من البدیهیات بأن المصطلحات السیاسیة والاجتماعیة تحمل آراء مختلفة وتعني معان متفاوتة حسب الزمان والمکان والآیدیولوجیة السائدة والمتحکمة علی فئة أو علی مجتمع بشري ما. فعلی سبیل المثال، مصطلح المتمدن في سیاقه السیاسي والاقتصادي واللغوي أنما یعرف شخصا کونه یعیش في المدینة، وأنه لیس بموقف فکري أو سیاسي إطلاقا. فلسیت هناک دلائل علمیة تشیربأن المتمدن (الذي یعیش في المدن) أکثر دیموقراطیا من القروي الذي یعیش في القری.
کان الاوروپیون یستعمرون القارات الاخری بإدعاء تمدن الاخرین. حیث اصبح الدین المسیحي المتبع في هذه الدول والعرف السائد فیها هو المعیارالاصح لقیاس مدی تمدن المجتمعات الاخری. وکذلک الحال مع مجیء الإسلام . حیث مع تقویة الحرکة الاسلامیة في الجزیرة العربیة بدأت النخبة المسلمة تعریف باقي الادیان و الاعتقادات والحضارات بأنها کافرة ویجب نبذها ، أو إذا أمکن محوها. کذلک الحال مع الآیدیولوجیات السائدة. فشعار الامبراطوریة النازیة الالمانیة کان “الرب معنا”. والذین یذبحون الناس في العراق الیوم و أمام عدسات الکامیرة یبدؤن الذبح بالتکبیر. وکان صدام حسین یصلي ویرکع لله أمام الکامیرات ویقتل الناس باسم الله. ولکي تکون المعادلة مفهومة کان یسمي ضحایاه بالخونة أو الرافضة أو المجوس أو عملاء الامبریالیة و الصهاینة. بهذه الصفات کان محو الآخرین مبررا (بفتح الراء). هذه هي اللعبة. و کل النخب السیاسیة والفکریة تأریخیا قد لجؤ لهذه اللعبة . فالفکرالسائد ، أو النموذج الفکري السائد ، یصبح الکیل الوحید والمقیاس الاصح لتقیم الافکار و المعتقدات و النماذج الفکریة الاخری. فالنظام السوفیتي الذي کان یدعي الشیوعیة کان یمارس نفس اللعبة و یقمع المخالفین له. وفي الولایات المتحدة الامریکیة ، وما یزال، کان الفکر الاشتراکي، ناهیك عن الشیوعية ، محرما وجزاءه شدید.
بهذه المقدمة البسیطة أحاول أن أناقش بأن المصطلحات السیاسیة أو الإنسانیة لیست ملکا لأحد أو لفئة دون الاخری. فالدیمقراطیة والمدنیة و العلمانیة و الدین والانسانیة لیست حصرا لنخب معینة دون الاخری. فحتی الفئات الطاغیة تدعي الدیمقراطیة و الانسانیة ، وحتی القتلة یدعون التقوی. فکیف نحن بسطاء الناس یمکننا من التفریق بین الصالح و الطالح ؟ بإعتقادي بان العمل أو الفعل هو المقیاس. فعندما یمارس فردا ما ( أو فئة ما) الدیمقراطیة ویکون دیمقراطیا مع عائلته وأصدقائه في حیاته الیومیة ، لاحاجة لهذا الشخص أو للاخرین بإستشهاد بدیمقراطیته. و بالنسبة لنظام سیاسي ما فوجود مجموعة من الهیاکل والمؤسسات التی تتطلبها الدیمقراطیة و تکفل حمایتها قد یکون دلیلا لسیادة الدیمقراطیة في ذلک النظام . فالقوانین والدساتیرومؤسسات المجتمع المدني و تعدد مراکز القرار و وجود وحدة لمراقبة الحکومة ومؤسساتها و وجود حریة الرأی و التعبیر ووجود نظام محاسبي مبني علی قوانین شفافة و مدون في دستوردائم و تحریم اللعب به وبحریة النظام القضائي ، هذه دلائل لوجود إمکانیة ممارسة العرف الدیمقراطي في ظل ذلک النظام . سرعانما تقول بأنک مارکسي فأنک لست بالشخص الذي یقبل بفکر لیبرالي أو رأسمالي ، کذلک الحال لرجل الدین الذي یؤمن بعقیدة دینیة معینة . کذلک الحال لعقائد أخری. وکحل لهذه المشکلة أوجد الفکر الدیمقراطي آلیة لهذه المعضلة بإ بتکاره فکرة التعددیة الحزبیة. وبهذا قد اصبح الممارسة الدیمقراطیة ممارسة حضاریة فوق الفکر العقائدي الأحادي و جامعا لجمیع الافکار الموجودة في المجتمع للتعایش بسلام و في إطار دولة القانون وسیادة العدالة وحقوق الفرد تجاه الدولة. فالانسان الدیمقراطي لیس بالانسان الدیني ولیس بالانسان المارکسي ولا الرأسمالي وإنما الانسان الذي یحاور الفکر المعادي له ولا ینفیه. فالانسان الدیمقراطي لایمکن ان یوجد في نظام أستبدادي. فالدیمقراطیة ، قبل کل شیء ، نظام ولیست صفة لاشخاص. فلا ثائر بلا ثورة عدا في الفکرالفلسفي الوجودي. فالفکر حسب الفکر المادي الدیالیکتیکي هو نتاج المادة ولیس العکس. فوجود الفکر الدیمقراطي وممارسة الدیمقراطیة ممکن فقط في نظام مبنی علی الدیمقراطیة ومن خلاله و بواسطته .
لا اتصور بأن الدیمقراطیة موجودة في عراق الیوم ، وإقلیم کوردستان من ضمنه . هذه لیس بتشهیر وإنما وببساطة لعدم وجود الآلیات و المؤسسات والقوانین التی بواسطتها ومن خلالها إقامة نظام دیموقراطي ممکنا. ما العمل إذا لجعل عراقنا دیمقراطیا ؟ بتصوري بان الخطوة الاولی هي تعریف وتحدید مفهوم الدولة وتأریخ تکوین الدولة العراقیة. هذه لتفادي تقدیس الدولة وحدودها ، هذه لتوضیح متی ولماذا ومن أستحدثت الدولة العراقیة. الفکر القومي الطاغي یقدس الدولة وحدودها و ما أکثر المقدسات في مجتمعاتنا ! إستحداث المقدسات من المفروض أن یکون لصالح البشر ولیس لقتلهم وإضطهادهم . الخطوة الثانیة هي وجوب تحلیل المجتمع الذي یعیش في هذه الدولة ، تأریخه و تکوینه العرقي و العقائدي والطبقي والنفسي. أن الدولة العراقیة لیست في کوکبة اخری وإنما موجودة في جغرافیة سیاسیة معینة و محاطة بدول ذات مصالح متعددة ولیست بالظرورة متجانسة مع مصالحنا ، وأن في العالم الیوم قوی سیاسیة وإقتصادیة عملاقة یجب دراستها ووضع ستراتیجیات للتعامل معها. أن الدولة قبل کل شئ کیان سیاسي ولیست کیانا دینیا أوفکريا ، وأنها أیضا کیان جیوپولیتیکي ذات أبعاد مصلحیة قد تؤثر في مصالح المکونات العرقیة أو العقائدیة أو الطبقیة للافراد الذين یعیشون داخل هذا الإطارالجغرافي . فالمجتمعات الاوربیة التي إختلقت فکرة الدولة القومیة بإطارها الحالي قبل أکثر من قرنین قد بدأت بنبذها الآن وبإستحداث فکرة اتحادات فدرالیة وکیانات سیاسیة ذات مراکز قوی تقع فوق الجغرافیة الإثنیة والقومیة. کل هذه الابتکارات الفکریة تصب في مصلحة الشعوب التي تعیش في هذه الدول وتساق من قبلها ولأجلها. فهذه المشاریع السیاسیة الضخمة تتبلور في داخل المجتمع ومن قبل افراد المجتمع ولیس مشروعا مبتکرا من قبل النخب السیاسیة أو العقائدیة. فإنتماء دولة اوروبیة الی الاتحاد الاوروبي یقرر بإستفتاء ولیس بقرار سیاسي. فتکوین دولة ما من فدرالیات عرقیة أم تأریخیة ، جغرافیة أم نفسیة لیست بحرام ولیست تخطیا لحدود حمراء لایعرف أحدا من رسمها ولصالح من ومتی . العراقیون یتذکرون النقاش حول الفدرالیة الکوردستانیة وکیف أستخدمت فکرة قدسیة العراق الموحد ضدها. ولا أحد فسر لنا لماذا ومتی أصبحت دولة العراق مقدسة و لمصلحة من. إن فلسفة الدیمقراطیة هي جعل الناس تعیش کما تشاء وکما تحب ولیس کما النخب السیاسیة أو الفکریة تریدها و تتصورها. فوجد الدیمقراطیة بمؤسساتها هي الظرورة الملحة لحل معظلات العراق الیوم.
بلا شک فأن مشکلة کرکوک هي إحدی هذه المعظلات ولیست الوحیدة. لنبدأ من المبدأ الدیمقراطي : دراسة تأریخ المشکلة ومحاولة إیجاد اجوبة لأسئلة عالقة، مثلا، لماذا عرب النظام البعثي مدینة کرکوک (هذا إذا کنا نؤمن بأن سیاسة التعریب قد مورست في هذه المحافظة)؟ هل هناک وثائق ومستندات تأریخیة تؤید إدعاءات الأطراف المتنازعة ؟ ما هي الترکیب العرقي و الدیني والطبقي في هذه المحافظة و ماذا ترید الاکثریة الساحقة من سکانها. هل نقبل ، نحن العراقیون ، بإبقاء آثار الممارسات التعسفیة التي مارسها النظام البعثي في العراق عامة وفي هذه المحافظة خصوصا؟ فلیس من حق أي طرف ، قروي کان أو متمدن ، مارکسي کان أم قومي ، من أن یرسم حلا للمشکلة ویطرحه کأنه حلا حضاريا وإنسانيا ؟ ولیست الطوباویة بحل لهذه المشکلة . أعني بالحلول الطوباویة تلکم الحلول التي لیست لها بنی إجتماعیا ولا أقتصادیا ولا تأریخیا. فالصراع العرقي في مشکلة کرکوک موجودة ومصالح الدول الاقلیمة فاعلة ومؤثرة و الشعوربالغبن والظلم موجود بین الناس. بإعتقادي ، لیس من الدیموقراطية أن یخذ طرف ما موقفا سیاسیا في المشکلة ویسمیه متمدنا وإنسانیا. فالموقف الدیموقراطي هو ذلک الموقف الذي یتبنی آلیات دیمقراطیة. وهذه الآلیات، أسفا ، لم تمارس بعد . فلحد الآن لم نسمع إعترافا رسمیا من قبل بعض الاطراف بأنه في محافظة کرکوک قد مورست التهجیر لتقلیل نسبة الاکراد فیها. فمشکلة کرکوک بحاجة الی إقتراحات لکیفیة إجاد حلول لتطبیع الآثار السیاسیة والاجتماعیة لسیاسة التعریب و الدمارالملحق بها. فلا تبنی مجتمعا دیمقراطیا ،مهما کان النیة، علی مشاکل غیر محلولة وأسس غیرعادلة. تهيئة اجواء ديمقراطية في محافظة کرکوک ممکنة فقط بتطبیع أوضاعها، وأوله رفع الغبن والتشرید.
بإعتقادي بأن سیاسة التعریب قد مورست في محافظة کرکوک . أناس جیئ بهم لغرض التعریب ولیس لغرض العمل ولم یکن الدافع هو الفقر. فالفقیر من أهل الجنوب یهاجر الی المحافظات الجنوبیة أو الی بغداد ولیس الی کرکوک . و العوائل الفقیرة من شمال العراق یهاجر الی محافظة کرکوک أو الموصل ولیس الی الناصریة. فعملیة التعریب هي عملیة سیاسیة جائرة بحق أهالي محافظة کرکوک ولایمکن تبریرها وتعریفها بانها کانت هجرة طبیعیة لإجاد العمل. فحل مشکلة الفقرفي المجتمع العراقي یقع علی عاتق الدولة وإنها من أولی مهامها. فمشکلة الفقر لاتحل بتهجیر الاخرین من العراقیین. إما إبقاء هولاء الناس فی مکانهم الحالي وضمان حریتهم وحقوقهم الشخصیة فهی مسألة أخری لایمکن أن تغطي وتکون سببا لتناسي ممارسة سیاسة التعریب الجائرة. أنا کمواطن عراقي أتصور بأن الوافدین لهم الحق بالبقاء في کرکوک. وأن إنتماء محافظة کرکوک الی إقلیم کوردستان أوالاقالیم الاخری یقررها الدستور العراقي الدائم ببنده رقم 140. وإن المحک الاساسي هو تطبیق الدیموقراطیة وإعادة الحقوق ولیس الانتماء الجغرافي. وحسب معرفتي فإن القانون المذکور لم ینص علی إرجاع المحافظة الی الاقلیم الکوردستاني وإنما ینص علی تطبیع أوضاعها أولا. فتطبیق البند ، بإعتقادي، لا یدفع العراق الی الحرب لان الحرب موجودة حالیا. وبعدم تطبیق الفقرة 140 قد یصل نیران الحرب حتی الی الاقلیم الکوردستاني وبذلک یصبح وجود العراق کدولة مهددا.
لا یوجد أنسانا دیمقراطیا یدعي بأن الدستور العراقي الحالي هو دستور دیموقراطي ومتکامل وعادل. ولا یوجد فردا دیمقراطيا یدعي بأن في الظروف التي مرت بالعراق وتأریخ العراق الدموي کان یمکن أن یکتب دستورا کاملا وعادلا بحیث یحول الدولة العراقیة الی دولة دیموقراطیة و دستوریة في لیلة و ضحاها. ففي الدستور الدائم نواقص جمة ومتعددة الجوانب. والسؤال هنا هل من الدیمقراطي أن نهمل هذا الدستور؟ هل یمکن أن تدار دولة بالتمنیات والاحلام وخاصة دولة کدولة العراق ؟ ماذا نفعل لتحسین الدستور العراقي الدائم ؟ وأذا نبذنا هذا الدستور هل لنا بدیلا ؟ بأعتقادي بأن ثقافة العمل بالدستوروإحترامه رغم الخلافات علی محتواه هو السبیل الوحید والامثل للاطراف الدیمقراطیة و العلمانیة أن تتبناه. لان دولة القانون هي الدولة التي تحترم التعددیة وتضمن حقوق الاقلیات الفکریة و العرقیة. فلا یمکن أن نکون إنتقائیین في هذا الصدد ، نفند بندا ونبقي الآخر. فالدیمقراطي هو ذلک الذي یحترم الاخر، حتی إذا کان الآخر دینیا أو علمانیا أو قومیا أو مارکسیا. و هذا الاحترام یصان بآلیات الدولة الدیمقراطیة وفي مقدمتها الدستور الدائم. فلا یوجد في العالم دستورا أو کتابا أو فکرا یتفق علیه الکل.