الرئيسية » مقالات » الشيشان

الشيشان

مقالات لنفس الكاتب

شهدت حرب روسيا الكارثية في الشيشان سفكاً للدماء ووحشية بحجم وكثافة يذكراننا بالحرب العالمية الثانية. فقد سحقت تشكيلات ضخمة من الدبابات والمدفعية والطائرات مدناً وبلدات وحولتها إلى خرائب متفحمة. كان معظم من قتل أو اغتيل من المدنيين. ولم يكن للقانون الإنساني الدولي ولحقوق الإنسان أي معنى عند كلا الطرفين.

تصل التقديرات الروسية لعدد الموتى خلال الواحد والعشرين شهراً من الحرب إلى نحو 000، 90 معظمهم مدنيين. وفرّ ما يقرب من 000، 600 مواطن، أي نصف السكان، من بيوتهم أو أجبروا على ذلك. ارتكب كلا الطرفين فظائع، علماً أن الجيش الروسي الأكبر بكثير جداً من القوات الشيشانية مذنب لأسوأ إفراط فيها. فقد هاجمت القوات الروسية دون تمييز بلدات وقرى، قاتلة المدنيين مغتصبة إياهم، ناهبة البيوت حارقة إياها. وأعدم المقاتلون الشيشان أسرى ومدنيين خصوم، واستعملوا مدنيين دروعاً تحمي قواتهم وتجهيزاتهم، وطردوا المدنيين الروس من الشيشان في حملة منظمة.

ولا يوجد جواب مباشر بسيط يجيب عن السؤال الآتي: لماذا كانت الحرب وحشية جداً؟ إن حرب الشيشان حرباً أشعلها كره قومي عرقي شديد؛ حرباً مفجعة سرعان ما تدهورت إلى حملة فمع عنيفة لم تقد إلا إلى تقوية المقاومة الشيشانية؛ حرباً وقف فيها جيش سيء التدريب متفسخ، وفي الحقيقة أكثر بقليل من غوغاء، ضد قوة عصابات أصغر، لكنها أكثر حماسة ومهارة؛ حرباً وظفت فيها حكومة منتخبة ديمقراطياً أساليب الشمولية السوفياتية وقواتها ضد سكان مدنيين. وكانت أيضاً حرباً بين شعوب وثقافات شنت حروب إخضاع وإفناء لا رحمة فيها ضد بعضها بعضاً لقرون بوحشية قروسطية لا تلين.

اقتل وإلا قتلت، ذاك هو الدافع الوحيد لمعظم جنود الجيش الروسي المتفسخ الذين كانوا يقاتلون محبطين ليظلوا أحياء وليس لكسب حرب. اكسب أو مت، تلك هي عقيدة الشيشان التي ألهمتها قومية متعصبة وإيمانهم الإسلامي بالجهاد، أو الحرب المقدسة، ضد العدو التقليدي. ويرى عديد الروس أن الشيشان داكنو البشرة، متوحشون خونة ومدمنون على الإجرام. ويرى الشيشان أن الروس غزاة قساة، سالبون لوطنهم الأم. واختار الغرب رؤية الحرب أمراً داخلياً لا تملك أسساً قانونية أو عملية لتدخل خارجي. ورغم أن الغرب يعي متألماً أن القوات الروسية مسؤولة عن موت ملايين المدنيين، إلا إنه آمن بضرورة دعم يلتسن.

وروسيا خليط متباين من مجموعات قومية وعرقية مقهورة جمعت معاً بالقوة. وآمنت كل حكومة روسية، مهما كانت آيديولوجيتها، بأن وجود روسيا يعتمد على الحفاظ على هذه الإمبراطورية المتقلقلة بأي ثمن. ووعى عديد القادة الروس وأناس عاديون بأن تحلل الاتحاد السوفياتي قد جردهم من أراض شاسعة ومن كثير من عزتهم القومية.

كان الشيشان، وهم شعب عميق القومية عسكري، من بين آخر المقهورين على يد روسيا القيصرية في القرن التاسع عشر. لكن الشيشان أبداً لم يقبلوا السيطرة الروسية، فكان حكم موسكو لذلك قاسياً. رحّل الدكتاتور جوزيف ستالين الأمة الشيشانية بكاملها تقريباً، مئات الآلاف من الرجال والنساء والأطفال، إلى آسيا الوسطى في الأربعينيات من القرن العشرين، حيث هلك العديد منهم في ظروف مروعة.

أعلنت الشيشان الاستقلال بعد انهيار الاتحاد السوفياتي سنة 1991. وعارض بعض الشيشان نظام دزوخار دوداييف، وهو جنرال سوفياتي سابق، لنزاعات قبلية ولنزاع أكثر معاصرة حول السلطة والثروة في منطقة تمر فيها أنابيب نفط أساسية. إلا إن معظم الشيشان رأوا أن حقهم في الاستقلال حقيقة من حقائق الطبيعة لا يمكن الجدال حوله كما لا يمكن الجدال حول جبال أراضيهم. ولا يحتاج الشيشان أن يبرروا مطلب الاستقلال بالقانون الدولي أو التاريخ. فإذا سألت شيشانياً مثل هذا السؤال فسوف يرد عليك إما بنظرة شفقة لأنك أبله بكل وضوح أو برد حاسم مهدد لأنك لا بد عدو.

وليس في القانون الدولي إلا القليل مما يقوله عما إذا كان للشيشان الحق في الانفصال أو عما إذا كان من المبرر لروسيا استعمال القوة لوقفهم. (رغم أن المعاهدات الدولية كثيراً ما تشير بشكل عام إلى حق تقرير المصير للشعوب ، فإنه عادة ما يفسر ليشير إلى نضال شعوب بعيدة مضادة للاستعمار وليس إلى أجزاء من دولة). غير إن الحكومات تصر على حقها الأساسي في الحفاظ على وحدة أراضيها، بالقوة إن كان ذاك ضرورياً، قابلة لذلك حق دول أخرى بفعل الشيء نفسه.

دولياً، سرعان ما نظر إلى الحرب الشيشانية كأمر داخلي. فقد قالت الأمم المتحدة إنها لا تستطيع التدخل في مسألة داخلية. وانطلقت دعوات متفرقة لفرض العقوبات، إلا إن رد الفعل الغربي اقتصر على نداءات تطالب بكبح جماح النفس وتوبيخات عرضية.

وكانت الحكومات الغربية غير مستعدة لأي عمل أكثر، أو غير قادرة عليه، لأنها رسمت سياساتها الروسية اعتماداً على الرئيس بوريس يلتسن، الرجل الذي شن الحرب. نظر الغرب إلى يلتسن على أنه الضامن لقيام حكومة معتدلة مؤيدة للغرب في موسكو. إلا إن الديمقراطية الروسية كانت في طفولتها، وكانت المجموعات الشيوعية والقومية المؤثرة في روسيا تدعو إلى خلع يلتسن والعودة إلى ماضي البلاد الشمولي.

وأراد الغرب الذي يعي جيداً وجود الترسانة النووية الروسية الهائلة والذي كان مسكوناً بشبح وقوع روسيا في الفوضى أو وقوعها في قبضة نطام سلطوي، حكومة صديقة في الكرملين. وكان العالم لا يزال يحتفل بنهاية الحرب الباردة وسقوط الاتحاد السوفياتي الذي قتل وسجن ملايين من شعبه. وكان القلق الطاغي دوام الإصلاحات الديمقراطية لضمان أن لا تعود روسيا إلى الخلف. ورُجِّح قيام روسيا ديمقراطية، أو في الأقل الأمل بها، على معاناة الشيشان.

وحتى لو أرادت الولايات المتحدة وحلفاؤها العمل، فما الذي كان باستطاعتهم فعله لوقف الحرب أو تهدئتها؟ حظر الأسلحة أو أية مواد استراتيجية أخرى لن يجدي في ظل التسلح الروسي الهائل الذي لا يزال يملك العديد من مصادر قوة عالمية ويمكنه تزويد نفسه بحاجاته كلها. وما كان لأي حظر تجاري أو مالي إلا أن يضر إصلاحات السوق الديمقراطية. وبدا أن الغرب ليس لديه مما يفعله إلا القليل، حتى ولو جاء ذاك متأخراً.

ذهل الجنود الروس عندما أُرسلوا إلى الشيشان في شهر كانون أول 1994. حاول الأطفال والنساء اعتراض الدبابات الروسية ورجوا القوات أن تعود. أوقف أحد القادة الروس قواته قائلاً: ليس من واجب الجيش مقاتلة مواطنيه.

تبخر ذاك الشك عندما أوقعت القوات الشيشانية خسائر كبيرة بين الروس. فقد حُصدت القوات الروسية سيئة التدريب فقيرة القيادة بالمئات في هجمات موجاتها البشرية القاشلة ضد المواقع الشيشانية. وتحول ما افترض أنه سيكون عمل شرطي سريع إلى مصيبة كبرى للجيش الروسي. فبدأت الفظائع فوراً تقريباً، عندما بدأ الشيشان حرفياً بتمزيق رجال سلاح الجو الروسي بينما كانت القوات الروسية تقصف التجمعات السكانية عشوائياً.

طوقت العاصمة الشيشانية غروزني وشنت عليها حرب ظلت تراوح مكانها مدة طويلة. فبعد فشل هجمات المشاة، خطط الجيش الروسي لسحق المدينة وإخضاعها. قصفت الطائرات الروسية غروزني بينما دكت القوات المدرعة والمدفعية المدينة من الأرض.

كنت أسير عائداً من مركز غروزني في شارع سكني مع زميلين في عز المعركة. ودون إنذار، أغارت نفاثة روسية علينا فجأة، مطلقة صاروخاً دمر منزلاً كبيراً مبنياً من الطوب يقع على بعد ياردات قليلة منا وأوقعنا على الأرض. كان الأشخاص الآخرون الوحيدون الذين ساروا في الشارع طفلين. مبكراً في ذاك اليوم نجونا من نار قناص في مركز المدينة. فقد أصبح كل شيء يتحرك هدفاً.

وقع الهجوم الروسي أساسياً على مدنيي غروزني، وأغلب سكانها من العنصر الروسي. فقد فرّ سكان المدينة الشيشان قليلي العدد إلى قرى محيطة بالعاصمة. عملت القوات الانفصالية من مبانٍ وضعوا فيها مدنيين روس ليكونوا دروعاً بشرية.

طبقاً للقانون الإنساني الدولي، يعتبر الروس محقين في سعيهم للاستيلاء على المدينة لأنها قاعدة المتمردين الأساسية وموقع أهداف عسكرية شرعية، بغض النظر عن وجود مدنيين. وأيضاً، عنى تحصين القوات الشيشانية أنحاء كبيرة من المدينة أن مجمعات الشقق ومبانٍ مدنية أخرى أصبحت هدفاً مشروعاً إن استخدمت عسكرياً. وهلك عديد المدنيين لا من الروس، بل لأن القوات الشيشانية استخدمتهم دروعاً بشرية، ومنعتهم أحياناً من ترك المدينة أو منعت إخلاءهم. ورغم ذلك، تعتبر الاستراتيجية الروسية بالاستيلاء على المدينة بتدميرها كاملة لا شرعية طبقاً لقواعد الحرب لأن الاستهداف يجب أن يكون مميزاً وموجهاً ضد أهداف فردية منفصلة. ولا يحق للعسكريين معاملة كل الأهداف في منطقة ما، مدينة بكاملها مثلاً، كهدف شرعي ضخم.

عندما كنت أرسل تقاريري من غروزني أثناء الحرب، استطعت أن أرى بوضوح أن كلا الجانبين يفعلان أي شيء ليكسبا الحرب. وبدا الحديث عن القانون أو الشؤون الإنسانية حديثاً لا معنى له عند معظم القادة الروس والشيشان، وبخاصة منهم أولئك الذين أرسلوا قواتهم بلا مبالاة لتُذبح يوماً بعد يوم في حرب استنزاف.

لا، ولا يمكن القول إن الجانبين المتحاربين لم يعرفا ما كانا يفعلانه أو إنهما لم يدركا مسؤوليات الجندي المحترف قانونياً وأخلاقياً. فقد كان قادة الشيشان الكبار ضباطاً كباراً في الجيش الروسي، يتمتعون بآراء مهنية وأعوام من التدريب وتعليم عال كذلك الذي تمتع به زملاؤهم السابقون في الجيش الروسي. ولكن قادة كلا الجانبين جاءوا من تقليد روسي يقضي باستعمال القوة استعمالاً لا يرحم لفرض إرادة الدولة وبغياب الحقوق الإنسانية والمدنية المفترضة.

بعد سقوط غروزني، انتقلت الحرب إلى الريف. “هدّأت” القوات الروسية القرى الشيشانية بمهاجمتها بالدبابات والمدفعية والطائرات، بغض النظر، في الأغلب، عما إذا قاومت أم لا. هذا وقد سجلت منظمات الإغاثة والمنظمات الإنسانية أنماطاً متكررة من قيام الجنود الروس بقتل مدنيين واغتصاب ونهب . وسلب لصوص شيشان مدنيين وقتلوهم.

وأسرت القوات الروسية عشوائياً رجالاً شيشان في حملة منظمة لإرهاب السكان. وروى ناجون أنهم عذبوا. وقالت عائلات شيشانية كثيرة أن رجالها لم يعودوا أبداً، ولكن لا يوجد تقدير مؤكد لعدد الذين اختفوا. هذا وقد تم العثور على قبور جماعية قرب مراكز الاعتقال الروسية في غروزني.

في شهر كانون ثاني 1996، استقال سيرجي كوفاليوف، المنشق المشهور في المرحلة السوفياتية والذي عمل رئيساً للجنة حقوق الإنسان الروسية، احتجاجاً على أفعال الحكومة. ولكنه أيضاً انتقد الشيشان لسوء معاملتهم المدنيين الروس. قال كوفاليوف في رسالة أرسلها إلى يلتسن “لا أستطيع من بعد العمل مع رئيس لا اعتبره مؤيداً للديمقراطية ولا حارساً لحقوق مواطني بلدي وحرياتهم”.

بالإضافة إلى استعمال المقاتلين الشيشان مدنيين دروعاً بشرية في المعركة، قتلوا خصوماً أسرى ومدنيين، وبخاصة منهم مؤيدي المجموعات السياسية الشيشانية المؤيدة لموسكو، وكثيراً ما عذبوا الضحايا وبتروا أعضاءهم. عذبوا بعض الجنود الروس الأسرى وأعدموهم، وعومل آخرون معاملة جيدة وأطلق سراحهم.

في محاولة منها لنقل الحرب إلى الروس، هاجمت فصائل شيشانية عدة مدن روسية، مستعملة رهائن مدنية كدروع بشرية مرة أخرى، وفي إحدى الحالات احتلت مستشفى أصبح مركز معركة كبيرة.

وبحلول صيف 1996 بدا وكأن الحرب هدأت، وزعم الروس نصراً. في شهر آب، استولى الانفصاليون على معظم غروزني في هجوم مفاجئ. أما موسكو الواعية بتنامي الغضب الشعبي ضد الحرب والتي لم تر أملاً بنصر عسكري، فقد سحبت قواتها خارجة وحاولت حفظ ماء وجهها بالقول إن قراراً باستقلال الشيشان سيتخذ بحلول عام 2001. قال الشيشان إنهم مستقلون.

فعلت روسيا ما بوسعها لنسيان الحرب. ورغم الانتخابات، ابتلع العنف والفوضى الشيشان. ولا يستطيع الصحفيون من بعد زيارة الشيشان خوفاً من عمليات الخطف السائدة. فالبلاد المدمرة تعيش في ظل البندقية.
ـــــــــــــــــــــــ
(انظر الحصانة المدنية؛ إخلاء المدنيين؛ الهجوم العشوائي؛ النزاع المسلح الدولي مقابل النزاع المسلح

——————————————————————————–
* باري ونفرو رئيس مكتب الأسوشيتدبرس في موسكو. غطى التدخل السوفياتي في أفغانستان ونزاعات في نيوكاليدونيا وباكستان وأفريقيا الجنوبية وروسيا. فاز بثلاث جوائز من اتحاد الأسوشيتدبرس لمديري التحرير، عن عمله في أفغانستان وكوريا الجنوبية والشيشان.

موقع: جرائم حرب