الرئيسية » مقالات » الرياض – أربيل : نحو إخراج العلاقات العربية – الكردية من عتمة النفق البعثي

الرياض – أربيل : نحو إخراج العلاقات العربية – الكردية من عتمة النفق البعثي

في غضون أسبوع واحد ( من 12 / 3 / إلى 20 / 3 / 2007 ) قام السيد مسعود البارزاني رئيس إقليم كردستان بزيارتين تاريخيتين إلى كل من المملكة العربية السعودية والمملكة الأردنية الهاشمية وبطبيعة الحال تنبع أهمية الزيارتين مما تتمتع به المملكتان من مكانة ودور بارزين على الصعد العربية والإقليمية والدولية فضلا عن أنهما كانتا بمثابة زيارتي دولة إذ أنهما تمتا بناء على دعوتين رسميتين من خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز والملك عبدالله الثاني والحال أن المباحثات الرسمية المكثفة الرفيعة المستوى تمخضت عن الاتفاق على تطوير وتعزيز العلاقات الكردية مع السعودية والأردن ولا شك أن الشأن أو بالأحرى الهم العراقي كان حاضرا بقوة على أجندة المحادثات لكن البعد الكردي كان بلا ريب الحاضر الأكبر في صلب هذه المباحثات واللقاءات والمأمل أن تشكل الزيارتان بداية تعامل عربي مختلف مع القضية الكردية ( فالتجاهل واللامبالاة كانا السمتين البارزتين في أحسن الأحوال للتعاطي العربي مع الأكراد ) يقوم على التقارب والتفاهم وبلورة القواسم المشتركة التي إذا ما حسنت النيات وصدقت فإنها عديدة بين الشعبين العربي والكردي ولعل أكثر ما نجحت الزيارتان في توضيحه وإبرازه هو وجود رغبة مشتركة صادقة بين الطرفين الكردي والعربي ( السعودي والأردني ) للتعاون والتواصل والتنسيق حيث أكد الرئيس البارزاني على تفهم مضيفيه في المملكتين للقضية الكردية ودعمهم لحقوق الشعب الكردي وتثمينهم للدور الكردي الايجابي الفاعل في صون وحدة العراق ومنع انزلاقه إلى حرب أهلية مفتوحة وها هنا تكمن أهمية العامل الكردي كعنصر توازن واستقرار واعتدال في المعادلة العراقية والإقليمية المختلة والمضطربة وهذا ما تتفهمه وتدركه جيدا كلتا العاصمتين ( الرياض وعمان ) المعنيتان بالحفاظ على العراق ومنع تقسيمه وتدميره بما يقود إلى خروجه كتحصيل حاصل من المنظومة الإقليمية الشديدة التعقيد والحساسية فالرياض وعمان بوصفهما ركنين أساسيين في معسكر الاعتدال العربي تعولان ولاشك على الدور الكردي كصمام أمان ضد ابتلاع العراق برمته من جانب إيران التي ليس خافيا أنها تشكل تهديدا مباشرا للعالم العربي من خلال سياساتها التوسعية ومشاريعها النووية العدوانية خصوصا تجاه دول الخليج العربية التي تقع على مرمى حجر من المنشآت النووية الإيرانية مع كل ما يعنيه ذلك من مخاطر وتهديدات وجودية حقيقية ومباشرة أضف إلى ذلك أن الرئيس البارزاني لا يقتصر في تمثيله على أكراد العراق كرئيس لإقليم كردستان بل هو يمثل برمزيته الوطنية والقومية الأكراد في الأجزاء الثلاثة الأخرى من كردستان فضلا عن كونه ركنا بارزا في خارطة القوى الديموقراطية الليبرالية في العراق والتي تعاني في الشطر العربي من العراق ضعفا وانكماشا بنيويين شديدين في ظل الانقسام والاحتراب الطائفيين بين الشيعة والسنة في عراق اليوم .
والأكراد بدورهم مدركون أهمية الدورين السعودي والأردني في المشهدين العراقي والإقليمي بصورة عامة وهم بوصفهم طليعة القوى الديموقراطية في العراق الجديد ومن خلال تجربتهم الواعدة التي تمثل وجها ايجابيا مغايرا لما يحدث في القسم العربي من العراق هم في خندق واحد مع الدول العربية المعتدلة وعلى رأسها السعودية والأردن فالسعودية بما تمثله من رمزية دينية إسلامية ومكانة عربية ودولية مرموقة والأردن بما يمثله من جنوح نحو الاعتدال والسلام والوسطية إنما يمثلان حليفين موضوعيين للأكراد لاسيما في ظل تصاعد الاستقطاب الطائفي الشيعي – السني في طول المنطقة وعرضها وبما أن الأكراد هم خارج دائرة هذا الاستقطاب الحاد والخطير الذي ينذر بانفجار صراع طائفي طاحن ومرير يمكنهم أن يلعبوا دورا رادعا في نزع صاعق التفجير أقله في العراق حيث الحرب الطائفية غدت واقعا يوميا وعليه يمكن القول أن الزيارتين الرسميتين تأتيان تتويجا لكل هذه الحقائق المذكورة أعلاه ولعلاقة تحالف موضوعي ربما كانت بعض الهواجس والحسابات الخاصة بالطرف العربي ( المرتكزة إلى ارث مديد من التعاطي العربي السلبي رسميا وشعبيا مع القضية الكردية ) تقف حائلا دون تدشينها وبلورتها لكن الأكيد أن زيارتي الوفد الرئاسي الكردي إلى الرياض وعمان قد شكلتا مسمارا أخيرا في نعش تلك النظرة العربية الكلاسيكية الحذرة والمتخوفة من الأكراد لا لشئ إلا رضوخا وتأثرا بالبروباغندا البعثية والقومجية الكاذبة فضلا عن نجاحها في تبديد الكثير من المواقف والرؤى المسبقة والنمطية عن الأكراد في العالم العربي بما يؤدي إلى تدشين علاقات عربية – كردية صحية ومتينة لا تقتصر على البعد السياسي فحسب بل أن ثمة رغبة أكيدة ومتبادلة لتطوير حقول ومجالات التنسيق والتعاون والتبادل اقتصاديا وثقافيا وإعلاميا بما يشيد جسورا من التلاقي والتلاقح والتكامل بين إقليم كردستان بوصفه منارة للأجزاء الأخرى من كردستان وكل من السعودية والأردن بما يمثلانه من ثقل ودور كبيرين في العالم العربي فنحن نتحدث عن دولة محورية عظمى بالمقاييس العربية والإسلامية ومعروفة بسياساتها العقلانية المتزنة وهي السعودية فضلا عن الأردن الصغير في حجمه لكن الكبير في دوره وتأثيره كنموذج للدولة المسالمة في المنطقة والسائرة قدما نحو الدمقرطة والتحديث .
وعليه فان ما يجمع الأكراد مع العرب عموما ومع دولهم المعتدلة خصوصا كالسعودية والأردن ومصر الكويت والإمارات … هو بكل تأكيد أكبر مما يفرقهم ولعل المطلوب في هذه المرحلة العصيبة والحرجة من تاريخ المنطقة هو الإسراع في المبادرة إلى بلورة هذه القواسم والمصالح المشتركة وتطويرها وتنميتها وهذا يتطلب أول ما يتطلب توفر إرادة مشتركة لدى العرب والأكراد كشعبين تجعهما قبل أي شئ الجغرافيا التي لا يمكن بأي حال من الأحوال القفز فوق حقائقها الثابتة على الأرض ولعل أبرز ما كشفت عنه زيارتا الرئيس مسعود البارزاني الأخيرتان هو وجود قناعة مشتركة بضرورة تفعيل هذه الإرادة المتوافرة والشروع في ترجمتها إلى واقع عملي ملموس بما يقود مستقبلا إلى بلورة تحالف استراتيجي عربي – كردي في مواجهة التحديات المشتركة التي يواجهها الشعبان العربي والكردي من قبل قوى إقليمية طامعة في كردستان والعراق عامة وتاليا في عموم العالم العربي مستندة إلى حال التشرذم والضعف العربيين فالأطماع الإيرانية والتركية السافرة في العراق ومحاولاتهما الحثيثة لاقتسامه وتفتيته ليست بحاجة إلى تدليل فطهران تتدخل وتمد نفوذها في العراق تحت اليافطة الشيعية وأنقرة تفعل الشئ ذاته تحت اليافطة التركمانية فكأنهما تسعيان إلى إحياء الإمبراطوريتين الصفوية والعثمانية لا بل أن أنقرة تلوح صراحة بحقها التاريخي المزعوم في ولاية الموصل العراقية وبحسب هذا “المنطق” التوسعي العدواني الأجوف يمكن لتركيا أن تدعي لنفسها حقوقا في جل دول المنطقة على اعتبار أنها كانت ذات يوم ولايات تابعة للسلطنة العثمانية المنقرضة وتحضرنا هنا كمثال على الوقاحة التركية في التدخل في شؤون الغير الأزمة التي افتعلتها أنقرة منذ أعوام قلائل مع الرياض بخصوص قلعة أجياد السعودية وكأنها قلعة عثمانية تملكتها تركيا بالوراثة فالحق أن الأتراك إذا ما أصروا على استحضار التاريخ والتبجح بحقوقهم التاريخية المزيفة في أراضي الغير فإنهم والحال هذه سيكونون أكبر الخاسرين إذ لا حاجة للتوكيد على حداثة وجودهم وعهدهم في المنطقة منذ هجرتهم إليها من آسيا الوسطى وعليه فالتحالف العربي – الكردي المنشود سيؤسس لمقاربة حضارية تفاعلية بين شعوب المنطقة برمتها ما ينعكس إيجابا على تعاطيها بعقلانية ومسؤولية مع مشاكلها وأزماتها الداخلية وخلافاتها البينية وبما يقود إلى تجاوز المنطقة لمآزقها التاريخي المزمن .
وواقع الحال أنه كما ليس من مصلحة الشعب الكردي في العراق وفي كل الدول المقتسمة لكردستان ( تركيا وإيران وسورية ) افشال تجربة التحول الديموقراطي في العراق الجديد لصالح تدميره وجعله ساحة صراعات ومناكفات وتصفية حسابات إقليمية ودولية وصولا إلى تفجير التوازنات والعلاقات المذهبية القلقة والهشة في العراق وعموم المنطقة فانه ليس من مصلحة العالم العربي باستثناء النظام البعثي السوري المتحالف مع إيران وتركيا بهدف إجهاض التجربة الديموقراطية في كردستان والعراق برمته فالمشروع الديموقراطي الكردي في العراق وفي الدول الأخرى المقتسمة لكردستان لا يتصادم البتة مع المشروع الإصلاحي لقوى الاعتدال العربية الممثلة في دول مركزية في النظام العربي والإقليمي عامة فالرياض وعمان والقاهرة والتي تشكل مثلث الارتكاز لمنظومة الاعتدال العربية هي عواصم فاعلة وحاضرة وبقوة في المشهدين الإقليمي والدولي وهي إذ تنفتح على الحالة الديموقراطية في كردستان العراق عبر مد الجسور وتبادل الزيارات والآراء مع القيادة الكردية وعلى رأسها الرئيس مسعود البارزاني فهي إنما تنفتح على أمة بأكملها يقارب تعدادها الخمسين مليون نسمة وتشكل لاعبا بارزا ورقما صعبا في معادلات المنطقة وتفاعلاتها المتلاحقة خاصة وأنها أمة مقسمة بين أربعة دول مركزية مأزومة في المنظومة الإقليمية فالقضية الكردية تشكل الآن فاعلا موضوعيا لا يمكن تجاهله في ميزان القوى الإقليمي أو في “لعبة الأمم” بحسب أصحاب نظرية المؤامرة السرمدية .
أن الانفتاح على والتقارب مع أمة صاعدة من ركام الاضطهاد والصهر والتقسيم هي خطوة ذكية وبارعة سياسيا واستراتيجيا فضلا عن صوابها الأخلاقي وأحسب أن السعودية والأردن وغيرهما من قوى الاعتدال العربية تدرك جيدا هذه الحقيقة فالسياسة في النهاية هي فن توسيع دائرة الأصدقاء والحلفاء لاسيما وأن الشعب الكردي ما فتئ يمد يد الصداقة والتعاون على أسس الاحترام المتبادل والمصالح المشتركة مع كل شعوب المنطقة وفي مقدمها الشعب العربي بما يؤسس لعلاقات عربية – كردية صحية راسخة تقطع مع رواسب وآثار السياسات الفاشية والعنصرية التي مورست بحق الأكراد في العراق وسورية باسم العروبة وبحجة الذود عن الأمن القومي العربي الذي لم ينتهك كما انتهكه واستباحه البعثان العراقي ( السابق ) والسوري ( اللاحق بسلفه العراقي لا محالة ) والشواهد أكثر من أن تحصى في هذا الصدد حتى وصل الأمر إلى حد احتلال دولة عربية بأكملها كما حصل في الغزو البعثي العراقي للكويت والاحتلال “الأخوي” الموارب الذي مارسه البعث السوري طيلة ثلاثة عقود في لبنان .
أن نقد العقلية البعثية والعروبية وفضحها وتجاوزها والتبرؤ من ارتكاباتها وجرائمها بحق الأكراد بما يمهد لفتح صفحة جديدة معهم ويفتح الآفاق أمام بناء مستقبل واعد من العلاقات التكاملية البناءة بين الشعبين العربي والكردي هو مساهمة أكيدة في استقرار منطقتنا وفي إخراجها من دوامات العنف والاستبداد والإرهاب والحروب الأهلية نحو دمقرطتها وتحديثها بما يقود إلى تعايش شعوبها وتفاهمها وتكامل مجتمعاتها وتفاعلها حضاريا عبر سعيها نحو الأفضل للمنطقة ككل .
قد يبدو هذا الكلام نظريا وحالما بعض الشئ في ظل الواقع السوداوي القاتم الذي يلف المنطقة إن في العراق أو لبنان أو فلسطين … لكن أن نضئ شمعة خير من أن نلعن الظلام ولعل زيارتي الرئيس مسعود البارزاني إلى الرياض وعمان تمثلان إيذانا بإضاءة شمعة تنير درب العلاقات العربية – الكردية بما يؤدي إلى إخراجها من النفق البعثي المظلم الذي أدخلتها فيه الآيديولوجيات القومية العروبية المتزمتة لاسيما في طبعتها البعثية الموغلة في الفاشية والدم .