ومثل باقي اليهود الذين تعلقوا بالعراق ولم يفرطوا فيه، أبى والدي “تسقيط” جنسيته العراقية عام 1951 وفضل البقاء في بغداد، كان يقول لنا “يجب العمل بوصية التوراة والإخلاص للبلد الذي يأوينا. لقد تمتعنا بخيرات العراق وعلينا احترام قوانينها؟. ولما سألناه إذا سيسقط عنه الجنسية العراق لأن الوالدة لا ترى لأبنائها مستقبلا زاهرا في العراق، قال لنا: “أنا عشت إلفين وخمسمية سنة بالعراق وأجي اتركا ابخمس دقايق، أنا أش أغوح أسوي ويا هذولي الصهاينة بأيرص يسرائيل ابهل عمغ؟ خو مبعدني شاب اللطيف مثلكم!” (عشت في العراق 2500 سنة وأتركها بخمس دقائق! ماذا سأفعل في إسرائيل مع هؤلاء الصهاينة في مثل سني، فأنا لم اعد شابا مثلكم). غضبت الوالدة، “أتتركنا لأجل عراقك الفرهودي؟ سأذهب مع الأولاد للاعتناء بهم وبزواج كلادس، سنرى كيف ستستطيع بيع أملاكك هنا، بس خلى الله يسلمك!”. ذهبتْ مع أختي كلادس للتسقيط في كنيس مئير طويق وهي تعتب على الوالد الذي يفضل العراق على أولاده ومستقبلهم. وبعد يومين (10950) أعلنت الحكومة العراقية عن تجميد أموال اليهود المنقولة وغير المنقولة من الذين أسقطوا الجنسية العراقية. وقع النبأ وقوع الصاعقة على الوالدة، ففي لحظة واحدة ضاع تعب العمر ومدخراتها في بنك الرافدين، كانت تمني النفس أنها ستستعيد مدخرات العمر من البنك لشراء بيت في الديار المقدسة ومساعدة كلادس في مهر زاوجها، ولكن الفرهود الحكومي كان اسبق وضاعت الأحلام والمال والزوج المصر على بقائه وبقي شعور الضياع والخوف من المستقبل في دولة جديدة لا تدري كيف ستدبر حالها فيها مع ابنة في سن العشرين مرشحة للزواج. ومع أحلام الوالدة راحت ودائع كل اليهود “المسقطين” الذين لم “يقرءوا الممحي” ولم يسحبوا ودائعهم من البنوك ويبيعوا أملاكهم بسرعة ولم يعرضوا أثاثهم في المزاد العلني الذي أقيم على عجل في إحدى المقاهي في باب الشرقي، واتهمت الوالد بأنه كان يعلم بأمر التجميد ولم يخبرها. وبين ليلة وضحاها أصبح فقراء بغداد من المسلمين من ذوي المبادرة والجرأة تجارا في شراء الذهب والفضة والأثاث والمفروشات من العائلات التي سقطت الجنسية العراقية وشملها أمر تجميد الأموال. وفي صباح اليوم التالي، طرق الباب “أبو جراوية” وسأل “خاله، سقطتوا لو ما سقطتوا”، أجابت الوالدة “سقطنا، أشنسوي بقى!”، قال أبو الجراوية الشاب وهو يبتسم ابتسامة ثعلب اقتحم قن دجاج “اسمين ودهين”، ونظر إلى الأثاث والمفروشات والثريا الفضية المعلقة من السقف وقد سال لعابه، “خالة اتبيعون؟ آني أَرْدَ أشتري كل شي”، واخرج محفظته المنتفخة بالدنانير ليؤكد رغبته الصادقة في الشراء. قالت أمي وهي تجهش بالبكاء وتتحامل على نفسها: “أبو البيت ما سَقـّط، آني أقدر أبيع بس الفضض مال جهازي!” قالت وهي تمسح دموعها المنهمرة وقلبي يتقطع لهذا الموقف الحزين، كل شبابها وحياتها مع الوالد وذكريات الخطوبة والزواج وولادة الأطفال تتمثل في هذه الثريا، دخل أبو الجراوية وعلى وجهه علامات التشفي وبكل صفاقة أخذ كرسيا وقطع السلك وأنزل الثريا الفضية مع سلسلتها وهو يقول “وهذا الشمعدان التنك بيش تريدينه؟ آني أشتري بالكيلو!”، وأخرج من خرجه ميزانا من صنع بيتي عياراته من حجر وهو يشير إلى الحجر الكبير: “هذا كيلو، وهذا نص كيلو، وهذا ربع، أوزنلج؟” نظرتُ الى التريا الفضية من شغل العجم وسلاسلها على شكل سمكات ممسكة بفمها الواحدة بذيل الأخرى وقد نقش على الدائرة الممسكة بالشمعدانات الفضية آيات من المزامير بالحروف العبرية وقد تدلت في نهاتها كرة بيضاوية الشكل جميلة من الفضة الخالصة، كانت أمي تفخر بها وبنقوشها وبدقة صناعتها وهي تقول لنا باعتزاز: “كان جهازي أحسن جهاز، كل البرودري (التطريز) شغل البنات الدرستوهم فرنساوي وبرودري بمدرسة الأليانس”، في هذه الثريا التي شاركت أفراحنا وأعيادنا كنا نشعل الشموع في الاحتفالات بأيام عيد الأنوار والأعياد الكبيرة الأخرى والوالدة تنظر بفخر واعتزاز إلى فضيات جهاز عرسها، “ليش قتعغفون أشقد دفع أبويي المغحوم واخوتي على اجهازي”، والآن يأتي “أبو الجراوية” ويقطع السلك بكل وقاحة وجرأة كأنه صاحبها الشرعي ويساوم بأبخس الأثمان ويسميها “تنك” (صفيح). قالت والدتي وهي تكفكف دموعها “الفضض مال الجهاز مالي ما ابيعا بالكيلو، أبيعا بسعرا، ليش قا أبيعلك حدايد وتنك؟” وإذا بأبو الجراوية يتنمر ويقول مهددا “ولج يا يهودية، ليش هذا مالتكم، كل أملاككم مجمدة وصارت ملك الحكومة، آني جاي أساعدكم، هاي أنطيج عليها كلها نص دينار وإذا ما تفبلي أروح هسّا أبلـّغ الشرطة عليج تبيعين الأموال المجمدة ولله انيـّمكم تسعه باسود!” أصاب والدتي الهلع، “حرام عليك، خاف من الله يا ابني! خاطر الله، جزت ما أريد أبيع، جزنا، روح عيني روح على باب الله!”. فأجاب أبو الجراوية مستأسدا، “شوفي يا بنت السبت، آني راح أبلغ الشرطة عليكم ولا تلوموني بعد، تقبلي بنص دينار لو لا؟” وتظاهر كأنه يخرج لإبلاغ الشرطة، قالت الوالدة وقد أصابها الهلع ووقعت في حيرة من أمرها والقلق والهلع يعصفان في صدرها، “زين جيب النص دينار”، كنت واقفا أراقب ابو الجراوية وقد أخذني الغضب والتقزز من هذا الابتزاز والفرهود الجديد. فكرت في ضربه وإلقائه خارج الدار ثم تمالكت نفسي، “بعدين شرطة وتوقيف وتحقيق وتهمة بيع ممتلكات الحكومة الفرهودية” ولا سفر ولا يحزنون. سلمها النص دينار ووضع غنيمته في الخرج على كتفه ثم التفت إلي “وهذا البايسكل مالك بيش تبيعه يابا”، قلت له “هذا اشتريته آني بثمن دنانير”، ضحك أبو الجراوية ضحكة صفراء وقال “انطيني فرة عليه دا أجربه، بلكت مجرقع وما يمشي!”، وضع الخرج بالفضيات والثريا على كتفه واعتلى الدراجة وأنا ممسك بالجاملغ مثلما أمسكت في طفولتي بتلابيب دشداشة “أبو الجراوية الأول” الذي سرق مني ملاعق الفضة مع الصحن الفرفوري. وفجأة رفسني في بطني وحاول أن يسرع في ركوب الدراجة، أمسكت “بالجاملغ” وحاولت إسقاطه، ألقي درهمين وهو يقول، هذا البايسكل ما يسوى أكثر!” ثم أخذ بالصراخ، “شرطة، شرطة، تعالوا كلبشوا الهذوله اليهود ألكواويد، يريدون يبيعون أموال الحكومة!” وغاب عن نظرنا. قالت الوالدة “يا حيف نقلونو الأبو علوان من بستان مامو، لو كان بعدو صوبنا ما كان أحد يتجاسر ايسوي هيكذ بينا”. شعرت بالغضب لهذا الفرهود الجديد الذي يجري تحت بصر الحكومة وبقوانينها الاغتصابية. قالت والدتي بيأس “أمري لله، يا ظالم لك يوم، مهما طال اليوم!”.