الرئيسية » مقالات » آذار… تداعيات الذكرى والقيم

آذار… تداعيات الذكرى والقيم

مرت يوم أمس ذكرى آذار التي يحتفل بها العراقيون من شيوعيين ويساريين ووطنيين منذ أكثر من سبعة عقود مضت، ذكرى محملة بالأمل والعبرة يُحييها الناس مع أعضاء الحزب وأصدقائه بأشكال مختلفة حسبما تسمح بها ظروفهم وأوضاعهم ، وهي في العموم ذكرى لتراكم عقود من الزمن فيها ما فيها من أفراح وذكريات ممتعة وفيها أيضا من الأحزان والشجون الكثير الكثير.
لأنها في ذات الوقت هي مسيرة للدم المراق وقوافل لا تحصى من التضحيات الغالية امتدت خلال هذا الزمن الطويل لتروي سفوح وجبال ووديان ومياه العراق في أقبية التعذيب والمظاهرات والعمل السري والكفاح المسلح والحروب المستمرة والاغتيالات في داخل الوطن وخارجه…
هي ذكرى لقيم و بطولات ومُثل ، كما هي ذكرى لخيانات وأخطاء وجرائم ، ذكرى ترافقها الدموع ، هي مزيج من دموع الأحزان و الفرح ، يصعبُ على المرء أن يختار الحد والخط الفاصل بينهما .
لذلك الجأ في مثل هذه الحالة وحيثما تمر الذكرى في كل عام وحسبما أستطيع في التخلص من إلحاح الأعزاء والأصدقاء ودعوتهم لأحياء المناسبة ، إلى المزيد من الحيل كي أنجو من دعواتهم الكريمة لأمارس طقوسي الخاصة بهذا اليوم وأحتفل كعادتي وحيدا ً .
حيث أتوحد وأندمج مع منلوجي الداخلي الخاص بي ، وأستذكر ما يمكن أن أستذكره في مناسبة هي بالنسبة لي ليست ذكرى عابرة بل محطة تتداخل فيها الأشياء والمفاهيم وتتطلب التوقف مع الذات للتمعن في قدرة الروح على تحمل المزيد من المصائب التي أشبعتنا أحزانا ً طيلة العقود الماضية وما زالت ُتلقمنا في العهد الجديد بالمزيد منها ومدى استعدادها للفرح الذي لا نجيد التعبير عنه وكدنا نشطبه من قاموسنا الذي سُجلت صفحاته بالدم ..
في هذا العام أيضا ً تمكنت من ممارسة طقوسي بعد أن حسمت ترددي من دعوة وجهت لي لحضور حفلة زفاف صديق عزيزاختارمناسبة آذار لعقد زواج ابنه بعد أن أضاف إليها عرضا ً مغريا ً من خلال الحديث المباشر بالتلفون ليدعوني للمساهمة في حفل الزواج الذي تداخلَ موعده مع احتفال آذار ، حيث قررت في اللحظات الأخيرة البقاء والانزواء في غرفتي ، و قبل أن تقفل الحوانيت أبوابها توجهت إلى اقرب محل واقتنيت قنينة ويسكي من النوع الرخيص الذي يتلاءم سعرها مع أوضاع الجيب رغم إنني قد تركت عادة الشرب منذ فترة طويلة وأخذتُ ارتب حالي بالتواصل مع منلوجي الداخلي الذي بدأ مع نشرة أخبارلمحطة الحرة وهي تنقل نبئا ً عن :
احتفال ٍاقامه الشيوعيونَ في بغداد …
قلت هذا شيء رائع أن يكون هناك فسحة للفرح وسط أجواء بغداد المحاطة بالدخان والمفخخات والأجمل فيها وجود الفنان فؤاد سالم وهو يصدح بين جمهوره ومحبيه ، فؤاد بقلبه الجريح يشدو وسط الجموع التي عرفتُ من بينها أعزاء سوف آآتي إلى ذكر البعض منهم لاحقا ً لكني سأعود بذاكرتي لفؤاد سالم .
فؤاد الإنسان والسياسي الذي قلما عرفه الناس لأنهم حصروا اهتمامهم به كفنان يقدم الأغنية السياسية ، رفض أن يغني للسلطة في منتصف السبعينات رغم الإغراءات والقمع والتهديد الذي مورس ضده ، والذي وصل حد الإعتداء المباشر عليه ، كان بعدها ذلك الخبر السيء والمفرح في ذات الوقت الذي نقله لنا عمي ( الياس كنجي- أبو رحاب ) حيث كان يعمل في معمل سامراء للأدوية وجمعته مع فؤاد هيئة حزبية واحدة حينما نقل لنا أثناء عودته نبأ مغادرة فؤاد للعراق فكان خبرا ً يبعث على الحزن من خسارته وابتعاده عنا ، والفرح بنجاته من قبضة من يترصدهُ وعازم على قتله بلا تردد.
فؤاد الذي جمعني به لحظة عودته إلى العراق معبر الخابور في كردستان عام 1993 وكانت أول عودة له ، عكس ما كان قد روَّج له أعلام الدكتاتورية من عودة فؤاد سالم للوطن بعد مغامرة الكويت ، وفؤاد الذي جمعتنا أواصر العمل معا ً في رابطة المثقفين الديمقراطيين العراقيين ومنظمة الشام للحزب الشيوعي .
من أين لي أن أنسى تلك الأيام الجميلة مع أبا الحسن وضيافة أم حسن لأصدقائه وهي تعد كل يوم وجبات الطعام للعائلة وضيوفها التي كانت تحتضنهم قلوب أفراد العائلة قبل مقاعد الضيوف ، والتلفون الذي لا يتوقف وطلب المساعدات الدائم و المستمر منه من قبل مَنْ إسْتعصَتْ عليه الأيام وبات عاجزا ً من توفير إيجار السكن فيلجأ إلى أبا الحسنين فؤاد سالم وهادي العلوي ذلك العملاق المشاعي الذي كان لا يأكل إلا وجبتين في اليوم ، كي يتبرع بثمن الوجبة الثالثة إلى فقراء العراق .
اذكرُ تلك اللحظة التي جمعت بين هذا العملاق الأسطوري ( هادي العلوي ) والجبل الشامخ ( توما توماس ) وجها ً لوجه ، ولم يكن احدهم يعرف الآخر إذ لم يلتقيا قبلها ، فجالت العيون تستفسر مني عن هوية الآخر فقدمتهم للبعض بعفوية…
العملاق المشاعي هادي العلوي وأشرت عليه … والجبل الشامخ توما توماس… وتصافحا بحرارة الشيوعيين الحقيقيين ، وكنت فخورا ً بتلك اللحظة التاريخية…

نعود لفؤاد.. فؤاد الشيوعي الذي يملكُ من الانضباط والحرص الشديدين ما لا يملكها العشرات ممن عملوا في هيآت قيادية في الحزب .. اذكر احتجاجه الشديد على قرار لجنة الشام بترشيح شقيقة زوجته من دون أن يُستفسر منه عنها قبل أن تستكمل إجراءات الترشيح ، حيث اعتبر ذلك خرقا ً وخطأ ً لا يجوز التساهل إزاءَهُ مؤكدا ً على ضرورة التشدد في الترشيح وعدم التسرع في قبول الترشيحات الجديدة للحزب كونه مستهدفا ً من أجهزة النظام التي تُخطط لاختراقه بشتى السبل والوسائل ، وكان فؤاد على حق في حينها وما زال موقفه مقارنة بتلك السنين العجاف هو الصائب والصحيح .
فؤاد الآن يشدو في بغداد بعد زوال الدكتاتورية … كانت تلك أمنية من أمانيه ،مجرد أمنية ،وقد تحققت ،وما بعدها هناك الكثير من الأماني لأبا الحسن ( نَغم ) إبنته الوحيدة في العراق التي كاد يذوبُ شوقا ً وحنينا ً لها… هاهي كالمهرة تصهلُ من خلال الشاشات الصغيرة بعد أن تحولت إلى مخرجة.. هل سيكون في برنامجها مساحة للتفكير في إخراج فيلم عن أبيها الفنان و الإنسان ؟..
ألا يستحق ذلك التفكير ويبعث على التأمل ممن عرفوا وخبروا فؤاد ، من العشرات من الكتاب والمبدعين دعونا ننتظر سنة قادمة علّها تحمل لنا ما يفرح في هذا المجال؟؟ .

ويرن التلفون قاطعا ً إسترسالي الداخلي في محاولة الرجوع للماضي ، لأستمع لصوت ( أبو آمال- خالد سردشتي ) من استوكهولم لينقلني إلى ذلك الزمن المر وتلك السنين العجاف ومعاناتنا نحن الأثنين من ملاحقة أجهزة الأمن وزبانية النظام البعثي أبو آمال الذي نجا من مداهمة الأمن لدارهم عام ( 1978) في ساعة متأخرة من الليل وتمكن من الهروب بعد أن ألقى نفسه من السطح ونجا من الاعتقال فتوجه من بعشيقة إلى الموصل مشيا ً على الأقدام وكنت في حينها متخفيا ً في الدار وعازما ً على مغادرة الموصل في أيّ وقت .
اتفقنا أن نغادر إلى بغداد على انفراد ، بعد أن تقاسمت معه مبلغ التسعة دنانير التي كنت املكها من عملي في الفرن ، على أن يذهب هو أولا ً ونلتقي هناك ، وكانت أيام تصَارَعْنا فيها مع الموت في كل لحظة لحين مغادرتنا بغداد مع عدد من الأصدقاء ( هم كل من أبو سلام وسلام و أبو ايفان شقيق أبو عامل من القوش) لنشكل نواة للتوجه الجديد في البدء بالكفاح المسلح كخيار لابد منه…

كانت المسيرة الأولى من سهل اربيل في ذلك الشتاء القاسي نحو الحدود الإيرانية التي استغرقت أكثر من عشرة أيام قبل أن نصل جبل قنديل وتلك الليلة التي لا تنسى وسط ثلوجه الرهيبة وبرده اللاسع والجوع الذي هدنا بعد أن أصبحنا بلا طعام في منطقة أُفرغت من سكانها وهدمت قراهم منذ عام (1975) فكان أن أعلن البعض عجزه عن المواصلة ومتابعة المسير من المجموعة المكونة من تسعة انصار ( علي خليل ابوماجد1، وجوقي سعدون أبو فؤاد2، أبو سلام بعشيقة3، وسلام بعشيقة4، وهشام5، وسركوت من كركوك6، ومحمود من اربيل7، وابو آمال 8، وكاتب هذه السطور9) من دون سلاح سوى بندقية صليب نصف آليه صدئة وقديمة ، وكانت ليلة الإصرار على النجاة من الموت بردا ً رغم مرض أبو آمال في حينها الذي أنقذه وأنقذنا من الموت تلك النار التي أشعلناها طيلة الليل من بقايا الأعمدة الخشبية للدور المهدمة ، كي نتدفىء بها ، وحينما باشرت خيوط الفجر تنتشر من حولنا بادرنا أبو آمال بالتهنئة بمناسبة حلول ذكرى ميلاد الحزب التي أعقبها ( تهنئة ) أخرى من مدفع الربيئة المشرفة علينا من فوق أحدى القمم ،التي واصلت قذائفها في ملاحقتنا لتنشر الخوف من حولنا بحكم قلة تجربتنا وافتقادنا للسلاح للدفاع عن النفس في هذه المنطقة التي يتحكم بها الجيش والطيران ولا وجود فيها للبشر ما عدانا و أفراد الربايا اللذين اخذوا في إطلاق النار علينا من مدافعهم ، هذا الخوف الذي يولد طاقة تتحول إلى عزيمة لمواجهة الموقف ، فأخذنا نحثُ الخطى ونواصل السير كي نبتعد من مرمى المدفعية وننجو من مخاطر مجيء وملاحقة الطيران لنا …
وكان التواصل لسنوات أخرى لحين تعرض أبو آمال لجراح ٍ بليغة ٍ حيثُ أصيبت يده بأطلاقتين في الساعد والعكس مما دفعه للسفر إلى الخارج للعلاج… وسأختصر اللاحق من الزمن للثلاثِ عقودٍ بما حملته من معاناه إلى ما قاله لي في نهاية هذه المكالمة …
لا احد يسأل… قد يكون الجميع قاطعوني بمن فيهم اقرب واعز الناس إليّ … ولست ادري أين أو فيمن الخطأ ؟؟.
تلك هي حالة ليست فردية من أبطال ذلك الزمن المر ممن باتوا يفتقدون جزءً من طموحاتهم وتفاؤلهم مع الزمن بسبب هذا النكران والتناسي الذي أصبح سمة من سمات من يدير دفة السفينة ممن يصر على قطع حبل المودة مع البشر!!…
وعذري في حالة أبو آمال انه مازال محتفظا ً بكنيته وأرجو لا تعود الذكرى القادمة بلا آمال ٍ له ولغيره من الصابرين …
وعسى أن لا تأتي اللحظة التي تتحول فيها الآمال إلى أوهام ..

تركني أبو آمال كي يتحدث معي ( سلام ) الذي جمعتني به أيام العمل السري ونحن نلتقي ونتخفى من اعْيُين المخابرات والأمن والعشرات من أجهزة القمع وجلاوزة حزب البعث وسأختار من بينها ذلك اليوم الذي كنا فيه في الموصل أثناء تعرضنا إلى حادث حين صدمتْ سيارتنا مؤخرة سيارة اخرى ، بسبب عطل المكابح ، كان سلام يقودها ، وما فرضه الموقف من حالة صعبة تطلبت الصبر وتصنع اللامبالاة حيث كنت لا املك حينها إلا إجازة مزورة لجندي مجاز ومجردا ًمن أية مستمسكات قانونية وبحوزتي مسدس وقنبلة يدوية احملها معي للطواريء في حالة تعرضنا إلى موقف لا يمكن التخلص منه لأستخدمها لإنهاء الموقف تحسبا ً لعدم الوقوع حيا ً في أيدي أجهزة النظام …

حينها كان سلام طالب في كلية الهندسة ، خرج السائق الذي صَدَمْنا سيارَته من الخلف ، يلطمُ على رأسه مدعيا ً انه فقير وكان مصاحبا ً له زوجته وبنته وحالما نظر إلينا ، طلب مني الهوية قائلا ً:
أنت الكبير وعليكَ أن تتحمل المسؤولية.
تداركا ً للوضع الصعب الذي واجهنا وبهدوء مطلوب وضروري كي لا يتعقد الموقف بيننا قلت له :
حجي الأخ هو السائق ولست أنا…
وبين أن نذهب للمرور أو نستدعيه تبين إن سيارتنا قد تعطلت هي أيضا ً ، حيث أخذت عجلاتها الأمامية تتحرك في اتجاهين متعاكسين مما دفع سلام للتوقف و توقفت سيارة الحجي هي الأخرى ، لنتفاوض من جديد كي نتخلص من ورطة اكبر في حالة الوصول للشرطة ، مبررا ً موقفنا ، إن سيارتنا تعطلت ، ولا نستطيع أن نتبعه .
دفعت له مبلغا ً كي يتركنا مما بحوزتي من مالية متراكمة لا تقل عن ألف دينار ، دفعتُ حوالي نصفها للسائق المتضرر ونجونا من مخاطر الوصول للشرطة وافترقتُ عن سلام كي نواصل أنا وكسر بقية المشوار في تلك الأيام الصعبة التي أعقبت الأنفال وانتهت بتوجهنا للبحث عن منفذ للخلاص من خلال ( خليل ) في سنجار الذي كان قد خبر الطريق إلى سوريا منذ سنوات وكنا معا ً في العمل من بداية الالتحاق وأول المفارز وأثناء البدء بإعادة تنظيمات الموصل عام 1980.
عدت ُ بذاكرتي أو عادت بي الذاكرة لست ادري إلى تلك الوجوه التي رافقتني في مسيرة آذار وحظرت وجوه وأرواح عدد من الشهداء تتزاحم من حولي …

عاد إليً ( ودود شاكر- أبو روستم ) … بملامحه وضحكته التي لا تفارق شفتيه أبو رستم الذي لا يعرف التعب بعفاروفه الذي يكاد أن يكون بطوله وتلك العمليات البطولية التي خاضها بلا ترددٍ حيث كان مثالا ً في الشجاعة والبطولة التي سوف يأتي الحديث عنها في حين آخر لكنني سأختار تلك العملية التي أرسلنا فيها أبا روستم مع مجموعة من فصيله لجلب خرفان مزرعة تعود لخيرالله طلفاح قريبة من أطراف الشارع العام بين مانكيش ودهوك شكلّت تحديا ً للمقبور صاحبها كونه ركن من اركان النظام وكذلك للربايا العسكرية التي تحيط بالمزرعة وذهب حينها أبا روستم مع مجموعته ليعود الينا في اليوم التالي مع عدد من الخرفان …

كان مزهوا ً كعادته وهو يقتربُ منا و يبتسم فرحا ً بالعملية التي جلبت شيئا ً من مقتنيات طلفاح وممتلكاته لتغذية الأنصار و مع اقترابه منا في كلي ( استوكركي ) الوعر حيث ننتظره، وقف الشهيد عادل ليبرالي معلقا ً بطريقته الساخرة شوفوا .. شوفوا .. أبو روستم يضحك وواصل بطريقته اللاذعة… يضحك … كأنه جلب لنا رأس صدام .. ولك هي خرفان … خومو هي رأس إ صْديمْ …

فما كان من أبو رستم إلا أن وجه عصاه التي إستخدها لتسيير الخراف إلى قفاه عادل ، التي نالت استحسان بقية الأنصار الذين هتفوا يعيش أبو روستم ويسقط عادل ليبرالي وكان ثمن الهتاف وجبة شهية من أول خروف من غنائم طلفاح في ذلك اليوم ..
أبو روستم هذا الخانقيني الذي عاش في بغداد عاشقا ً لفتاة في غاية الجمال كان يحمل صورتها وخصلة شعرها الذهبية معه واضعا ً إياها في جيبه الأيسر الملاصق للقلب حالما ً بتنفيذ وعده الذي قطعه لها بالزواج منها في المستقبل …
لكنه استشهد…
استشهد غدرا ً في قرية ميروكي على يد الجحوش الزيبارية من ناحية باكرمان بعد أن نصبوا له كمينا ً وكان بصحبة حازم دوغاتي يتفيء ُ في ظل شجرة أثناء إطلاق النار عليهم حيث أصيب في فخذه واخذ يقاوم لآخر إطلاقه معه… بعدها فجر نفسه بقنبلة يدوية رافضا ً أن يتمكنوا منه وهو حي… وحينها قام احد الجحوش الأوغاد بقطع إذن الشهيد وأخذها معه لتكون شاهدا ً على جريمته ، كي ينال التقدير والمكافأة من قبل رموز النظام الإجرامي الذين يشجعون هذه الممارسات ويتفاخرون بها…

اشدّ ُ ما يقلقني ويدمي قلبي وأنا اسرد جزءً من قصة أبا روستم أن يكون ذلك الجحش الذي قطع أذن أبو روستم البطل في ذلك اليوم الأغبر في عداد الكوادر السياسية ومن المتنفذين في قوام الحكومة الكردستانية التي أفردت الأحضان ووسعتها لاستقبال الجحوش ومراعاتهم بينما ما زالت عائلة أبو روستم وزملاؤه يكافحون من اجل الحصول على ابسط حقوقهم وبلا نتيجة في العراق الجديد وكردستان المحررة منذ (17) عاما ً..
ويا أسفي على ما يجمع العهد المقبور بالجديد، رغم الفارق بينهما ، من سماتٍ مشتركة تتمثل بفقدان القيم والعدالة واحترام المجرمين وتبجيلهم على حساب المناضلين والمعذبين ..
ومع الذكرى نقول:
يا للمسخرة! … يا للمهزلة!


********

وجاءني أبو علي ( حسين علي لبي ) … بوجهه الحزين يحمل عذابات روحه الجريحة وآلام وجوع اليتامى ، كان رمزا ً للصبر والنقاء يميل للصمت حيثما يكون الصمت شجاعة، فقد أبيه وترَكتهُ أمه مع شقيقته الأصغر ليواجها مصيرَهما منذ الطفولة ، عمل في مختلف المهن حتى واصل تعليمه لغاية تخرجه من معهد المعلمين.
كان يحب الأطفال وشغوفا ً بمهنة التعليم ، لكن الحرب التي اندلعت زاحمته وغيرت من مجرى حياته ليواجه خطر الموت بقرار سحبه للجيش ، فحرب صدام ونظامه بحاجة إلى جنود كوقود لها وليس إلى معلمين ، لكنه إختار البديل ، رفض الذهاب لجبهات الموت والتحق بصفوف الأنصار.. ساعدته خصاله وهدوءه على خلق علاقات طيبة مع الجميع وعمل كمساعد طبيب في المفارز وداخل المقر .
وفي الأنصار كان يقتنص الفرص لاحتساء الخمر حيث يملأ ُ زمزمية الماء بعرق بعشيقة الآتي من قرى الدشت ويعرف باعته في جميع القرى وأحيانا ً يجلب معه دبية ( مطارة ) من أم خمس ليترات إلى المقر ويخفيها عن الأنظار تحسبا ً لبقائه فترات طويلة فيه ..

شاهدته في احد الأيام يُخطي مع ملازم هشام آمر الفوج الأول في مقر مراني بين أشجار الجوز التي كانت منتشرة على طرفي النبع العذب الذي تجري مياهه وسط الوادي ، الوقت يقتربُ من المساء ِ جاءني ضاحكا ً…
فإستفسرت منه هل هناك شييء تود قوله ؟
استمر في الضحك …. ملازم هشام … وأشر باتجاهه حيث يبعد عنا مسافة خمسين مترا ً ، كان ينصحني بعدم شرب الخمر في المقر…. ونبهني بأسلوب مؤدب إلى ضرورة التمسك بقرار المنع …. لقد كان لطيفا ً وحاول إقناعي من دون إكراه …
لكن… ومد يده إلى جيب إبطه ليخرج منها ربعية العرق …. لقد كان هشام يواصل حديثه وينصحني منذ أكثر من نصف ساعة ، في الوقت الذي كنت بين الحين والآخر أُدير رأسي لأحتسي من هذه الربعية جرعة ً وكررتها أربع مرات ولم ينتبه لي أو يكشفني ، كنت استمع لنصائحه وتوجيهاته وأنا اشرب … ألا يبعث ُ هذا الموقف على الضحك ؟…
أبو علي قال لي ذات مرة انه يحلم ُ و يتمنى ولو لمرة أن يأكل دجاجة كاملة ً لوحده…
وقال لي :
هذا الحلم وهذه الأمنية تراوده منذ الطفولة ، قد يكون هذا اقل من أمنية في بلد خُطتْ حدوده ببحار ٍ من آبار النفط …. لكنه الجوع ، الجوع الذي لا حقَ أبو علي منذ ولادته ، والجوع الذي لازمه في فترة الطفولة المعذبة ، الجوع المقترن بعذابات الإنسان الكادح ، والجوع المرافق لحياة الأنصار وصعوبة الحصول على الغذاء في الكثير من الأوقات…

وعدت أبو علي بتحقيق رغبته في الحصول على الدجاجة التي يحلم بأكلها لوحده ، أثناء اصطحابي له في لقائي السري بوالدتي وأشقائي ، في نهاية عام 1986 ، بعد وفاة أبي وسقوطه في الشارع وهو خارج من استدعاء جديد لجهاز الأمن ..
سرنا الليل كله لنقطع المسافة إلى أطراف الموصل وقد هدّنا الجوع والتعب دخلنا الدار بسرعة كي لا يشاهدنا احد تسلل أبو علي إلى الغرفة المواجهة للباب الخارجي قبلي ودخلت بعده .
أردت أن انزع الحذاء من رجلي لكن الجلبة التي رافقت دخول مجموعة من المسلحين بعد ثواني وهي تتسلق الباب والسياج أذهلتنا طلبت من أبوعلي الصبر والتريث وكنت كعادتي قد جهزت بندقيتي ولا أحتاج إلا لفتح الأمان فقط .

كانت لحظات بطول ِ الدهر… كنت موقنا ً من نفسي إني سوف أتجاوز الموقف الصعب عند المواجهة المباشرة مع مجموعة المسلحين من مفرزة الأمن وحزب البعث بقيادة المجرم محمود البطل الذين اقتحموا علينا الدار في نفس اللحظة التي دخلنا فيها للغرفة وبقي بابها مفتوحا ً ، لكن ذهني قد أنشغل بمصير والدتي وأشقائي … هل يمكن إنقاذهم ونقلهم إلى منطقة آمنة بعد المواجهة المحتملة وكيف ؟!!.

وأبو علي المسكين الذي وعدته بالدجاجة الكاملة هل ستدخل معدته بدلا ً منها رصاصات المواجهة المحتملة مع زبانية البعث الذي لا يفصل بيننا وبينهم سوى جدار الغرفة ، هم في باحة الدار وعلى السطح وأمام الباب الخارجي كانوا أكثر من( 12 ) مسلحا ً ، ونحن محشورين في زاوية غرفة ،خلف دولاب الكتب، بابها مفتوح …

قال احدهم متحدثا ً مع شقيقتي أمل :

لا تخافوا.. نحن لم نأتي إليكم .. فقط سَنعبرُ من سطحكم نحو بيت جاركم لأنه هارب … نحن نبحث عن فرحان …
وأخذت أمل تتحدث مع والدتي كي تُسمعنا الموقف…
جاؤا يبحثون عن جارنا فرحان يقولون عنه هرب من الجيش .. ومدت يدها لتناولنا قدح ماء… شجاعتها بعثت في نفسي شيئا ً من الأطمئنان رغم طبطبة أرجلهم وهم يصعدون إلى السطح أو ينزلون منها استمر تفتيشهم عن فرحان أكثر من نصف ساعة كان يمكن أن يتحول لمواجهة بيننا لو حاول احدهم أن يدخل رجله أو يطل برأسه من باب الغرفة أو مجرد إلقاء نظرة على ما فيها من باب الفضول…
غادروا وبقينا …
كنت موقنا ً لو وضعت والدتي عصفورا ً أمام أبو علي أو مجرد جناح دجاجة لما استطاع التهامه في تلك اللحظات التي كنا بحاجة فيها للهواء ، ولا شيء غير الهواء ما يعيدك من حالة التوتر وشد الأعصاب إلى الحالة الطبيعية ..
قلت لوالدتي قبل أن نهمُ بمغادرة الدار هل لدينا في البيت دجاجة كي تجهزيها لأبو علي ؟
قالت لي :
منذ ثلاث اشهر لم نستلم راتب أبيك التقاعدي … يبدو إن الدولة لا تريد أن تنجز معاملة تقاعده وثلاجتنا فارغة ..
مضت الأيام …
وحلّت الأنفال …. وانشقت الأرض لتبتلع أبا علي مع أشقائي وغيرهم من المؤنفلين في قبورها الجماعية ..
مازلت ُ ابحث عن أبي علي وأحلم بإيفاء وعدي له..
ولست ادري إن كانت هي الصدفة او هو قانون الصدفة اليوم وفي الوقت الذي كنت اكتب فيه عن أبو علي ، إذْ بجاري (مصطفى السوري) يقرع الجرس حاملا ً بيده دجاجة ً قدمها لي وهو يقول :

هذه نِذرٌ من زوجتي ..

قلت له سيكون نذرا ً أقدمه لأبو علي … وحكيت له جزءً مما ورد في الأسطر السابقة وتركته يقرأُ ما ورد في هذه التداعيات قبل نشرها…
ومرة أخرى أقول هذه ليست صدفة….
هاهي الدجاجة جاهزة يا أبا علي … فأين أنت ؟!
وها أنا أعود من جديد لمواصلة البحث عنك .
وهو الوعد بالتواصل من اجل حلم اللقاء .


*****





وجاءني أمين ( عادل حجي قوال ) … كان كما عهدته حسن الهندام بكامل قيافته واستعداده الدائم للتحرك ، يحمل بندقيته في يد وفي الأخرى آلة عزفه الموسيقية ( طنبورته ) التي تتصاعد النغمات الشجية من أوتارها مع حركة أصابعه أثناء ملامستها لها ،و عيناه اليقظتين تجولان بعيدا ًكالرادار تستكشف الخطر القادم من خلال نظراته الثاقبة التي كشفت حالات عديدة من الاندساس في صفوف الأنصار من بينها رؤوس ذات شأن كبير من أمثال ( أبو هيمن ) حيث تمكن من رصده في بيت يعود للمخابرات العراقية في قرى الدشت وأفلح في إيصال الخبر الموثق من خلال رسالة سريعة وبدوري أطلعت أسعد خضر أربيللي ( أبو جبار) على تفاصيل الموضوع الذي كان يشغل موقع سكرتير محلية نينوى من دون إشعار أي شخص آخر لا في الفوج ولا في المحلية ومع ذلك عاد أبوهيمن من جديد إلى العمل في الداخل وبقينا نرصده من جديد ووثقنا علاقته بالسلطة وقد أكد لي ( يوسف إسماعيل ) أبو يوسف الذي قاد الأقليم إن أبو جبار كان قد نقل تصوراتنا بأمانة إلى قيادة الحزب لكن يبدو أنهم لم يقتنعوا ومضت الأيام وبعد سنوات التقيت بشقيق زوجته الكردية وأكد لي إن شقيقته كانت قد شخصت تعامل زوجها أبو هيمن مع النظام وأخبرت الحزب بدورها لكنهم لم يتخذوا الإجراءات المطلوبة والمناسبة…
وبعدها أكد لي ( حمة شريف ) أبو علي الذي شغل موقع مسؤول سكرتارية اللجنة المركزية للرقابة والتفتيش انه قد ابلغ قيادة الحزب في رسالة موجهة إلى أبو سعود شخصيا ً بتفاصيل شكوكه ومعلوماته عن أبو هيمن… وقال أبو علي:
لكن للأسف هناك من سرب الخبر إلى أبو هيمن من قيادة الحزب حيث صارحه أبو هيمن ذات يوم بمعرفته بفحوى رسالة أبو على إلى أبو سعود وما ورد فيها من مقترح لأبو علي بضرورة التخلص من أبو هيمن .. والشيء الذي أأسف عليه اليوم هو إعطائي رسالة الشهيد أمين إلى أبو يوسف بدلا ً من استنساخها حيث كانت ستكون ذكرى عزيزة من ذكريات أمين ونباهته اللامحدودة في هذا المجال وقد سردت هذه القصة بتفاصيلها كي أؤكد إن أمين لم يكن يتساهل في الإجراءات الأمنية ولذلك عندما سار إلى قصبة ملا جبرا في ذلك اليوم بالطريقة التي وصل بها لم يكن إلا ضحية موعد مع شخص أو نصير آخر كان أمين قد وعده بالنزول في ذلك اليوم … واطرح هذا كاحتمال غير مؤكد لأن السلطة في حينها بثت دعاية إن أمين كان على موعد معي وتركته…
في حين كنت مع كسر في قرية (كابارا) ولم نكن نعرف عن وجود أمين ومجموعته أي شيء ولو أدركنا في حينها لتمكنا من إنقاذه وإنقاذ مؤيد في فترة الليل الطويلة ، وقد علمنا في اليوم التالي قبل الظهر بالفاجعة من خلال( ابن قاسو ) الذي جاء الى كابارا مع جراره الزراعي ونقل الخبر لنا ، ومن بعده جاءت شقيقة أمين مع زوجة عمها لتؤكد النبأ ..
لم يكن أمين نصيرا ً عاديا ً بحكم مؤهلاته وقدراته ودقته في تنفيذ المهمات والواجبات الموكلة له وكان مهتما ً بتطوير قدراته ورفع مستوى ثقافته من خلال مثابرته على القراءة والإطلاع وكان ينسج أواصر المحبة والألفة مع الجميع ، وبالنسبة لي كانت علاقتي به تمتد إلى الطفولة حيث كنا شقيقين بالرضاعة بحكم انتقال أبي للتعليم في مدرسة باعذرة حيث ولدت هناك ، وحينما كنا نذهب معا ً إلى أطراف باعذرة من اجل اللقاء بوالدته كانت تقول لنا إذا سألني احد إلى أين تذهبين أقول لهم :
للبحث عن العجل.. ألستما عجلّي؟..
حينما حوصر أمين وهو جريح استمر في مقاتلة مهاجميه من الجحوش والاستخبارات رغم تطويقهم له وعند اقترابهم منه فجر بوجههم قنبلته الأخيرة وإختار الشهادة كي لا يتمكنوا من أسره..
بالأمس … بالأمس … شاهدت أمين منتصب القامةً في احتفالات بغداد مع فؤا د سالم وهما ينشدان مع الجمهور رائعة شاعر الأنصار( ابو رعد – كامل الركابي ) ..
صباح الخير كرد ستان …
بلحنها المستمد من حفيف أشجار مراني وعذوبة مياهها ودفء العلاقات الإنسانية بين أنصارها.



صباح الخير … كردستان

صباح الخير
وتغنّي الطيور..ألوان
صباح الخير
للخُضره
اﺒﮔلي الرمان
صباح الخير
لأحلامك رعد
بعيون بشت آشان
ظلّت ع الصخر
مرسومه بالدم
وطن, نخله, طفل فرحان
يا بصره
رعدنه ابمطر يضويها
المراجل دم
لوغطّت سماها أحزان
خزن ﮔلبه هموم الناس
شعلها وشبّت أبدخان
نار اتوّجرت بالظيم
من كثر السهر والغربه
والحرمان
صباح الخير يحبيِّب والف بوسه
للذكرى التمر ابسيدي بلعباس*
وتغني ابدربها ايام وهران* !

صباح الخير …كردستان
صباح الخير
للنسمه
بعذوبه اتهِّب
للحنطه
بضوه النجمات تتذهب
ﻟﻟﮔرصه
بشمس تنور تتجسب
صباح الخير
ياأول رصاصه
بكل غنجها اتشِّب !

صباح الخير …كردستان
صباح الخير ياﮔﺎره*
صباح الخير ياقنديل*
صباح الخير يا احلام*
ضوَّت بالرصاص الليل
نجوم اتفك حزنها ابصوت
أصهل من صهيل الخيل
صباح الخير
ياأطيب ﮔلب
خضًّرعليك الجوري والرمان
وتندّه ابّخور وهيل

صباح الخير…كردستان
صباح الخير
لليحلم ابنار
وع الثلوج ايفوت
لضلوع إنحنت ع الصخر
تنحت بالصخور ابيوت
تضويها الفوانيس
وتنام امشاﺒﮒ وي الموت !

صباح الخير…كردستان
صباح الخير
ﻟﻟﮔﺎع ابوداع إنجومها
ال باﻟﻤﻟﮔﻪ حلمانه
صباح الخير
يانجمة صبح
يانجمة الثوار
يعين ..إشتاﮔت الها
اعيون سهرانه
صباح الخير ياوضاح*
يالهفة فرات
السدره عطشانه

صباح الخير…كردستان
صباح الخير يابو حسين*
صباحك ياعلي ابراهيم*
يافرحة عرس
ياغنوة ازغار
ياغيرة مهر
يالمَّة ازهار
صباحك
هاكثر ضمّيت
ﺒﮔليبك شمس وانهار
صباحك
هاكثر ضوَّيت
ﺒﭽفوفك غضب ثوار
صباحك
ياحزن امي عليك
الماﻟﮔت مثلك
لابنها احبيِّب اليوفي
وصديق اليستحي ويغار !

صباح الخير …كردستان
صباح الخير
لرغيف الخبز ..حار
ﻟﻟﭽﺎي الحلو
اليخدر بالاسرار
للدار التضيِّفنه العشاها
وناس ذيج الدار
لشكفته* تدَّفت
من جمر بلوط
مو من حطب تين
الماله جمرة نار
لليمشي ابمسافات
ولهب ﮔلبه الحزن ثار
لليعطش
يشوف الماي من ابعيد
يضوي ابشجرة اسبندار*
صباح الخير
يحبيّبه والف بوسه
للنيِّه التحط خطوتها
وي خطوات الانصار !
……………………………………….
• ﮔلي الرمان ,بشت آشان: مناطق في كردستان
• رعد مجيد ,احلام(عميدة عذيبي) ,وضاح(صباح مشرف) ,علي ابراهيم:شهداء حزبنا الشيوعي العراقي في كردستان
• سيدي بلعباس ,وهران: مدينتان جزائريتان
• ﮔارة وقنديل من الجبال الشهيرة في كردستان
• شكفته:كلمة كردية وتعني مغارة في جبل
• اسبندار :شجرة جميلة فارعة الطول لاتنمو الا عند عيون الماء


صباح كنجي/ بداية نيسان2007