عندما نناقش و ندافع عن آرائنا ، من المفروض أن یکون الدفاع و النقاش في إطار دیموقراطي. لحد الآن لم أقرأ مقالا لایدعي الدیمقراطیة ، أو یلعن النظام الدیموقراطي. فالکل کما یبدو متفق علی إن الدیموقراطیة نظام یقع فوق الآیدیولوجیات الدینیة والعلمانیة والثوریة والمحافظة. هذا أساس مهم لبناء جسورالحوار بین الاطراف المتنازعة والشروع بتبادل الآراء و بدون فهم سابق عن الآخر.
فإن کنت مارکسیا أو مسلما ، رأسمالیا أو لیبرالیا ، یهودیا أم نصرانیا فلیس من حقك تجاوز الحدود التي یرسمها لك النظام الدیمقراطي . فإنك کفرد ( أو کفئة) لایمکن فرض رأیك علی الاخرین فقط لان شیخ العشیرة قال ذلك أو بأن رجلا عالما أو فیلسوفا یقول هذا الذي أنت تؤمن به. فالإنسان الذي یؤمن بالإسلام ( أو أیة دیانة أخری) أو بالمارکسیة ( أو أیة آیدیولوجیة أخری) ، من حیث المبدأ ، لایخالف الدیموقراطیة. فالدیمقراطیة هي تلك الحیز الذي یتعایش فیه الافکار و الآراء دون تناحر دامي. نعم هناك منافسات و هنالك إختلافات في الآراء ومناقشات حادة وخیبة أمل والشعور بالظلم . ولکن کل هذه الإحساسات والأفعال یجب أن تقع داخل الحیز الدیموقراطي وتحدث في فضاء دیموقراطي. فکونك مسلما لایعطیك الحق بأن تقتل الآخر لأن الآخر یختلف معك في الرأي و في الرؤی. کونك مارکسیا لایعطیك الحق بأن تقتل الآخر کون الآخرلایؤمن بما تؤمن. ضمن هذا المفهوم وفي هذا الإطار فقط بإمکاننا ممارسة الدیموقراطیة والعیش في السلام و الرفاهیة . وفقط في هذه الحالة یمکن لبلد ولدولة ولشعب و لأمة ولحکومة من التطور و العیش في السلام مع نفسها. ففي الفهم الدیمقراطي لا فضل متمدن علی قروي ولا مؤمن علی غیر المؤمن، ولا الاکثریة العرقیة أو الدینیة علی الاقلیة. یجب تحلیل الواقع علی أساس تأریخ الصراعات المتواجدة في المجتمع ومحاولة إیجاد حلول لها ولیس نفیها و إنکارها بکلمات براقة وغیر فعالة.
فأذا نظرنا الی تأریخ العراق الحدیث نری بجلاء ما هي الاسباب الحقیقیة وراء التراجیدیا العراقیة الدامیة. کانت المنطقة التی أسست علیها الدولة العراقیة الحالیة جزء من الامبراطوریة العثمانیة الغارقة في التخلف والفساد الإداري. کانت الإمبراطوریة سنیة المذهب وکانت تجند أفرادا للجیش وإدارة الدولة من أهل السنة. فضباط الجیش العثماني من العرب والکورد کانوا حصرا من السنة. ومارس الإمبراطوریة العثمانیة سیاسة التمیز المذهبي بحق الشیعة. والخلاف الدموي بین دولة إیران الشیعي والإمبراطوریة العثمانیة السنیة کان سببا لسیاسة تهمیش الشیعة في العراق من قبل الإمبراطوریة العثمانیة. عندما جاء الاستعمار البریطانی الی المنطقة و أسس الدولة العراقیة علی الجغرافیة الحالیة لدولة العراق ، فرض البریطانیون علی هذا الخلیط البشري الذی کان یعیش علی تلك الارض دولة ونظام سیاسي معین. تأسست الدولة العراقین إذا من قبل قوی و دول ما کانت لها أية علاقة بالمنطقة ولا بتأریخها ولا بثقافتها. فقد أسس الإستعمار البریطاني العراق علی شکلها الحالي من أجل مصلحتها الجیوپولیتیکیة في المنطقة دون أي إعتبار بالترکیب العرقي أو المذهبي أو الثقافي أو التأریخي لقاطنیها . و بعدها فرض الإستعمار البریطاني النظام الملکي علی شعوب الساکنة في العراق. لا الدولة المذهبیة العثمانیة ولا الاستعمار البریطاني حاور الناس أو نخبهم الإجتماعیة. في الحقیقة کانت النخبة في المنطقة غیر قادرة علی فهم الأبعاد السیاسیة والإقتصادیة لوجود الدولة القومیة وما کانت تعرف مزایاها. المستلزمات الاجتماعیة و الإقتصادیة لبناء دولة قومیة ما کانت موجودة في المنطقة. فإختلط الوعي القومي والوطني والإنتماء المذهبي والإثني والقبلي عند النخب الفاعلة في المجتمع العراقي المرکب حدیثا.
جند البریطانیون الطبقة الحاکمة الجدیدة في العراق الملکي وجيشها من الإداریین و العسکریین المتبقیین من الدولة العثمانیة. فقادة الجیش العراقي ماکانوا سوی ضباط في الجیش العثماني وما کانوا سوی سنة من الکورد و العرب وبقایا الأعراق المختلفة الذین کانو یعیشون تحت المظلة العثمانیة . بذلك إستمرت تهمیش الشعیة في الدولة العراق الجدیدة ،رغم أنهم کانوا ، و ما یزال ، الأکثریة.
بإنتشار الفکر القومي في المنطقة بین العرب و الکورد إستبدل النخب الفاعلة في المجتمع العراقي هویة الإنتماء من القبیلة والمذهب الی الإنتماء القومي ، أي العرقي . و بما إن الاکثریة في الدولة العراقیة کانوا عربا فقوة الکورد عسکریا وإجتماعیا وسیاسیا قد تقلصت تدریجا. وبدأ الحکم الملکي في العراق الحدیث یتبنی الخطاب القومي العربي وخاصة بعد نجاح العسکریین في مصر في إستلاء علی السلطة وبخطاب قومي عربي.
وبذلك أصبحت مقاومة الإستعمار مقاومة ممزقة ، أثنیة ، طائفیة وغیر منظمة ومبنیة علی أسس غیر دیموقراطیة وغیر تحلیلیة وغیرعلمیة. المعارضة الیساریة المتمثلة بالحزب الشیوعي العراقي الذي کان یضم في صفوفه جمیع الاقلیات القومیة و الدینیة الموجود في العراق کانت تنقصها التحلیل الجدلي لتأریخ المجتمع العراقي ونموها الإقتصادي.
هذه المعارضة الممزقة غیرالدیمقراطیة ( الیسارالعراقي من ضمنها) عملت بدون تحلیل للواقع العراقي وبدون معرفة لجدلیة الواقع الاجتماعي – الإقتصادي والواقع الفکري – التأریخي. وکانت إسلوب المعارضة غیر مبرمجة وغیر مدروسة وغیر منسقة. کانت المعارضة غیر قادرة علی تنقیة نفسها من إرث الإنتقام الدموي وعقلیة الثأر البدوي. والعلاقة الفاعلة بین الحاکم والمحکوم کانت مبنیة علی عقلیة الغزو والنهب والبطش حتی عند المعارضة. فما کانت هناك مجال ولا حیز للتحاور و تبادل الآراء ، لابین السلطة و المعارضة ولا بین الفئات المتعارضة. وفي هذه الفترة الزمنیة غیرت النخبة العسکریة إسمها الی ضباط الاحرار إسوة بالعسکریین المصریین وأضحوا الناطقین بإسم الفکر القومي العربي.
وعندما نجح العسکریون العراقیون في محو النظام الملکي بشکل همجي وقتل أفراده ، بدأت الفئات الأخری في المعارضة العراقیة بتهیئة نفسها لمعارضة النظام الجمهوري الجدید. و بغیاب الدیمقراطیة وتسلط الفکرالواحد الأوحد وإعتقاد النخبة الحاکمة بإمتلاکها الحقیقة المطلقة ونفي الآخر لم یتحسن شیئا لصالح الناس. ففهم النظام السیاسي الجدید للسلطة ، من البعد الثقافي و الحضاري ، لم یکن یختلف عن مفهوم السلطة في العصر العثماني . وإن الأغلبیة المطلقة للعسکریین العرقیین کانوا من السنة ووارثي الفکرالطائفي العثماني المندمج بفکرالقومي العربي . وکانت النخبة الکوردیة قد إندحرت من السلطة المرکزیة وکونت قوة سیاسیة معارضة للقومیین العرب بمختلف تکتلاتهم . وخلال الستینیات القرن الماضي کانت مهزلة الإنقلابات العسکریة في أوجها وکان القاسم المشترك لهذه الإنقلابات العسکریة هو الإدعاء باڵعروبویة وإتهام الکورد بالخونة. تکاثفت أتهام الکورد بالخونة في عهد البعثیین وتحولوا من شرکاء في الوطن الی ضیوف علی أرض العراق العربي وأصبحت الدولة العراقیة عربیة وحدودها مقدسة عدا للعرب . فکلنا نتذکر المحاولات الإتحادیة الهزلیة والهزیلة مع مصر وسوریا.
عندما عرف (بتشدید الراء) النخبة العسکریة الحاکمة في العراق وفي إطار الفکر القومي العربي الکورد في العراق کونهم سبب النکسات في فلسطین و المغرب العربي وتقسیم الوطن العربي ، والانسحاب من أسپانیا وإندحار العرب في حروبها مع البیزنطینیین ، أصبح قتل الکورد مشروعا ، ومشروعا وطنیا وقومیا. بدأ الفکر العربي القومي إضهار الکورد کخطر علی الامن قومي العربي ونقطة الضعف في بوابته الشرقیة . وعندما إنهارت المقاومة الکوردیة في مؤامرة دولیة في منتصف السبعینیات من القرن الماضي أعلن النظام البعثي الحاکم بیانا بـ ” إصال الثورة الی الجبال” والذي کان یعني تعریب الکورد ، لیست أرضهم وإنما إنتمائهم العرقي أیضا. فآلاف من الامیال من الاراضي الحدودیة قد تحولت الی أراض متروکة محرمة وآلاف من الکورد القاطنیین في هذه المناطق قد هجرت قسرا. وآلاف من الکورد القاطنیین في خارج حدود کوردستان قد هجروا الی إیران وقتل أبناؤهم علی ید العسکر البعثي ونهبت ممتلکاتهم . آلاف من الکورد قد أعدم وقضی حیاته في السجون. هنا لاأتکلم عند الغدر والإضطهاد للشیعة والعلمانیین واللیبرالیین من العراقیین.
هذه التراکمات من الظلم والغبن والتشرید ، بأعتقادي ، لایمکن أن تمحی بکلمات مثل التمدن ، حضاري ، یساري أو إنساني. هذه العبارات یجب أن تترجم الی أفعال ملموسة . یجب خلق أجواء لنمو الدیمقراطیة ومحو أثار الأضطهاد من علی ذاکرة العراقیین. وأکثر الفئات فعالة في هذا المضمار هم العلمانیون و الیساریون الذین یملکون أداة وفکر لتحلیل المجتمع وسبل تطوره وقراءة التأریخ جدلیا. یجب علی العلمانیین و الیساریین أن یکونوا حاملي رایة الدیموقراطیة في العراق. یجب أن یحللوا التأریخ جدلیا.