حين كنت طالباً في الدراسة المتوسطة، كنت اقضي العطلة الصيفية عند بيت عمي في البصرة كل عام،ومن فرط سعادتي وأرتياحي الكبير هناك، كنت اشعروكأني في شقلاوة، أو مصيف صلاح الدين، أوقل في فينا، وليس في (الطويسة، أومحلة الخندق ) في البصرة التي فيها شهر تموز(ينشف المُي بالكوز) وفيها شهرآب اللهاب(يموِّع البسماربالباب)!
ويقيناً ان ثمة أسباباً تجعلني أغادر( العاصمة) بغداد وأتجه الى البصرة في هذا الصيف القاتل، وثمة مبررات حقيقية تقف وراء كل هذا الفرح، وهذه السعادة والراحة النفسية، ولعل من بين هذه الأسباب والمبررات، إن البصرة مدينة مفتوحة على كل الأتجاهات المدنية، حيث تتوفر فيها كل مايتمناه ويرغبه الفتى في أول العمر،كما إن بيت عمي المُشع دائماً بالمحبة والخير، بيتٌ واسع وكبير،لايشعرفيه المرء بالضيق والأختناق عكس بيتنا الصغير، والفقير، والمزدحم دائماً ( بالأفواه والأرانب )!! وما يزيد أبتهاجي، أن لي في البصرة أولاد عم سبعة، كلهم رائعون، بل وغاية في الروعة واللطف والأخلاق، فهم متميزون في الدراسة ، والوعي، والثقافة، والأناقة، ناهيك عن محبتهم لي، وفرحهم بمجيئي، حتى أنهم كانوا يتسابقون على ( تدليلي)، فلا يبخلون عليَّ بشيء قط، وبما أنهم ( أبناء مدينة )، وفي غاية التحضر، فقد كانوا دائماً يرتادون دورالسينما، والمكتبات، والمطاعم، والنوادي، والمنتديات المحترمة، وبسبب ظروفهم، ومشاغلهم، فقدكانوا يتناوبون على مرافقتي لأغلب هذه الأماكن، بخاصة وأن فيهم ثلاثة شباب متقاربون معي في العمر، والرغبات، والأفكار، مما يجعلني سعيداً جداً معهم.
وفي ذلك البيت ألتقيت لأول مرَّة بعمنا العزيزماركس، وأنجلز، وهيغل ولينين، وبليخانوف وديمتروف، وتروتسكي، وهناك عرفت البلاشفة والمناشفة، وسمعت لأول مرَّة بكلمات جديدة لم أسمع بها من قبل، مثل المثالية، والمادية التأريخية، والديالكتيك، وفائض القيمة، ورأس المال، والأمبريالية، والكفاح المسلح، والماوية، وفي بيت عمي لاغير تشرفت بلقاء (الزملاء) مايكوفسكي، وبوشكين، وغوركي، وأرآغون، ولوركا، وتولستوي، ومظفرالنواب، ومحمود درويش، ومعين بسيسو وغيرهم، وفي مكتبة أبن عمي الكبير(المعلم الشيوعي الراحل غازي الدراجي)، رأيت لأول مرة عيون ألزا الباريسية، وأكتشفت لأول مرة ( البؤساء)، وليالي سجن ناظم حكمت الطويلة، ومن تلك المكتبة الجميلة، سمعت لأول مرة في حياتي إن ثمة كرواناً عربياً أسمه ( فيروز ) وإن شيخاً بصيراُ يحرضنا باغنياته ضد أمريكا، أسمه الشيخ أمام!!
وفي يوم من أيام تلك السنين الحلوة، سألني أبن عمي (غازي) قائلاً :-
هل معكم في المدرسة طلبة شيوعيون ؟!
قلت له، وأنا أتلعثم من فرط المفاجأة :-
( ما اعرف والله ) !!
وقبل أن يقول شيئاً جديداً، بادرته بالسؤال :-
( هُمَّ شيلبسون الشيوعيين، وشلون واحد يعرفهُم، صحيح هُمَّ يلبسون قمصان حمر، ويشدُّون ربطات عنق حمرة، ويسوُّون شوارب ثخينة)؟
ضحك أبن عمي وقال:- (ويصَّيحون بالسوكَ : حمرة الطماطة حمرة)!
بعدها أقترب مني، وهويقول : (شوف أبن عمي، الشيوعيين موجودين بكل مسامات العراق، موجودين بمدرستكم، وبمنطقتكم، وموجودين بالجبال، وبالأهوار، بالسجون، وبالجامعات، بالمعامل، بالمزارع، بكل شبربالعراق موجودين)!!
توقف أبن عمي قليلاً، ثم ألتفت لي مكملاً : (الشيوعي يا أبن عمي مثل رغيف الخبز بكل بيت موجود، ومثل الهوى بكل نِفسَ موجود، ومثل العطرقد تشمَّه وانت ماتشوفه، بس هوموجود،هذوله الشيوعيين يافالح، هُمَّ أهلك، وحزام ظهرك وأخوتك وعشيرتك، وهُمَّ ولد عمك الحقيقيين، أعتمدعليهم وما تخسرأبد، ذوله ولد العراق السباع، وذولة حَمَّاية الكَاع لذلك فانت وين ماتروح هُمَّ ويَّاك، وين ماتمشي تشوفهم يمَّك حتماً)!!
قلت له :- ( زين شلون راح اتعرف على الشيوعيين، يعني شنو الصفة اللي تخلينِّي أعرفهم، وأميَّزهم عن غيرهم، حتى أروح عليهم )؟!
قال أبن عمي: (الشيوعي معروف بافعاله الطيبة، وبأخلاقه، وبوطنيته والشيوعي أنسان كبير، ومثقف، وشجاع، وشريف تستطيع أتأمَّنه على مالك وحلالك وأنت مطمئن، لأن الشيوعي أبد مايخون الزاد والملح، وما أطَّولها عليك أبن عمي :- الشيوعي خوش ولد، وأخو أخيته)!!
ونبتت كلمة ( الشيوعي خوش ولد ) في قلبي، وفي عقلي، بل وطبعت كالوشم في ذاكرتي، حتى صرت أقول : ( هذا خوش ولد ) كلما رأيت امامي شيوعياً، وصرت أقول :(هذا شيوعي) كلما تعرفت على شخص (خوش ولد)!! لقد تشابكت كلمة ( الشيوعي) وكلمة ( الخوش ولد ) في وجداني، فتداخلتا، واختلط المعنيان، حتى بات من المستحيل الفصل
بينهما، لقد قالها أبن عمي يوماً وهويعرف جيداًبأنها ستختصرفي عقلي ألف كتاب، وستلخصُّ لي بالأستعاضة تجربة سنوات، لأنه يعرف تمام المعرفة نشأتي الريفية، ويعرف ماذا تعني كلمة (خوش ولد) في الريف الجنوبي، ويعرف أيضاً بأن المرأة الجنوبية، حين تتعرض لأعتداء ما، وتريد أن تنتخي بأبناء القرية الشجعان، فستصرخ وتصيح قائلة :
– ( ها الاولاد … ها، وينهم النشامه.. ها )!!
وحين تنتخي بأحد الأشخاص لأمرتحتاج فيه للمعونة فهي تخاطبه قائلة : – ( وين الخوش ولد، العاشك، أخو أخيتة، وينه )؟!
أما إذا سأل احدهم عن شخص ما، وكان هذا الشخص أنساناً شجاعاً، وشهماً، فسيكون الجواب عنه مختصراً بكلمة (خوش ولد واخوأخيته)!
ومرت السنين، ودارت الأيام، فكبرتُ، وكبرت معي أشياء كثيرة، ظل بعضها عالقاً في ذاكرة قلبي، ومن هذه الأشياء:(الشيوعي خوش ولد)!
حتى بقيت الى يومنا هذا أزن الشيوعيين بميزان (الشيوعي خوش ولد) فلا أصدق ان شيوعيا – عراقياً – واحداً يمكن ان يكون (موخوش ولد)، بل أعتبرُهذا الأمرمن المستحيلات، وأظن ان السبب في ذلك يعود لتلك
الكلمة التي همسها باذني أبن عمي قبل اربعين عاماً، فعاشت في دمي وكياني كل هذه السنين الطويلة، حتى تجذرَّت في روحي بثبات وثقة عجيبتين، ومما زاد في هذا اليقين يقيناً، أني لم ألتق طيلة حياتي،
سواء الحزبية، أو الأجتماعية بشيوعي حقيقي ( موخوش ولد )!!
وهذا لايمنع القول، بأني التقي أحياناً – بمتشيوِّع – ( موخوش ولد )!!
وكنت استغرب كثيراً لهذا الأمر، فاسأل نفسي : – كيف يمكن أن يكون الشخص شيوعياً، وفي ذات الوقت ( موخوش ولد ) ؟!
ولكني سرعان ما اكتشف بأن هذا الشخص لم يكن شيوعيا حقيقياً، فأما أن يكون واحداً من (وكلاء الأمن)… أو من الذين دفعت به اجهزة البعث للتسلل الى صفوف الحزب، أو من الأشخاص الذين يسعون الى تحقيق أهداف مصلحية معينة عبربوابة الأعلام الشيوعي العريضة، أو ربما يكون من الذين دفعتهم ظروف عاطفية، أوعائلية، أو مدرسية، او صداقاتية، أوغيرذلك من الدوافع لصفوف الحزب، دون أية قناعة، أو أيمان بالفكر، بل ودون ان يعرف شيئاً بسيطاً عن اخلاقيات الشيوعي، تلك الأخلاقية التي تكاد تكون مثالية في شكلها وجوهرها فيندفع (الأخ) الى الحزب، وهو ليس مؤهلاً اخلاقياً، وطبقياً، ونفسياً، وروحياً لتحمل شروط الحزب الصعبة والقاسية، فيسقط في وحل أغراضه الشخصية، وينكشف أمره في أول تجربة، فيغادر الحزب، طائعاً، او مطروداً !!
يحدث أحياناً ان تجد هذا المتشيوِّع (الموخوش ولد) في موقع متقدم في الحزب، أوعلى رأس الهرم الثقافي الحزبي، وقد يطول أمره كثيراً، إذ ربما يستمرفي أداء الدورالمطلوب منه لعشرات السنيين، لكنه حتماً لن يظل مستتراً الى مالا نهاية، فتكشفه الأقداريوماً، أو ينتهي الدورالموكل اليه، أوربما تنفجر(أناه) فتظهرقذاراته (كما هوحال الشيوعي الأخير)! ولا أكشف سراً لوقلت، بان الدهشة والحيرة تأخذاني من تلابيبي كلما أجد (شيوعيا) يشتم الحزب، أويسب رفاقه، فالشيوعي الحقيقي الأصيل والشريف (والمترَّبي) لايشتم الحزب قطعاً، ولايشتم رفاقه، بل ولايشتم وطنياً آخراً يقف معه في خندق المواجهة ضدأعداء الوطن والأنسانية!
لقدعرفت الكثيرمن الشيوعيين الذين غادروا الحزب تنظيمياً منذ ثلاثين أوأربعين عاماً، لكنهم لم يغادروا الحزب وجدانياً وعاطفياً قط،فقد ظلوا على تماس روحي معه، يفرحون في أفراحه، ويحزنزن في احزانه، ويدافعون عنه بكل ما يملكون من وسائل، ينبضون مع نبضه رغم أن بعضهم يعيش في آخرالكرة الأرضية، إنَّ هؤلاء وإن كانوا اليوم خارج صفوف الحزب، الا انهم في واقع الحال في قلب الحزب وضميره، ولا
شك إن السبب في ذلك يعود، لكون أن كل واحد فيهم ( خوش ولد )!! ويشرفني أني عرفت في حياتي الكثيرمن الشيوعيين المضحين الذين نزفوا حياتهم بأيدي الجلادين دون أن يعترفوا على رفاقهم، فحموا وصانوا بذلك حياة هؤلاء الرفاق، وصانوا حياة الحزب أيضاً، فها هو فهد، وسلام عادل، وجمال الحيدري، وحسن عوينة، وجورج تلو، وأبوسعيد وحسن السريع، وعائدة ياسين، ومحمد الخضري، وستار خضير، وفكرت جاويد، وبيا صليوة، وسعدون، وشاكرمحمود ومحمد كريم، وأحمد الحلاق، وجمعة حطاب، وبشاررشيد، وخيون الدراجي، وأبوعليوي ، وخالد حمادي، والدكتورمحمد بشيشي (أبوظفر) وكذلك شمران الياسري، وأبوالعيس، وجلال الأوقاتي، وكريم كاظم، وفليح حسن، وعادل عبود، وطارق محمد صالح، وعمارجابر، وميسون حميد، وألهام علي، وصبيح سباهي، وعشرات الآلآف من الشهداء، والشهيدات الأبطال، إن هؤلاء الشهداء وغيرهم، جاءوا اليوم بكل نورهم، وجمالهم الى قاعة المؤتمر الثامن، ليضعوا ثقتهمأولاً، ومن ثم وصاياهم النبيلة بأيدي نزيهة وطاهرة، تلك الوصايا التي تدعو للمحبة والنضال، وحماية الحزب من الداخل والخارج، وها هوالمؤتمرالثامن للحزب، الوريث الشرعي لقوافل الشهداء، يتسلم الوصايا – الأمانة – فيضعها أبو داود ورفاقه النجباء وسط العيون، فأي حزب عظيم هذا؟!
أدقق جيداً في صورالمؤتمرين، فلا أرى الاَّ تلك الوجوه المشعة بالحب والخير، قد لا أعرف الكثيرمن الحضور، لكني أشعر وكأني أعرفهم واحداً واحداً، فهاهوالمضيء أبوداود (ضمانة الديمقراطية في الحزب) والذي تقول عنه الحجية أم جبار، كلما ظهرعلى شاشة التلفزيون :-
( يمَّه جبارهذا حميد أبوالشوعية شحلاته، شوف وجهه أشعرضه، أمنوِّر، حسبالك وجه سيد )!! ومع ( أبو داود ) ثمة كوكبة من الرفاق المناضلين الأشداء، منهم أبو فلح، وأبو أحلام، وأبو ربيع، وأبو جواد،
وأبو سلمان، وأبو لينا وأبو نورس، وعشرات الوجوه، والقلوب النبيلة، وثمة آلاف بعيدة عن قاعة المؤتمر، لكنَّ أرواحهم وقلوبهم تنبض مع نبض قلوب المؤتمرين، تعالوا وأسألوا أبا أحمد، وأبا تميم، وأبا سلام، ونجاح، وأبا جمال، وكمال، وأبا هيلة، وأبا الفوز، وأبا ياسر، وشاكر، وكوكب ورياض وطالب، وعلي وحميد، وناهدة وفيصل، وأبا وصال، وأبا ورود، وأبا أسيل، وحميد أبا نغم، والقابجي، وأبا سومر، وأسألوا كوكبة المحبين البعيدين- جسداً فقط – أمثال المطير، والدجيلي، ووداد، والعبيدي، وأسمعوا أجوبة آلاف الطيبين الذين قد لا أعرفهم بالأسم، أو بالملامح، لكني أعرفهم بالوجدان، والعاطفة، والضمير، وأتحاد النبضة بالنبضة، أعرفهم واحداً واحداً، عبرميزتهم، وصفتهم المعروفين بها، أقصد تلك الميزة والصفة التي لخصَّها لي أبن عمي قبل أربعين عاماً، حين قال لي بأن الشيوعي:(خوش ولد وأخوأخيته)!!