الشفق
ازدهرت الأغنية السياسية الكوردية مع تنامي النضال التحرري للشعب الكوردي أوائل هذا القرن، والذي تجسد بقيام الثورات والانتفاضات المسلحة في العراق وتركيا وايران احتجاجاً على سياسة الاضطهاد القومي التي كانت تمارسها الحكومات الرجعية المعادية للحقوق القومية العادلة للكورد.
ويمكن القول ان النشأة الأولى للأغنية السياسية الكوردية تتوغل في تاريخ أبعد، فمع تسخير الفلاحين والكادحين من قبل الاقطاعيين وملاك القرى نشأت أغنية ذات سمات شعبية واضحة يمكن اعتبارها البداية التي انطلقت منها، فيما بعد الأغنية السياسية.
كانت تلك الأغنية، من حيث الشكل ذات إيقاعات بسيطة وُضعت لتناسب النشاطات التي كان يؤديها الفلاحون في الحقل. أما من حيث المضامين فتتميز الأغاني الشعبية الكوردية المبكرة بأنها عبرت عن معاناة الفلاح الكوردي من واقع القهر والاستغلال والظلم، ونزوعه الى التحرر من الجور الطبقي والاضطهاد القومي… والمؤسف ان هذه الأغاني غير مدونة، وهي لهذا السبب تختلف في شيوعها وتأثيرها عن الأغاني السياسية المدونة التي يجمعها بالأولى أكثر من وشيجة في مقدمتها المضامين الديمقراطية التقدمية. والآن لنعد الى العقدين الأولين من هذا القرن، أي الى الحقبة التي قلنا ان الأغنية السياسية ازدهرت فيها، وبالتحديد الى عام 1919، حين تم اخماد ثورة الشيخ محمود الحفيد في منطقة السليمانية (1918- 1919) من قبل قوات المستعمرين البريطانيين وعملائهم. لقد تفجر الغضب على وأد الثورة في كوردستان، وراح الكورد يمجدون هذه الملحمة البطولية بالشعر والأغنية…وهذه الأخيرة اعتمدت الاسلوب الغنائي (لاوك)2 الذي صار يتردّد في كل مناسبة ومجلس وبيت…في ليالي الشتاء الكوردية الطويلة، وفي اجتماع الأهل أمام الموقد…في الحقل وفي كل مناسبة يلتقي بها الكوردي مع طبيعة كوردستان الخلابة، ويتأمل أرضه التي تدنّسها أقدام الغزاة. تقول احدى الأغاني: ينادي الشيخ محمود كريم فتاح ثلاث مرات، كونوا شجعاناً سيطرت على مدينة كركوك وسأسيطر على مدينة بغداد ولكن ماذا أفعل؟ بعيدة هي نجدة تركيا3 انادي…استنجد ولا أحد يلبي النداء…4 ومما يروي عن البدايات الأولى للأغنية السياسية الكوردية، أن المطربة فرحة (أم جمال) هي أول امرأة كوردية غنت الأغاني السياسية تمجيداً للشيخ محمود الحفيد، وللشيخ سعيد بيران أحد قادة الثورة الكوردية (1925)، وذلك في كوردستان تركيا عام 1928. وتذكر هذه المعلومات أن (أم جمال) سجلت أغانيها السياسية العاطفية في شركة (اديون) لتسجيل الاسطوانات في بغداد، كما غنت في الاذاعة الكوردية بعدئذ، إلاّ أن كل هذه الأغاني تم اتلافها فيما بعد ولم يبق منها سوى أغنية واحدة في الاذاعة الكوردية اسمها (المترنحة).5 أما سبب اتلاف أغاني المطربة فرحة كما تشير المعلومات ذاتها فهو أن ( أم جمال) تزوجت فاشترط عليها زوجها الامتناع عن الغناء، بل قام باتلاف جميع اسطواناتها. ويؤسفنا اننا لم نستطع للأسباب التي ذكرناها الاطلاع على نصوص الأغاني السياسية لهذه المطربة لنتعرف على خصائصها ونقارنها بالنصوص الأخرى ومنها نص الاغنية المكرسة للشيخ محمود الحفيد الذي اثبتناه آنفاً. وفي كوردستان تركيا تأثرت الأغنية السياسية في تلك الفترة بالأحداث ذاتها وتجاوبت معها، فترددت على ألسنة الكورد بعد الانتفاضات التي اندلعت في (ديرسم) و (وان) ومناطق أخرى أغاني عديدة تحرض على رفض الخضوع وتدعو الى التمرد على أداء الخدمة العسكرية في جيش العدو. ولكورد سوريا دور بارز أيضاً في احياء التراث السياسي للأغنية الكوردية قديماً وحديثاً وفي تطوير أشكالها ومحتواها. وعكست أغاني هذه المنطقة نضالات الكورد ضد سيطرة الدولة العثمانية وضد اضطهاد المالكين واعتداءات بعض العشائر على المناطق والقرى الكوردية. ولعل من الأمثلة البارزة على أغاني الفترة المشار اليها (أي عشرينات القرن 20) ماقدمه ابراهيم باشا المللي الذي كان يقطن مناطق (ديركي) و (هليليه)، وبخاصة أغنيته الشعبية السياسية الطويلة التي يتغنى فيها ببطولات الشعب الكوردي وتضحياته الكبيرة، وتمسكه بالشجاعة رغم تفوق المعتدي (الحكومة التركية آنذاك). ونورد هنا مقطعاً من أغنية له باسم ( سيد خان الأطرش) وهي تتحدث عما جرى في كوردستان تركيا. تقول الأغنية: لن أدع شباب الكورد يحشرون أنفسهم في هذه الملابس الضيقة أرفض الخدمة أرفضُُُ…. ورغم كل ماحدث، وما تعرض له الشعب الكوردي في العقدين اللاحقين، أي بين العشرينات والأربعينات بلغ مدّ الأغنية السياسية الكوردية ذروته في الأربعينات. وتجلى ذلك في عدد من الأغاني التي تمجد روح المقاومة وتؤكد عزم الكورد على المضي في نضالهم للظفر بحقوقهم القومية. ان أغنية (أيها الرقيب) تعد مثالاً بارزاً للغناء السياسي في هذه الفترة، وهي مازالت، حتى يومنا هذا، تنشد وتغنى، ان لم نقل أنها أصبحت بمثابة النشيد الذي يحتل الصدارة في المناسبات القومية. تقول بعض مقاطع الأغنية أيها الرقيب باق قوم الكورد لاينكسر، لا يتحطم بمدافع العالم لا تقولوا مات الكورد أحياء نحن، ورايتنا لن تُخفض نحن أحفاد ميديا وكيخسرو ديننا وإيماننا الوطن بعد الأربعينات حدثت نقلة في مضامين الأغنية السياسية الكردية فأصبحت هذه المضامين أكثر وضوحاً وواقعية، بل أكثر تقدمية. فيها أصبح واضحاً اسلوب النضال الصائب، وصارت الجماهير صاحبة الكلمة الأولى، وتم تجاوز اسلوب الندب والتفجع، وإثارة أحاسيس المستمع بالكلمات الطنانة الفخمة. وبدلاً عن الأسى والنوم والبكاء على ماحدث من مآس وأهوال ، حلّ التفاؤل المفعم بالثقة بالنصر. وباختصار يمكن الاستنتاج ان مضامين الأغنية في تلك الحقبة أصبحت أقرب الى الواقعية، وأكثر وعياً لمتطلبات الثورة. نذكر هنا، على سبيل المثال، أيضاً، أغنية (شجرة الحرية) التي جاء في مطلعها: لن تثمر شجرة الحرية إذا لم تروََ بالدماء لن تظفر بالاستقلال أبداً…إلاّ بالفداء لا شكّ أننا لا نستطيع في هذا المقال أن نلم بكل تفصيلات واقع الأغنية السياسية الكوردية ولكننا لا نعدم الحق إذا قلنا أن هذه الأغنية ثرية ومتنوعة، وان ثراءها وتنوعها يعكسان الحياة الاجتماعية والنفسية للمجتمع الكوردي بمآسيه وأفراحه وانتصاراته وأحزانه. دعونا نقف عند كوردستان العراق باعتبارها مركز الاشعاع الثوري لكوردستان كلها والأرض التي رعت القسط الأكبر من النضال القومي والتحرري. لقد واصل كورد العراق نضالهم الصعب الشجاع وكسب الثورة الى جانبها مساهمة وعطف الغالبية الساحقة من الجماهير الكوردية التي قاتلت ببطولة وصبر وتحملت أقسى المحن والويلات من أجل انتصار قضيتها العادلة، حتى تمكنت من احراز بعض حقوقها في انتزاع بيان آذار عام 1970 الذي اعترف بالحقوق القومية لكورد العراق. ولكن سرعان ما تنكر حكام البعث العفلقي لهذا البيان بعد أن لجأوا الى تشويهه وتمويهه. وبعد سنوات قليلة من اعلان الأتفاقية، وبالتحديد منذ عام 1973 عاد صوت الأغنية السياسية الكوردية ليصف هذه الكبوة الجديدة وينبه اليها، ولكن باسلوب لم يتمكن، للأسف، بسبب الظروف التي أشرنا اليها من تجاوز المآسي وندب الحظ. ومن الأغاني التي انتشرت بسرعة في تلك الفترة وكان لها تأثيرها الواسع ليس على الكورد العراق حسب، بل على جماهير بقية أجزاء كوردستان، أغنيتا ( أيها المدار) و (الرحى) وهذه مقاطع منها. أئن لك أيها المدار لماذا ذبل نرجسنا لماذا نحن غير محظوظين لا صديق لنا ولا صاحب ترى هل يأتي ذلك اليوم الذي يتدفق فيه نبع المنزل لنروي منه، رافعين أيدينا الى أقصى ما نستطيع قطعت الشجرة، يدُ الفأس منها10 ساقوا الخروف الى المقصلة والحبل الذي رُبط به من صوفه أما أغنية ( الرحى) فتقول: اطحني أيتها الرحى آلامنا جسيمة صوت الرحى: صراخ وأنين حسرة، مناداة، واستنجاد اطحني الحََبّ أيتها الرحى لسنا واحداً أو اثنين نحن الوف الالآف، ولكن في أربعة أماكن منقسمين… اذن فقد تردد صدى ما كان في كوردستان العراق بعد ثلاثة أعوام فقط من أتفاقية آذار في الأغنية الكوردية: مناورات النظام المباد للإجهاز على مكتسبات الشعب الكوردي التي حصل عليها بنضاله الطويل الصعب، ومحاولاته افراغ نصوص بيان آذار من محتواه، حتى جاءت اتفاقية الجزائز المشؤومة في آذار عام 1975 بين صدام وشاه ايران لتعجل بهزيمة الحركة القومية الكوردية المسلحة، أو بالأحرى لتعرقل مسيرتها ونضالها بعض الوقت. حينذاك، وبعد هذه الهزيمة بفترة قليلة كان على الأغنية مثلها مثل النشاطات الابداعية والفكرية الأخرى أن تنخرط في عملية الذات وتلمس أسباب ما جرى ويجري. لقد وقف الشعب الكوردي وقفة مسؤولة مع نفسه، ومع قياداته متمسكاً بحقه المبدئي في الحياة والتحرر من القهر الطبقي والقومي وممعناً النظر والدرس في مضمون حركته القومية وسرّ نجاحاتها وأسباب إخفاقاتها. ولعل من أبرز الدروس التي بلغتها الحركة القومية الكوردية في كوردستان العراق بعد هزيمة منتصف السبعينات هو تشخيصها لما يجب أن يكون عليه مضمونها التحرري التقدمي المعادي للرجعية والامبريالية، وتشخيص قواها وأعدائها داخل المجتمع الكوردي وخارجه، وصياغة تحالفاتها، في هذا الضوء مع المناضلين الحقيقيين من أجل حقوق الشعب الكوردي، ومع أصدقائه الذين يدعمون حركته التحررية القومية بصدق وثبات. على هذه الأرض الجديدة هبت الأغنية السياسية الكوردية لتمزق من جديد سُُتر التشاؤم والندب السلبي ولتساهم في توعية الشعب بكافة طبقاته وفئاته ذات المصلحة بالنضال التحرري القومي وآفاقه التقدمية، وفي إيقاظ حماسه، وفي مخاطبة الرأي العام غير الكردي بعدالة نضال وقضية الكورد.