الرئيسية » التاريخ » كردستانية كركوك في المصادر السريانية الحلقة الثالثة (3-4)

كردستانية كركوك في المصادر السريانية الحلقة الثالثة (3-4)

الصراع الزرادشتي المسيحي وانعكاسه على أوضاع الكرد في منطقة كركوك

وقد عاش نصاري ايران وبلاد مابين النهرين وكوردستان في سلام ما دامت اعدادهم قليلة ، وافكارهم التى يحملونها لا تؤثر في الخط العام للدولة الساسانية، ولكن الموقف تغير في بداية القرن الرابع الميلادي حين اصدر الامبراطور الروماني قسطنطين((costantin (306-337م) مرسوم ميلان الشهير في سنة313م معترفا بالمسيحية كاحدى الديانات المصرح باعتناقها داخل الامبراطورية الرومانية(40) فكان على المسيحيين داخل الامبراطورية الفارسية الساسانية ان يتحملوا نتيجة هذا العمل لأن الدولة الساسانية اعتبرتهم بمثابة عملاء (الرتل الخامس) للدولة الرومانية . ومما زاد من تفاقم هذه المشكلة ان ارمينيا الدولة الحدودية بين فارس وبيزنطة قد تنصرت مع اعلان الملك تيريدات الثالث((Tradat lll تنصر ارمينيا رسميا في عام 301 او 314م(41)، ومما يؤيد هذا القول تلك الرسالة التى وجهها الملك الفارسي شابور الثاني (309-379م) الى أمراء الارمن بقوله: ((عندما تعلمون بامرنا هذا نحن الالهة الاخرين وهو في الدرج الذي بعثناه اليكم، فعليكم ان تقبضوا على سيمون رئيس النزاريين ، ولا تطلقوه ما لم يرقم هذه الوثيقة ويقبل ان يجمع جزية وغرامة مضاعفين يؤيدها الينا عن كل النزاريين الذين يعيشون في بلاد قداستنا والذين يسكنون اراضينا ، لأنا نحن الالهة الاخرين ليس لنا غير متاعب الحرب وهم ليس لهم غير الراحة واللذات! انهم يسكنون بلادنا ويشاركون قيصر، عدونا المشاعر))(42).

ولما تلقى الملك الساساني شابور الثاني جواب مارشمعون برصباعي ، اعلن الجاثليق عن عدم امكانية تلبية رغبة الملك، حرق عليه الارم وثار ثائره وقال في سورة غضبه ((ان شمعون يريد تحريض تلاميذه وشعبه على القيام بثورة في مملكتي ، انه يريد جعلنا عبيداً لقيصر ، ولذا فهو لا يريد أن يطيع أوامري))(43).

وساهم اليهود في اذكاء نار الحقد في قلب الملك شابور على المسيحيين قائلين له:(( ان ارسلت انت ملك الملوك وسيد الارض كلها رسائل جليلة وحكيمة الى القيصر (الروماني) مع هدايا فاخرة ومواهب نفيسة ، فانها لا تلقى استحساناً في نظرة ، اما اذا وجه اليه (الجاثليق) شمعون رسالة في قصاصة ورق حقيرة، فانه يتناولها بكلتا يديه راكعاً وينجز امره بكل اهتمام ، وبالاضافة الى ذلك فليس سرني مملكتك لم يطلع شمعون قيصر عليها))(44).

إن أعمال الشهداء السريانيين في الدولة الساسانية تتضمن بلا شك معطيات ثمينة عن تاريخ المنطقة الكردية وجغرافيتها في زمان الساسانيين، فأول هذه الأعمال يختص باستشهاد الأخوين أدور باروي وميهر نرسي وأختهما مهدوخت، وقد حدث في جبل بران في ضواحي مدينة بيت سلوخ (كركوك) عاصمة باجرمي وذلك في السنة التاسعة من عهد الملك شابور الثاني أي في سنة 318م، وقد ألف هذه الأعمال الربان (الراهب) أحد رهبان دير عابي في النصف الثاني من أواسط القرن السابع الميلادي(45).

ومما تجدر الإشارة إليه أن الزرادشتية كانت الديانة الرسمية للدولة الساسانية منذ عهد مؤسسها الأول أردشير الأول (224-241م). والزرادشتيون هم أصحاب ديانة ثنائية (إله الخير وإله الشر) أو عديدة الآلهة على حد تعبير الأب يوسف حبي. أما أولى علامات الزوبعة فقد بدت في عهد الملك الفارسي بهرام (ورهاران) الأول (273-276م). وكانت في بداية الأمر محاولة للحد من انتشار المانوية، فقد استفحل أمرها، وظن الملك أن المسيحية والمانوية شيء واحد، فقد جمع ماني بين الزرادشتية والمسيحية ليجتذب الجميع، وسمى تلاميذه توما وأدي، ووجه أدي إلى اليمن، وتوما إلى الهند، وادعى أنه الفارقليط الذي وعد المسيح عليه السلام تلامذه بإرساله إليهم. ومع أن الملك بهرام كان قد تربى في منطقة كيلان (جنوب غرب بحر قزوين) على معلمين مسيحيين وتعلم السريانية وجادل الأساقفة، وكانت له زوجة مسيحية من سبايا الروم البيزنطيين، فقد أخافته الظاهرة الجديدة، انتشار المانوية والمسيحية معاً، فانقلب إلى مضطهد عنيف بتأثير الموبيدان موبد كرتير الذي كان يكن عداءً عنيفاً ضد المسيحيين نظراً لاتهامهم للزرادشتيين بعبادة النار، كما يظهر ذلك في نقش رستم في الكعبة الزرادشتية(46).

إن أعمال شابور أسقف نيقاطور وأسحق أسقف بيت سلوخ وماني وأبراهام وشمعون تؤدي بنا إلى باجرمي (بيت كرماي) أما تاريخ استشهاد هؤلاء الكرد فيحدد في السنة الثلاثين من عهد الملك شابور الموافق لسنة 339م، والمؤلف السرياني الذي بين أيدينا يظهر أن مصدره مدينة الرها، فإننا نقرأ فيه: (إن شهداء الكرد مدفونون الآن في الرها في مرقد الشهداء الجديد داخل المدينة، ولاشك في أن هذا القول يستند إلى حجج قديمة، فإن المسيحيين سموا بهذه الأعمال باسم النصارى وهو الاسم الذي كان يطلقه عليهم الفرس والكرد سابقاً، ومع ذلك كله إذا قبلنا هذه الأعمال بتاريخ مدينة بيت سلوخ نرى أن هناك ثمة تناقضاً بيناً، فقد ذكر في هذا التاريخ أن اسحق الأسقف الشهيد هو سلف يوحنان الذي حضر مجمع نيقية سنة 325م(47).

ومن جهة أخرى إن ماني وأبراهام وشمعون هم أساقفة كورد لم يستشهدوا في عهد شابور الثاني بل في عهد يزدجرد الثاني في السنة الثامنة من حكمه التي توافق سنة 407م. ثم إن هذا التاريخ يأتي بتفاصيل دقيقة لأعمال هؤلاء الشهداء استقاها المؤلف من مصادر قديمة، فإذا كان مؤلف هذه الأعمال السريانية قد كتب في الرها هذه السير بعد نقل رفات هؤلاء القديسين إليها، فيكون قد خلط سني هذه الحوادث خلطاً. فإن الغلطة التاريخية التي جعلت الأسقف اسحق معاصراًَ لماني ولأبراهام ولشمعون يمكن شرحها بأنه كان الكاهن اسمه اسحق عذب هو أيضاً مع هؤلاء الشهداء، وأن تنفيذ هذه العقاب جرى في الموضع نفسه في مدينة كنار الواقعة في ولاية نيقاطور(48).

إن تاريخ بيت سلوخ يعرفنا بشهداء آخرين من هذه المدينة وأول هؤلاء هو الأسقف الكردي ماني سلف أسحق الذي اضطهد بتحريض من المانويين وحكم عليه بالموت مع مسيحيي المدينة، وقد هدمت الكنيسة وشمل الاضطهاد حتى الراهبات اللواتي عذبن خارج المدينة في مكان يسمى حورا، على أن هذا التاريخ لا يذكر أسماء هؤلاء النساء القديسات الكرديات ولكن أسمائهن حفظت في وثيقة سريانية أخرى وهن كما ذكر فيها: تقلا، وداناك، وتاتون، وماما، ومزاكيا، وحنا (يكتبهم المطران أدي شير: تقلا، داناق، طاطون وأمزكية وماما)، وأما الاضطهادات الأخرى المذكورة في هذه القصة فقد جرت في القرن التالي(49).

إن اضطهادات الملك الفارسي شابور الثاني التي دامت 39 سنة بكاملها تخللتها بعض الفترات الهادئة، أي من 340-379م، ولم تبدأ فعلاً إلا بعد مرور سنة واحدة على إصداره مرسوم سنة 340م ضد المسيحيين، وقد نسب خبر هذا الاضطهاد إلى ماروثا أسقف ميافارقين* الذي عاش في نهاية القرن وبداية القرن الخامس الميلادي، فقد كان هذا الأسقف ضليعاً بالآداب الكتابية وطبيباً ممتازاً، وقد أوفده الملكان البيزنطيان أركاديوس وثاودوسيوس الثاني مرتين متعاقبتين بصفة سفير إلى الملك الفارسي يزدجرد الأول، وبفضله أعاد ملك الفرس إلى الكنيسة المسيحية أمنها(50).

المصادر والمراجع والهوامش:

3140- كريستنسن: المرجع السابق، ص54.

41- مروان المدور: الأرمن عبر التاريخ، بيروت، ص277؛ محمد أمين زكي: خلاصة تاريخية، بغداد، ج1، ص121.

42- كريستنسن: المرجع السابق، ص54.

43- البيرابونا: ادب اللغة الارامية ، بيروت لبنان 1970 ، ص 66-69

44- البيرابونا: تاريخ الكنيسة الشرقية الجزء الاول من انتشار المسيحية حتى مجيء الاسلام ، شركة التايسس ، بغداد 1985 الطبقة الثانية ، ج آ ص 38-39 نقلاً عن كتاب (سير الشهداء والقديسين للاب بولس بيجان).

45- روبنس دوفال: تاريخ الأدب السرياني، ترجمة الأب لويس قصاب، منشورات مطرانية السريان الكاثوليك، بغداد، 1993، ص140.

46- يوسف حبي: كنيسة المشرق، ص243-244.

47- روبنس دوفال: المرجع السابق، ص142؛ وقد أكدت على كردية أسماء رجال الدين المسيحي هؤلاء على أساس أنهم ولدوا وعاشوا في المنطقة الكردية، والغريب أن المؤرخين والباحثين السريان اعتبروهم فرس على أساس أن الدولة الفارسية الساسانية كانت هي الحاكمة آنذاك، علماً أن العنصر الفارسي يتركز في جنوب وجنوب شرق الهضبة الإيرانية وليس لديه تركيز في المنطقة موضوعة البحث.

48- السمعاني: سير القديسين والشهداء، المجلد الأول، ص100.

49- يذكر المطران أدي شير رواية أسطورية بأنه نبتت من دماء هؤلاء القديسات شجرة تين أثمرت الخيرات والبركات، غير أن المانويين قطعوهن حسداً ومنذ ذلك الحين غلب على ذلك المكان اسم بيت تيثا وهو شرقي كركوك على مسافة نصف ساعة منها وإلى الآن يقال لها في التركية إنجير آغاجي أي شجرة التين. أنظر تاريخ كلدو آثور، ج2، ص62، 63، 64.

50- ابن العبري: تاريخ الزمان، ص90.

بوك ميديا