المواطن العراقي 1983 العادي لا حول له الا الاذعان لذلك الواقع المرير, حاله حال ما يلاقيه من الاجحاف وعدم الانصاف في عملية التوزيع على الوحدات الفعالة او الخطوط الامامية فالمعدومين والفقراء يكون لهم في الاستشهاد دائما حصة الاسد لانهم وقود خطوط التماس والحجابات المتقدمة.
كل تلك المآسي كان يغطيها اعلام استنفر كل قنوات التلفزة لالهاء المواطن وصرف معاناته وتفكيره. فعند احتدام المعارك تنقل الصور الحية عن المعارك الطاحنة بمختلف الاسلحة, الدروع والمدافع والهاونات والطيران وقطع البحرية, فتظهر امامك مباشرة آلاف الجثث منها من فقد هامته او بترت اوصاله, وانفجرت جمجمته وتناثر منها الدماغ ومنها من تفحمت بالنيران. وقد يجتهد المصور في ابداعاته فيستمر في بحثه عن تكدسات اكثر تشويها, عشرات الحافلات والدبابات قد التهمتها النيران ولا ينسى المخرج ان يطالعك بين الفينة والاخرى على السمتيات الطائرات وهي تطلق صواريخها على اهداف شاخصة للعيان وبعد وهلة تطالعك النتيجة بحصاد وفير من جثث اخرى او اسرى قابعين وايديهم فوق رؤوسهم علامة الاستسلام.
كل تلك المشاهد المرعبة تعرض على مدار الساعة دون تحذير للاطفال او النساء, بل العكس كان القائد الفذ يمعن في غرسها في اذهان الجيل وقد ابتكر للطلبة في مختلف المراحل, من الروضة الى الجامعة, ان يبدأوا فصلهم اليومي باطلاقات نارية قبل البدء بالتحصيل العلمي! ولقد خلقت تلك الممارسات حالات ذعر وردود فعل لدى الناشئين الذين رفض الكثير منهم الاستمرار في الدراسة لذلك السبب.
الامهات واولياء الامور يتسمرون في مكانهم وكأن على رؤوسهم الطير حينما ينبري احد المذيعين المتخصصين في القاء البيانات الحماسية وتلاوة بشائر النصر المزعومة او عند بدء او رد الهجوم المقابل. كانت الامهات يلجأن الى الصلاة, ويوقدن الشموع امام الاضرحة او الايقونات نشدانا لسلامة فلذات اكبادهن, الكل متجه للجوامع, ائمة المساجد من منائرها والكنائس واجراسها تلتقي في محراب الصلاة, كلهم ينشد النجاة لاولئك المبتلين في اتون الحرب الطاحنة ويبتهل الى الباري ان يستجيب لدعائه.
حالة اليأس والقنوط تنفرج قليلا حين وصول افراد لجنة النوايا الحميدة او المساعي المشتركة الى احدى الدولتين المتنازعتين معتقدين ان نهاية الحرب وشيكة, ولكن ما ان تحط الرحال حتى تبدأ سيول القذائف والشتيمة من مختلف وسائل الاعلام, وتبدأ الصحف هي الاخرى بتصعيد تلك النغمة وكأن تلك اللجان (بالرغم من جهودها المخلصة والحثيثة لانهاء القتال) قد شكلت لتنحاز وتمجد بطل القادسية والا فانها غير امينة في مسعاها, وقد لمس المواطن العادي التصعيد المتعمد من قبل النظام العراقي كلما توجهت احدى تلك اللجان الى المنطقة.
المشهد الاعتيادي في الشارع: نساء بملابس الحداد السوداء وكن من الكثرة بحيث راجت مبيعات القماش الاسود, وانشغل نفر من الناس باحصاء عدد الشهداء الذين يشاهدون نعوشهم ملفوفة بالعلم, وكثير من اولئك الشهداء المحمولين على سقيفة سيارات الاجرة كان الذين يحملون نعوشهم يجهلون محل سكناهم فكانوا يدخلون الحارة تلو الاخرى بحثا عن اهليهم, ويدب الرعب في قلوب المساكين الذين يصادفونهم لغرض السؤال عن اهل ذلك الشهيد.
كثيرون ممن استلموا جثث ابنائهم واقاموا الصلاة والتأبين لهم تفاجأوا بعد اشهر او سنين بعودتهم, وكان بين الارامل من تزوجت لتصعق بعد حين بزوجها وهو يطرق عليها الباب, روايات كثيرة رويت حول نعوش لا تمت لاصحابها بصلة, وكان هناك اسلوب آخر في تسليم الجثث لذويها فالبرادات المخصصة للاطعمة والفواكه التي كرست لهذا الغرض, يزدحم حولها النساء الناحبات, والكثير منهن قد مزقن ثيابهن من الاسى والحزن وهن مواظبات على انتظار ان يلمحوا رفات شهيدهم التي ترمى اليهم بقليل من الكياسة في اكثر الاحيان, وكأنهم يرمون العظام للكلاب, وهؤلاء الاهل قد يكونون اكثر حظا, اذ ينالون الحظوة لدى السلطات في التكريم والمستحقات. ولكن الطامة الكبرى تقع عندما يتخلف العسكري عن وحدته لمرات ثلاث متعاقبة فيدخل في خانة الهروب , واذا تراجع الى الوراء في الجبهة نتيجة هجوم كاسح من الطرف الآخر, فانه يوضع في خانة المتخاذلين. والعقوبة في كلتا الحالتين الرمي بالرصاص, اما في نفس الوحدة او يقتاد الى منطقة سكنى ذويه, ويوثق الى عمود وسط اهله وجيرانه الذين يجبرون على مشاهدة تنفيذ حكم الاعدام, ومن ثم يرمى امام داره في ملالة و كيس نفايات كتب عليه عبارة “متخاذل” ! ويحذر ذويه من اقامة مراسيم تأبين لفقيدهم واقامة الصلاة حسب العرف والتقاليد, وتوضع العائلة في لائحة المغضوب عليها.
وبنفس الطريقة ودون تردد, اعتاد القادة والامرين تنفيذ احكام فورية بآلاف الجنود والضباط والتهمة جاهزة: (عدم اطاعة الاوامر العسكرية) او التخاذل. وكان على اولئك المغضوب عليهم اما ان يواجهوا العدو في الحجابات الامامية والموت احيانا بالسلاح الابيض, او يذوقون الردى من فرق الاعدام المرابطة في الخطوط الخلفية للتصدي لكل من يفكر بالتقهقر مهما كانت الظروف. كل ذلك دون محاكمة, حتى لو كانت صورية. ومن الوقائع المريرة والمفجعة ونقلا عن شهود عيان قصة جندي تعيس كان قد اصيب بداء الثعلبة, مما افقده شعر رأسه وحاجبيه, وكان موضع تندر وسخرية من اقرانه في وحدته مما اضطره للاعتكاف والاختباء في منزله خجلا ولاكثر من مرة تفاديا من الاختلاط بهم. القي القبض عليه من قبل الانضباط العسكري وبعد ايام سلمت جثته الى ذويه بعد تنفيذ حكم الاعدام به.
وكما ذاق الجند الامرين على ايدي الجلاوزة, من جهة, ومن الاهوال عندما يحتدم القتال,من الجهة الاخرى كذلك كان يدب الرعب في اوصال المدنيين حين يعلو زعيق صافرة الانذار. كثيرون كانوا يهرعون الى الملاجىء, ان وجدت, والاخرون الى الطوابق السفلى لدورهم, فاما تكون غارة بالطائرات, او الصواريخ تتساقط عشوائيا على دور المواطنين لتمحوا عوائل كاملة احيانا, والذين ينجون لعدم وجودهم في دورهم اثناء ذلك الهجوم يعودون ليجدوا دورهم وقد دكت واحيلت بمن فيها الى ركام. ومع اطالة امد الحرب اعتاد الناس ذلك الامر ولم يعودوا يكترثون لذلك واسلموا امورهم للقضاء والقدر.
ومما يزيد نمط الحياة كآبة, في خضم تلك الاهوال والمصائب, المصاعب الاخرى مثل تقنين المحروقات الى درجة جعل المواطنين يهرعون الى محطات توزيع الغاز السائل او الكيروسين منذ الساعات الاولى للفجر وقد يتبدد النهار كله دون ان ينالوا غايتهم, وكان العبء الاعظم يقع على كاهل النساء لان اولادهن وازواجهن او اخوتهن في جبهات القتال, او تفاديا من وقوع ذويهم من الرجال في مصائب الجيش الشعبي, ولم تحصل المرأة العراقية التي تشقى الا على لقب “الماجدة” من “القائد” ذاته الذي قاد الوطن بنسائه ورجاله, الى الهلاك.
اما محطات التلفزة والاذاعة فكانت تبث على كل القنوات الزيارات التي ابتكرها صدام حسين لبيوت المواطنين, فكان يتوسط النسوة عاضا على غليونه احيانا, واخرى يطالعنا والسيكار بين اصبعيه! ولم يكن ينسى ان يتفقد البرادات التي كان يجري ملؤها قبل زيارته. يتكرر المشهد اياما متواصلة حتى يفكر في بدعة اخرى او يقوم بزيارة ميدانية الى جبهات القتال. فكان المرء لا يرى ولا يسمع غير صدام والاناشيد الوطنية التي تبارى المؤلفون والمطربون على اعدادها للحصول على رضى القائد ومن ثم تأتيهم “المكرمة” اما مبالغ نقدية قيمة, او سيارة حسب توافقها مع مزاجه اليومي, يضاف الى ذلك مراسيم منح انواط الشجاعة التي اعتاد القائد الهمام منحها للنخبة الممتازة من مؤازريه (كان في البدء يعطي نوطا واحدا ثم زادت انواطا عديدة مع سيف القادسية, احيانا, ووسام الرافدين) كل ذلك كان يحتل سائر وسائل الاعلام, ولايام عديدة, الى حد الملل, كنا لا نشاهد ولانسمع ولا نقرأ غير “القائد”! مرة بعد اخرى حتى يستجد امر آخر, فيطالعنا “القائد” ذاته بزي آخر. .
كان القانون الذي تمنح بموجبه تلك الانواط والاوسمة, يعطي لحامليها, اضافة للامتيازات المادية, حصانة قانونية تنقذ حاملها من حكم الاعدام, ولكن كثيرا من حملتها لاقوا حتفهم بعد الحصول عليها بفترة وجيزة ولاتفه الاسباب, ومن قبل الجلاد ذاته الذي منحهم اياها!
ولم يكن اختياره زيارة دور المواطنين عشوائيا, بل كان يتعمد زيارة الدور التي قدمت اكثر من شهيد, فيستقبله الاهلون الثكالى بالهتاف التملقي والقهري (بالروح بالدم نفديك ياصدام) اذ ليس بمقدورهم الا ذلك اولا, وطمعا, ثانيا, في ان ينالوا الحظوة لديه. كان يتلقى ذلك الهوس بارتياح بالغ وهو يردد (عفيه!) لاولئك الثكلى بل وعرضت نماذج لاناس قتلوا اولادهم لاسباب لا تمت الى الوطنية بصلة, ولكنها صبت في قالب (التخلف عن اداء الخدمة او الفرار من ساحات القتال) وتحت شعار ” كل شيء من اجل المعركة ” كانت الاولية والافضلية لكل ما يغذي ماكنة الحرب. فالتصنيع العسكري والخامات الاولية والاستيراد محصور في هذا المجال. وهكذا انهالت المساعدات العسكرية والمادية من السعودية والكويت والاردن التي تمثل العمق الستراتيجي للجبهة . وكانت ارتال الناقلات تشق الطريق من الكويت والسعودية وعمان, ليل نهار, محملة بالعتاد والذخيرة الى بغداد, اما اشكال الدعم الغربي والامريكي فضلا عن الدعم ” الشرقي ” فكانت جلية حتى للطفل الصغير. وباتت المظاهر العسكرية هي السائدة في كل مجالات الحياة, وحتى الاولية في الوقوف في الطابور للحصول على سلعة معينة اعطيت للعسكر, ناهيك عن تفضيلهم في كل المرافق العامة والخاصة, يكفي ان تلمح أي عنصر بالبزة العسكرية لتفسح له المجال وتعطي له الاولية دون جدال. كاترين نيسان 2007