كنا ، أنا وشقيقي سعيد الذي يصغرني بسنوات لا نعرف شيئا عن الوالد ، وكلما كنا نسأل عنه كانت الوالدة تنسينا السؤال بسرد حكاية طويلة يسرق النوم لذة بلوغ الخاتمة السعيدة أو الشقية لأبطالها ، كنا نلتقي بصديقاتنا وأصدقائنا في المدرسة وهم يحكون عن الهدايا التي تلقوها من آبائهم ونحن لا نعرف شيئا عن الأب ، لا نتذكر آخر لقاء لنا إياه ولا آخر قبلة طبعها على وجناتنا ولم نتعرف عنه حتى من خلال صورة شمسية له في المنزل الا بعد إذاعة بيان الحادي عشر من آذار عام 1970 ، حيث قادنا أحدهم الى ال ( باره گا ) وهو الاسم الذي كان الناس يطلقونه على اللجنة المحلية للحزب الديمقراطي الكوردستاني ( الپارتي ) وسألنا ملوحا بأصبعه على صورة كبيرة لرجل في الثلاثين من عمره ذو شوارب مفتوله وقامة فارعة يرتدي الساية والزبون ، الزي الذي كان شائعا في مدينة كفري حتى ستينات القرن المنصرم ، وقال لنا هذا هو الشهيد ( كريم أبو شوارب ) وهو والدكم الذي لم تعرفوا عنه شيئا ، كانت لحظة مليئة بالمشاعر والأحاسيس التي أغرقتنها في دوامة من الخيال الذي حملنا على أجنحته الى ماض لا نتذكر عنه شيئا ، عبثا نضغط على زر الذاكرة كي نعيد صورة الرجل المثبتة صورته في إطار ذهبي الى أذهاننا بلا طائل ، أنها أيام بعيدة جدا لم تحتل موقعا في مخيلتينا نحن الذين كنا وقت مغادرة الوالد الى هضاب گرميان بيشمرگة في ثورة أيلول بداية الستينات أطفال في عمر البراعم ، ولكننا ملئنا زهوا وفخرا بمن أصبح أغنية في ثغر الجماهير أثناء أحتفالاتها في شوارع كفري وهي تقول ( كاكه كريم به شاخه وه ، تو بو كوزراي به داخه وه _ أيا كاكه كريم الرابض في الجبال ، أسفا أودعتنا شهيدا ) ، فمن الآخرين فقط علمنا بأن الوالد قد تصدى بكل بطولة وإباء لهجوم العدو في المعركة البطولية التي عرفت تأريخيا بمعركة ( قاته كان ) وأستشهد فيها 29 فردا من أبطال ثورة أيلول ولكل فرد من هذه الكوكبة قصة تفيد أن تدون كملحمة من ملاحم الدفاع عن كوردستان ، وكان نصيب أبي مع الشهيد الخالد عريف عبود وقد تسلقا كلاهما دبابة للعدو بعد نفاذ عتادهما فأصابتهما دبابة أخرى من الخلف حسب شهود عيان .
في الصيف الثاني بعد توقيع إتفاقية آذار كان الرئيس مسعود بارزاني في جولة الى مدن وقصبات كوردستان أختتمها في مدينتنا كفري ، أذكر جيدا أن أبناء وبنات المدينة خرجت عن بكرة أبيها لأستقبال الرجل لكي يستمعوا الى ما يقوله في خطابه المرتقب في مدينتهم ، ولكن الرئيس أبى أن يخطب قبل الالتقاء بأولاد الشهداء ، ولم يكن مثل هذا اللقاء في منهاج الأستقبال ، فسارع أفراد من البيشمركة الى دارنا القريبة من منصة الخطابة الكائنة قرب سراي المدينة ، فأحضرونا أنا وشقيقي سعيد ونحن نرتدي الملابس الكوردية الزاهية فكان لقائنا الذي لم يستغرق الا دقائق معدودة صافحنا فيها الرئيس ومنحنا خسمة دنانير لكل منا وثم طبع على وجناتنا قبلتين منحتنا كل ما فقدناه من حنان الأبوة .
تمر اليوم خمسة وأربعين عاما على أستشهاد الوالد كريم أبو شوارب وستة وثلاثين عاما على لقائي بالأب الروحي مسعود بارزاني ولا زلت أحتفظ بتلك الذكرى كأجمل ما أملك وطالما حدثت أولادي وبناتي عن تلك ذلك اللقاء .
وكلما ظهر الرئيس على الشاشة مصافحا رؤوساء وملوك العالم أهتف بلا شعور (( ذلك هو أبي ….. )) .