الرئيسية » الآداب » عبدالحكيم نديم – البكاء باللون والكلمات

عبدالحكيم نديم – البكاء باللون والكلمات

الفنان عبد الحكيم نديم نقل لنا جانباُ من ذكريات الطفولة ورحلة الزمن الطويل، وتأثيره المبكر منذ الطفولة بأجواء الفن والخط في أعمال إخوانه، الذين سبقوه في مشاهد الإبداع في الرسم والخط. وتحدث عبر خزين ذاكرته ومحطات الزمن قائلاً:
ـ أتذكرهم، وأتذكر طفولتي الجميلة معهم، وكيف كنتُ أعبث بعلب الألوان، وأمزج الألوان الموضوعة فوق الطاولة، وألوث أصابعي بالزيت، وبألوان الماء والأكريلك، وبعدما كبرت شعرت بأني كم كنت قاسياً في حق الأصباغ الغالية، وشقياً في تعاملي مع مزج الألوان، وكيف أنهم كانوا يصبرون عليّ، ولم يعاقباني من خلال عبثي بالوانهم. فلقد نشأت في تلك البيئة الفنية الرومانسية الرائعة، وعشقت رائحة الزيت والمواد المستخدمة في عمل مزج الألوان، عشقت مبكراً صوت أم كلثوم وعبد الحليم وصوت علي مردان وحسن زيرك وكاويس آغا، وصوت أكرم طوزلو وزكي موران، في ذلك الفضاء الفني الشاسع، فأحببت الشعر والأنغام واطلعتُ مبكراً على أعمال الفنانين العالميين الكبار أمثال: بابلو بيكاسو، سيزان، دافنشي، مايكل أنجلو، وسلفادور دالي، وعمالقة الفن في الدول الأخرى، وتعلمتُ المزيد، وصقلتُ نفسي عن طريق شغفي بأعمالهم تلك الموهبة الربانية، ومن خلال تشجيع أساتذة الفن لي أيضاً في مراحل الابتدائية مثل الأستاذ كمال ملا خليل في كفري، والأستاذ عزالدين إسماعيل في طوزخورماتو، والذي اعتقله النظام الشمولي قبل 25 عاماً بسبب مواقفه الوطنية المشرفة، واستفدت كثيراً من أحاديث وتوجيهات الفنان الكبير الراحل محمد مهدي خليل طوزلو، والذي كان يعد من عمالقة الفن الكلاسيكي في عموم العراق، وقد توفي في عام 73 دون أن يذكره أحد من الفنانين ولو بلمحة خاطفة.
ومن خلال اهتمامات أخواني الفنانين بيّ، واحتضانهم لإبداعي المبكر، خطوت بعشق جنوني نحو عالم الرسم، ورسم الكلمات بالألوان السحرية، فعشقت اللوحة والريشة، وكنت أراهم في غضون أيام يحولون تلك الأشياء الجامدة إلى كتل لونية ناطقة بالمحبة، ومشاعر فياضة تناجي الروح. فكيف لاأعشق إذن الريشة الجميلة، وأنا في تلك البيئة الخلابة. باختصار تلقيت كل التشجيع من لدنهم، إلى حين بلورة موهبتي وصقل تجربتي الفنية الخاصة، وعالمي الخاص، بعيداً عن كل المؤثرات الخارجية الأخرى، فاستطعت من خلال قراءتي واطلاعي على تجارب أخواني الفنانين والفنانات في العراق وبقية الدول، أن أطور من أدواتي الفنية، وأسلوبي الفني الخاص، وهذا لا يعني أن الإنسان الفنان صاحب رسالة فنية نبيلة، لايحتاج أن يجد ويبحث عن عوالم جديدة وينقطع عن العالم، بحجة البلوغ والوصول إلى القمة الفنية. أنا في بحث دائم وقلق في عالم يشوبه الحروب والدمار ومصادرة حقوق المرأة، واغتصاب أراض الغير بالقوة، وحجر الفكر النيّر، فليس غريباً عليّ بألا أعرف السكون والركود، فأنا في دوامة البحث عن سر أطياف الكون، وعن ماهية علم الفلسفة والجمال في روح الإنسان والطبيعة، ويحيّرني بعد المطر جمالية ألوان قوس قزح، والألوان السبعة في ساعات الفجر في صيف وطني الخلاب، وساعات الغروب على نهر دجلة، كل هذه الأضواء السحرية تكون جانباً مشرقاً في فضاءات لوحاتي.

* كفنان تشكيلي وشاعر كردي، كيف ترجمت طفولتك وأحاسيسك الإنسانية تجاه الشعوب المضطهدة، من خلال فضاء اللون والكلمات؟.
ـ للإجابة على سؤالك، عليّ أن أرجع قليلاً لتاريخ مأساة شعبنا، والكوارث التي حلت بكردستان أرضا وشعباً ومدناً وثقافة؛ بدون قراءة تلك الملاحم واستذكارها، لا يمكن للفنان أو الشاعر أن تكون أعماله وإنتاجه موضع تقدير واحترام شعبه، والموقف المشرّف، هو الذي يخلد الفنان والشاعر، وبطبيعة الحال، استطعت أن أعبر عن قضية شعبي وعن مأساتهم الإنسانية في سبيل نيل حقوق القومية المغتصبة، وتصوير معاناة أطفال كردستان وهم يلقون حتفهم في صدر أمهاتهم جوعاً ومرضاً في المعتقلات الرهيبة في نقرة السلمان، ولا تجد أمهاتهم مدفناً لهم، فيكونون طعماً للكلاب السائبة أمام مرآى ذويهم، دون أن تدمع عيون أزلام النظام لهذه الفراشات المذبوحة، فأنا استطعت ولو بجزء يسير أن أصور جانباً من تلك المذابح والمجازر، التي ارتكبت بحق أبناء شعبي بالريشة الدامعة وبالكلمات الناطقة لحسراتهم المدفونة في أخاديد المقابر الجماعية السرية، ولقد كتبت بحس الشاعر وبلوعة فنان الذي لا يملك سوى ألوانه ولوحاته، ولقد استطعت أن أرسل الكثير من تلك الرسائل كلوحات وقصائد وقصص إلى ضمير شعوب العالم، تحكي معاناة أطفال العراق في ظل سياسة القمع والتنكيل.
فطفولتي التي عشتها في مدينتي المحاصرة منذ نصف قرن بالمخافر والمخبرين، لا تختلف عن طفولة أطفال حلبجة وأطفال الهور، كنا نحلم في طفولتنا بكرة قدم صغيرة لنلعب مع أطفال الحارة، أو بوجبة غذاء مكونة من الرز واللحم والفواكه، ونحن أطفال أغنى بلد نفطي في العالم، وأعتقد إن الحرمان والصبر على الجوع، ومقاومة برودة مقاعد الدراسة في الشتاء، خلقت منا كل هذه الطاقات والإمكانيات المبدعة، ولم نركع لابتزاز الجلادين، واستطعت أن أترجم كل هذه الذكريات المؤلمة والمشاعر الإنسانية إلى لوحات حقيقية، وقصائد معبرة بعمق عن تلك الطبقات الرازحة تحت خط الفقر المدقع، وبعدما وعيت على الحياة، وفهمت أساليب المحتلين تحولت إلى خنادق المقاتلين برصاص الكلمات ورشقات اللون جنباً إلى جنب المقاتلين في جبهات المقاومة.

*الذاكرة القلقة والتأمل الصوفي العميق، والبكاء بصمت خلف كتل ألوان لوحاتك ماذا تعني لديك؟.
ـ في حياة كل إنسان محطات، يستريح فيها فترة، لكي يعيد شريط ذكرياته وذاكرته المزدحمة بالمواقف والصور الكثيرة، والفنان في حالة التأمل والاسترخاء، يستعير للحظات السكون النفسي، ويسبح في بحر الخيال، بعيداً عن عالم الضجيج، والبحث عن المادة، ونسيان الجوانب الرومانسية ودفء الصداقة في ظل طغيان المصالح الذاتية الضيقة، فمثلاً أنا بعد شهر من العمل والإنجاز، أحس بتعب روحي وقلق يجتاح ذاكرتي، فمثل حاجة الجسم للسعرات الحرارية والمواد الضرورية لديمومة العيش، أحس بحاجة ماسة لفترة الصفاء الروحي والتأمل الصوفي، كما أسميته أنت، والى البكاء لترميم جدران الروح من الكبت والحزن، لاأدري..! البكاء يكون عندي أحياناً بالدموع كباقي البشر، والبكاء باللون وبالكلمات، أحياناً أخرى فبكائي يكون صامتاً، لئلا أكدر فرح الآخرين، وأكون مصدر شقاء لمسرات الناس.
* متى ترسم؟
ـ أرسم عندما أسافر مع أطياف ساعات الفجر، أو عندما أكون حزيناً من حالة ما، لا أتمكن من تجاوزها، أوعندما أصبح في حالة قلق موجع على مصير من يذكرونني في غيابي.
* ماذا تعني لديك لوحة منجزة خلف أمواج الحزن؟
ـ عندما أرسم، تنتابني نفس شعور وانفعالات حالات الشعراء في ولادة القصيدة لديهم، وفي أثناء رسم لوحاتي أسكب دموعي بصمت بالغ، على خدود الألوان، ومتى ما انتهيت من النشيج، أميل إلى لألوان الدافئة في تجسيد معاني الفرح.
* ديوان شعر لم تستوعبه في قراءة واحدة؟
ـ ديوان طيش الياقوت للشاعر الكردي سليم بركات، ولا أعرف من أين له كل هذه الصور والملكة القوية، فأحببت صدق بكائيته القومية النبيلة في قصيدته مهاباد.
* كيف تنظر إلىأعمال ريبوار سعيد؟
ـ لو لم يكن كردياً ومن بلاد الشرق، لكان في مصاف الفنانين العالميين، ولبيعت لوحاته بالملايين؟ انه في تطور مذهل سبق عمره الزمني بكفاءة وجدارة، فخر للكرد أن يتباهى بهذا المبدع .
* إسماعيل خياط؟
ـ من الذين تشم منه أصالة الفن والأرض وتراث الأجداد، وخلف ضربات فرشاته تسمع روافد جنون نهر الوند الخالد وأمسيات كرنفال باوه محمود والوجه الوقور لعبد المجيد لطفي في لحظات صمته، حين تصابي كلمات ديوانه النثري .
* صفوت نديم كخطاط كردي عراقي، وباعتبار أول من علمك أبجديات خط الثلث، ماهي أجمل لحظاتك مع فقيد الخط؟
ـ في كل لحظة يمر طيفه أمامي، وكأنه على قيد الحياة، أحببت فيه صوت صرير القلم، عندما كان يخط بالقصب الحروف الجميلة بالثلث، وكيف كان يبقى لمدة شهرين يتمرن على رسم حرف واحد دون ملل من التمرين، فعلمني رسم الحروف ومزج الألوان.
* القاص زهدي الداوودي كقاص وروائي كردي: كيف أحالك في زمن هروبه الرائع لعمق مآسي تاريخ الكرد؟ وماذا عن ولادة اللوحات السريالية في محكية وفانتازية شخوص الرواية؟
ـ زهدي الداوودي قرأت أعماله من دون أن التقي به في يوم من الأيام، بالرغم من أننا كنا جيراناً، ومن محلة واحدة في طوزخورماتو، وكان يأتينا من ألمانيا كل خمس أو عشر سنوات، بأفكار ومشاريع ثقافية وفنية جميلة. قرأت له في أيام دراستي المتوسطة مجموعة من قصصه ورواياته، بدءاً من الإعصار وأسطورة مملكة السيد، إلى آخر أعماله. وحسب شهادة فاضل العزاوي انه في روايته الأخيرة استطاع أن يستحق بجدارة موقعه المتقدم والمتميز في حركة الرواية في العراق. فروايته خلقت في مخيلتي أطيافاً من الألوان، ومعايشة عوالم حقيقية من الرجال والنساء ومشاهد الحرب والحب، وطراوة عشق فصل الربيع، وضجيج الناس في أمسيات القرية المأهولة بالأحلام الجميلة، تحت وهج الفانوس النفطي أيام زمان الطفولة.
* فرهاد شاكه لي: كمفكر وشاعر كردي صوفيّ التأمل، ما سر ترجمتك لأغلب قصائد ديوانه الأخير؟
انه شاعر في عقل مفكر متصوف، ويعتبر من مجددي الشعر الكردي المعاصر، مع لطيف هه لمه ت، وهو صاحب رسالة ثقافية نيّرة، في تصوري الأب الكردي يحتاج لمثل هذه الإمكانية اللغوية الفذة لدى فرهاد. في ديوانه الأخير جعلني أن أعشق بالروح ذلك الشعر الناصع، الذي ترى منه ذاتك دون تكلف، وأن تنتقل بين بساتين العشق دون تردد، وترى من تُحبّه بلا وجَل. فلا يكمن أن تترجم نصاً، إن لم يحرك مشاعرك الإنسانية بعنف، وما أصدق الحب في إطار تلك المشاعر الحقيقية؟!

* لوحة لم تنجزها بعد؟
ـ وطني الحبيب وكردستانتي الغالية، ووجه والدتي، وصرخة طفل يتيم ساعة دفنه مع أمه في آخر ساعات الأنفال!
أسميها لوحة صرخة الضمير الإنساني، لوحة لا تفارق ذاكرتي صباح مساء.
* ما تأثير الإنترنيت على الفن التشكيلي والفنان؟
ـ إن الانفتاح على العالم بواسطة النيت، حدث تكنولوجي، لا يمكن لأحد تجاهله، فهذه الرابطة التقنية قلصت المسافات بين مختلف دول العالم، وبفضل النيت، استطعتُ أن أبيع لوحاتي، وأهديها، وأراسل المواقع الفنية، وأزور مواقع الفنانين، وأستفيد من خبرات الفنانين في أنحاء العالم، ولكن السؤال هو: هل يمكن للانترنيت أن يحل محل الفنان بروحه ودمه؟ في رأيي لا يمكن أن يحل محل الفنان، لأنه لا إحساس ومشاعر ودفء لديه.
* ماهي المواقع الفنية التي تزورها بانتظام؟
ـ مواقع الأخوة الفنانين في الخليج: بيت التشكيل في السعودية، ومجلة التشكيلي الكويتي، وموقع تيريز الذي أحيا الترث الكردي والفن والتاريخ المنسي، بفعل خنق صوت عشاق شمس الحرية، والفنانين في المهجر، ومواقع الفنانين الأجانب، بالإضافة للمواقع الأدبية المبدعة.
* ماهي مشاريعك الفنية الأدبية الأخرى؟
ـ في النية أن أنشر أربعين لوحة من لوحاتي على شكل كتاب باللغات: السويدية، الكردية والعربية. مع التهيؤ لمعرضي القادم في العراق، بعد سنين الغياب عنها.

ببيوغرافيا
ـ شاعر وفنان تشكيلي كردي، من مواليد كركوك- طوز 1956
ـ بكالوريوس في القانون، جامعة بغداد.
ـ عضو هيئة تحرير مجلة دراسات كردستانية، في السويد.
ـ درس الفن التشكيلي والسيراميك، من خلال الدورات الدراسية الخاصة بالفن الحديث في السويد.
ـ له كتابان شعريان مطبوعان.
ـ مقيم في السويد.

خاص بـ تيريز. كوم
11/03/2004
http://iraqiartist.com/iraqiartist/Arabic/Articles/Article000018.htm