولكنه يبقى في خشية شديدة من زائر ثقيل يأتيه عبر الظلام وعبر النافذة ويفسد عليه جرأته البائسة التي لا تأتيه إلا في الظلام الدامس وهي محفوفة بمخاطر جدية.
المسرحية تقدم لنا صورة فردية لشاعر, ولكنها تعتبر نموذجاً حياً لمجموعة من الشعراء أو الأدباء وغيرهم, خضع لما أراد منه الدكتاتور عبر أزلامه والمسئولين عن ترتيب الدعاية له ورفع سمعته في مجمع المستبدين.
المسرحية تطرح أزمة الخوف المهيمنة على الساحة السياسية في فترة سيادة الدكتاتورية والقمع الهمجي في دولة بوليسية تحكم فيها أجهزة الأمن والمخابرات, حتى القسيس الذي يقف وراء صومعة الاعتراف يخشى من الضحية, إذ يمكن أن يتسبب في كارثة له مع السلطة, أو أنه يخشى على نفسه وكنيسته من وجود لاقطات نصبت من قبل أجهزة الأمن في جدران صومعته, فيرفض حتى سماع اعتراف الشاعر الذي يريد طلب الغفران باعترافه بما ألحق من أضرار بآخرين من شعراء قرروا السكوت وتجنب السقوط في الهاوية التي حط فيها الشاعر (س), ولكنه يريدهم أن يكونوا معه في نفس القارب الآيل إلى الغرق أو في نفس الهاوية التي سقط فيها, وبالتالي يبدو وكأنه أصبح شبه جلاد. وقد استطاع الكاتب أن يسيطر على أحاسيس القارئ في مشهد العلاقة بين الشاعر (س) وشاعر السلطة (البيدر) عبر شاشة التلفزيون والنظرات العدائية والغامزة المتبادلة بينهما. إن الشاعر الذي استسلم لجلاديه تحول في لحظات معينة إلى جلاد ضد الذين رفضوا الاستسلام مثله أو سكتوا ليبتعدوا عن الأضواء, ولكنه كان يكتب ضد من يسكت ليسحبهم إلى المستنقع الذي سقط فيه.
الطبيب النفساني, الذي يعالج الشاعر المصاب بانفصام الشخصية وعاشق الظلام ويعاني من صراع داخلي, يدرك عمق الهاوية التي انتهى إليها الشاعر ويدرك الخواء الذي يعيشه والصراع الذي يؤرقه حين تزوره صورته الأصلية, شبحه الباهت, حين تحاسبه على أفعاله. فهو عاجز عن التماسك أمام صورته أو شبحه لأنها تطرح الحقيقة المرة دون رتوش.
والطبيب النفسي يتلاعب بالكلمات التي تعبر عن واقع الشاعر وماساته في محاولة للسخرية منه, ولكنه يستخدم كلمات حمالة أوجه, إذ أنه لا يأتمن الشاعر ويخشى من غضبه واحتمال تفاقم سقوطه في الهاوية وما يمكن أن يترتب عن ذلك ويجره عليه من مصاعب لا تحمد عقباها.
لا تقدم لنا المسرحية صورة الجلاد ذاته مباشرة بل من خلال أزلامه ومريديه والمؤتمرين بأمره, وهي التي تروج له وتتعامل مع الضحية وتسقطها لصالح الدكتاتور, إذ لا يمكن أن يحكم أي دكتاتور جلاد على هذه الأرض دون أن يكون لديه من يرتب له الأمور ويدعم سياساته ويكرسها ويدجن الناس ويفرض عليهم القبول بها ويسعى إلى نقل الشعراء وغيرهم من صف المعارضين للجلاد إلى صف الجلاد. ولكن الكاتب يكشف بجمل قصيرة وعلى عجل عن ضحالة الدكتاتور وولده وعجز الأخير حتى عن فهم شعر ركيك وضحل, إذ أن بناء المسرحية قائم على تحليل الوضع النفسي والبؤس الداخلي للضحية التي نست أحياناً أنها ضحية!
المسرحية تنقلنا إلى أجواء رمادية أو سوداء قابضة للنفس عاشها الشعب العراقي طيلة عقود, ولكن عبر رؤية ولغة ساخرة وغاضبة تأتي على لسان الشاعر ذاته وتجسد عمق انهياره واستسلامه أمام القوة والعنف والمال. لقد غاص الكاتب في أعماق الشاعر المنهار وخرج لنا برؤية واضحة عن ذهنية ونفسية شاعر انتهى, كما يقول المثل الشعبي “تتنه خلصان” وحط في أكوام من الوحل. وبقدر ما كان الشاعر ذليلاً مستجيباً لطلبات الجلادين, كان وقحاً وعدوانياً ومتسلطاً على عائلته (حايط نصيص), كما يقول المثل الشعبي, وهو تعبير عن التناقض الذي يتآكل فيه وازدواجيته اللعينة.
السؤال الذي دار في بالي هو: هل في مقدور شاعر فقد الإحساس بالفعل الذي يمارسه وينافس الآخرين في الشعوذة التفكير بالانتحار, إذ أن خشيته من الموت هي التي دفعت به إلى هذا الموقع؟ والجدير بالإشارة إلى أن سبب الرغبة في الانتحار لم يكن موضوع الشعر الذي يكتبه في تمجيد الجلاد والحرب, بل لأن ما يكتبه كان قد أصبح “خريطي” من حيث الشكل الشعري والمضمون, كما عبرت عنه زوجته بصدق وألم كبيرين.
أوائل نيسان/ابريل 2007 كاظم حبيب