الرئيسية » مقالات » مطالعة في كتاب الدكتور عبد الخالق حسين الصادر تحت عنوان (ثورة 14 تموز 1958 وعبد الكريم قاسم)

مطالعة في كتاب الدكتور عبد الخالق حسين الصادر تحت عنوان (ثورة 14 تموز 1958 وعبد الكريم قاسم)

أهداني الدكتور عبد الخالق حسين مشكوراً كتابه الصادر تحت عنوان “ثورة 14 تموز 1958 وعبد الكريم قاسم”, والذي نشرته دار الحصاد للنشر والتوزيع في سورية. الكتاب غني وذو منهج وابواب جديدة ويتسم بالمحاججة والسعي وراء الحقيقة, ويأتي بعد مؤلفات كثيرة اساءت بمعظمها الى هذه الشخصية العراقية التي لم تنصف وظلمت كسائر العراقيين على يد الكتاب القوميين العرب على وجه الخصوص, حيث ان جميع من كتب من العرب عن هذه الشخصية كان ينثر تشويهاته وإفتراءاته وسبابه يميناً ويساراً ولا يراعي شخصاً غادر الحياة بهذه الطريقة المأساوية, والذي لم يترك له حتى قبراً يرقد فيه شأنه شأن سائر من واجه الموت من خلق الله وذلك في الفصل الاول من جرائم البعث العراقي في عام 1963. بالطبع يستثنى من هؤلاء بعض الكتاب العراقيين ومنهم السيد ليث الزبيدي الذي كتب مؤلفاً موثقاً جدياً عن ثورة تموز بالرغم من انه كتب الكتاب وهو في ظل النظام البائد وفي ظروف لا تسمح له بكتابة مؤلف موضوعي ولكنه استطاع ان يتجاوز بعض القيود وببراعة. ويضاف الى ذلك بالطبع كتاب الاكاديمي البارع حنا بطاطو حول العراق والحركات السياسية والوضع الاجتماعي فيه.
ان مؤلف ثورة تموز 1958 العراقية وعبد الكريم قاسم للدكتور عبد الخالق حسين يعود بالقارئ وخاصة لمن عاش تفاصيل الايام التي سبقت الثورة وبعدها الى تلك الايام العاصفة التي شكلت كل لحظة منها حدثاً ذي اهمية خاصة في تاريخ العراق. ولذا اود القول ان 200 صفحة او اكثر وهو حجم الكتاب لا تستطيع ان تغطي كل تلك الاحداث الكبيرة المتسارعة ولا القيام بتحليل شامل لها. وسيظل هذا الحدث ميداناً واسعاً للبحث والتقييم من قبل الباحثين. وسيأتي اليوم لكي يخرج علينا، وهذا ما أتمناه كعراقي, مؤلف كامل وبأجزاء عديدة الى حد ما ويتسم بالموضوعية العلمية والوثائقية.
ومن هذا المنطلق فإن تقسيم الكتاب ومنهجه في تناول علاقات عبد الكريم قاسم هو اسلوب جديد وغطى جوانب من يوميات الثورة وزعيمها ولكنه لم يغطي ميادين هامة اخرى, على سبيل المثال وليس الحصر الثورة والموقف العربي الرسمي (خاصة الجمهورية العربية المتحدة ورئيسها عبد الناصر) وغير الرسمي وخاصة موقف الاحزاب القومية وبرامجها السياسية والعقل السياسي السائد آنذاك والتدخلات الفضّة لتلك القوى واثرها في انهيار الثورة، او الثورة والموقف الايراني حيث ان التراشق بالسلاح بين الطرفين لم يتوقف طوال ايام حكم عبد الكريم قاسم اضافة الى الموقف الايراني الداعم للحركة الكردية المسلحة, وكذا الحال بالنسبة الى الموقف الخطير للدول الغربية من ناحية او موقف الكتلة الشرقية وخاصة موقف الصين المتعارض مع الموقف السوفييتي بعد اندلاع النزاع المعروف بينهما واثر ذلك على مستقبل الثورة العراقية. ونضيف الى كل ذلك موقف الثورة من حركات التحرر العربية، هذا الموقف الذي يسعى القوميون ولحد الآن الى تجاهله. ان تناول هذه الابواب يسمح للقارئ وحتى الباحث نفسه على رسم خريطة موضوعية واكثر دقة لتفاصيل الاحداث ويوميات هذه الثورة الكبرى وسلوك قادتها ومنهج الحركات السياسية العراقية. ويفتقر البحث كذلك الى الوثائق الرسمية وهو امر يمكن فهمه لان هذه الوثائق غير متوفرة عملياً خارج العراق وموجودة في غالبيتها في اقبية اجهزة الامن العراقية ان بقيت سالمة من شر التخريب والدمار أخيراً.
وعلى العموم فإن موقف غالبية العرب تجاه العراق وشعبه والحركة السياسية فيه ومنذ تشكيل الدولة العراقية الحديثة، ونراه اليوم بشكل واضح، هو موقف يتسم بالسلبية وعدم الفهم او الى حد الخصومة والتكفير علاوة على تجاهل هذا الشعب على صعيد اهل الفكر والابداع والثقافة والتنوير, بل وحتى تأريخه. ان “فقهاء” العرب القوميون وصفوا العراق ببروسيا العرب وهم لا يعرفون ان تركيبة الشعب العراقي غريبة على العرب وعلى بروسيا وعلى تركيبة المجتمعات العربية من الناحية الاثنية والدينية والثقافية رغم انتماء هذا البلد الى المحيط العربي. وعلى سبيل المثال فبالنسبة لهؤلاء تعتبر الحركة القومية الكردية رديفاً للحركة الصهيونية, والتشيع رديفاً للشعوبية والرافضية, والقائمة تطول اذا لامسنا جوانب اخرى. وهكذا وقف جميع هؤلاء ومنذ ان وفد ساطع الحصري الى العراق وبدء عمله في وزارة المعارف العراقية ببث سموم التطرف القومي العربي المقتبس من التطرف الطوراني ودخلوا في نزاعات معروفة مع مثقفي العراق ورجال التنوير فيه طوال وجودهم في مناصبهم الحساسة. وحاول هؤلاء جهدهم ان يطبقوا مشروعهم القومي اليميني وبالقسر في بيئة غير مستعدة لتقبل هذا المشروع. ومن هنا نرى اندفاعهم وردود فعلهم العنيفة في العراق، حيث حاول جمال عبد الناصر ومنذ اللحظات الاولى للثورة النزول على الارض العراقية للتأثير على تطور الاحداث واحياناً بالسلاح لاحقاً لصالح اليمين القومي وحامت طائرته فوق بغداد يوم 15 من تموز عسى ان يتم السماح للطائرة بالنزول في بغداد. ولكن عبد الكريم قاسم فطن للنية ورفض السماح للطائرة وذهب عبد الناصر إلى دمشق لينظم اليه بعد حين عبد السلام عارف ليعده بالوحدة الفورية الاندماجية المعادية للديمقراطية ومزاج الشعب العراقي والتي سوف لاتكلفه الا “خمسة فلوس” لطلقة يغرسها في رأس عبد الكريم قاسم على حد تعبير عبد السلام عارف. وكان السفير المصري وهو رجل مخابرات يصر في الايام الاولى للثورة على حضور اجتماع مجلس الوزراء العراقي دون احترام لسيادة الدولة ولا العرف الدبلوماسي هذا ناهيك عن النشاط المحموم للسفارة المصرية في بغداد والتي اتسمت بالتخريب واثارة النزاعات بين العراقيين. والحكاية تطول عند الحديث عن تحالفات عبد الناصر مع الشيطان للاطاحة بالحكم في العراق. وعندما لم تتم زيارة عبد الناصر الى العراق توجه ميشيل عفلق في اليوم التالي الى بغداد في تظاهرة فاشلة سرعان ما ادرك انه غير مقبول على الساحة العراقية وغادر العراق وفي قلبه تراكم من الحقد على هذا الشعب.
اما على نطاق الحركات السياسية العربية الاخرى فإن حركة القوميين العرب ارسلت فريقاً “متخصصاً” من الخبراء بقيادة نايف حواتمة لتدريب انصارهم على حرب الشوارع والذي سرعان ما اعتقل ثم اطلق سراحه من قبل عبد الكريم قاسم على مبدأ (عفا الله عن ما سلف) ليحمل البندقية مرة اخرى في 8 شباط ضمن الحرس القومي السئ الصيت ليقود فرق الموت ضد العراقيين. ان الحديث عن هذا الامر يحتاج الى اهتمام خاص لما له من اهمية حيث تتكرر الآن نفس المسرحية على يد المتطرفين العرب.
اعود الى محتويات الكتاب لاشير الى بعض الملاحظات حوله, وليس كل الملاحظات بالطبع. في البدء اعرج على فصل العلاقة بين عبد الكريم قاسم والشيوعيين. وهنا اود الاشارة الى بعض العبارات المطلقة الواردة هنا مثل “اعتقد بإن الحزب الشيوعي لعب دوراً كبيراً في تدمير الثورة بشكل مباشر او غير مباشر”, وهو استنتاج فيه قدر غير قليل من المبالغة, وعلى تعبير الشعب الانجليزي “ too much”. وهنا اود ان اشير الى انه لو كان الحزب الشيوعي قد لعب “دوراً كبيراً” في تدمير الثورة, فبماذا يمكن ان نصف الدور الذي لعبته التيارات القومية وشركات النفط والعربية المتحدة والمخابرات الاجنبية…؟ كما انني لم اتوقع ان ترد في هذا البحث الاكاديمي عبارات مثل “ماكو مهر بس هالشهر ونذب القاضي بالنهر”, وهو الشعار الذي أعتبر انه قد رفع من قبل الحزب ,اضافة الى اتهام الحزب بالتجاوزات على الشخصيات الدينية مثل السيد محسن الحكيم ولم يرد في الكتاب طبيعة هذه التجاوزات. ان التهم التي كانت توجهها اذاعة صوت العرب وعلى لسان مهرجها احمد سعيد حول حرق القرآن وتعذيب “المناضلة حسنة ملص والمناضل عباس بيزه” هي تهم كانت تثير السخرية لدى المواطن العراقي وحتى الذين يخالفون النظام الجديد وفيها ما فيها من الابتذال السياسي. وفي الحقيقة هناك عدد من الشعارات التي أشار اليها الكتاب بكونها قد رفعت من قبل الشيوعيين لا اساس لها من الصحة مثل شعار”بأسمك يا فهد يحكم المهداوي”، في حين ان الشعار الاصلي كان” بأسمك يا شعب يحكم المهداوي”. وكذلك الاشارة الى شعار لم اسمع به وهو”لولا فهد لما كان عبد الكريم قاسم”!!. هناك شعار رفعه المرحوم عبد القادر البستاني عند عودته الى العراق بعد الثورة واطلقه امام جموع المستقبلين في المطار وهو”وصانا فهد ثورتنا اشتراكية”، الذي انتقد من قبل قيادة الحزب واخبر التنظيم بخطأ طرح مثل هذا الشعار. ان كثرة من الاتهامات التي كانت تلصق بالحزب ليس لها اي اساس من الصحة، وغرضها بالاساس التعبئة الذهنية لتبرير موجات الاغتيالات ثم القتل الجماعي الذي تم في شباط عام 1963, حيث قبع في سجن الانقلابيين والملاعب الرياضية في بغداد واحد من كل ثمانية من البالغين العراقيين بعد الانقلاب وحسب احصائية اعلنها الانقلابيون آنذاك.
لقد كان امام الشيوعيين مهمات فوق طاقتهم وليس لديهم الوقت ولا النزعة للتفكير بالقاضي لكي يرموه بالنهر ولا بالقرآن لكي يحرقوه. لقد تمت مراسيم زواج العديد من قادة الحزب الذين خرجوا من السجن ولم يرمي احدهم القضاة بالنهر بل جاؤوا بهم ليعقدوا زواجهم وبالاحترام المعهود ومنهم المرحوم حسين الوردي وجمال الحيدري وعزيز محمد ومحمد الجلبي ونافع يونس وعزيز الحاج ولطيف الحاج وعشرات آخرين ممن اتاحت لهم الثورة فرصة التمتع بحياة زوجية بعد سنوات من السجن والمنافي. وإضافة الى ذلك فإن غالبية كوادر الحزب تنحدر من عوائل دينية ومحافظة معروفة يصعب على ابنائها تجاوز المراسيم التقليدية للزواج. ان اكثر ما عمله هؤلاء هو ان غالبيتهم كانوا “مفاليس” مادياً وقد خرجوا للتو من السجون ولم يكن بأمكانهم دفع مهور عالية حتى ان الكثير منهم اكتفى بمبالغ رمزية لا تتجاوز المئة فلس كما حصل مع المرحوم حسين الوردي. اما الحديث عن استفزاز الحزب لرجال الدين والدين فليس له اي اساس من الصحة. فلو كان الامر كذلك لما كانت جماهيرية الحزب هي الاوسع في مدن مقدسة مثل الكاظمية وكربلاء والنجف, ولما خرجت مواكب اتحاد الشبيبة الديمقراطية في شوارع النجف وكربلاء وهي تعبر عن حزنها وتلطم على مأساة الامام الحسين في عاشوراء. واذا كان للشيوعيين العراقيين من حسنة فإنهم احترموا المعتقدات الدينية وكانت جريدة اتحاد الشعب والقاعدة قبلها لا تفوت الفرصة في ابراز احترامها لهذه المناسبات الدينية، هذا التقليد الذي دأبت عليه الصحافة الشيوعية العراقية ولحد الآن. وليس من قبيل الصدفة ان العديد من رجال الدين كانوا في صفوف الحزب حتى وصل الامر في اول انتخابات لاتحاد الطلبة في كلية الشريعة ان حصل الشيوعيون على اربعة مقاعد من اصل ثمانية في قيادة الاتحاد في الكلية حيث فاز بالاربعة الاخرى الاخوان المسلمون. اما موضوع استفزاز السيد الحكيم فهو غير وارد بتاتاً ولا توجد اية وثيقة او حادثة لشهود عيان تدل على ذلك وفشل جميع الكتاب لتأكيد هذا الامر. وفي الحقيقة يعود الامر الى عام 1956 عندما بدء العدوان الثلاثي على مصر وقام العراقيون بدورهم في دعم اشقائهم وتوجه العديد من ابناء النجف من كل الاتجاهات السياسية بمن فيهم رجال الدين مطالبين السيد الحكيم بإصدار موقف ضد العدوان من المرجعية ولكنه ابى القيام بذلك، مما ادى الى غضب اهالي النجف ورجال الدين وحدا بالجمهرة الغاضبة والمتوترة المحيطة بمنزل السيد الحكيم برمي النعل على بيت الحكيم واتهم الشيوعيين بهذا العمل وهو غير صحيح كما تأكدت بنفسي وقتئذ، ولا ادري لماذا يولع العراقيون برمي النعل؟؟. ولم يحدث بعد الثورة في النجف أي توتر مع السيد الحكيم وانخرط الكثير من آل الحكيم في الحزب الشيوعي. ولا يوجد في وثائق الحزب اية اشارة الى الحكيم سلباً ام ايجاباً سواء في اثناء احداث قناة السويس او بعدها. ولقد كان موقف الحزب تجاه الدين ورجاله يتسم دائماً بالحذر وتجنب اية اساءة لهم. وكان الحزب يمجد مراجع تقليد من امثال آية الله النائيني الذي اتسمت افكاره بالتحرر من الدوغما والتعصب وآية الله السيد ابو الحسن الاصفهاني الذي امتنع عن اصدار فتوى بناء على اصرار من الشاه وحكام العراق بتحليل هدر دم الشيوعيين العراقيين وأعضاء حزب توده في الأربعينيات. وهناك شواهد كثيرة على ممارسة كوادر وقادة في الحزب للفرائض الدينية كالصلاة والصوم ومنهم على سبيل المثال ولحد الآن العزيزة الدكتورة نزيهة الدليمي. إن مثل هذه الممارسة الدينية لاعضاء الحزب هي اكثر ملحوظة في ريف الوسط والجنوب وعلى نطاق كردستان العراق. فاذا كان موقف بعض رجال الدين سلبياً تجاه الشيوعيين لاي سبب فلماذا وقفوا ضد ثورة تموز ككل وقائدها ووضعوا ايديهم بيد اوساط مناوئة حتى للجماهير الشيعية التي يدّعون الدفاع عنها وضد الثورة التي اعطت الفرصة لاول مرة للشيعة بالتمتع بحريتهم وحقوقهم واصدروا الفتاوى بالقتل وحولوا ضريح الكاظمية الى مركز للتحقيق والتعذيب على يد انصار الخالصي الابن والذي راح ضحيتها حوالي ثلاثين شخصاً من ابناء الكاظمية!!!هناك واقع تبلور بعد ثورة تموز انقسمت فيه المؤسسة الدينية الشيعية والسنية بين معارض وموافق للنظام الجديد لاسباب تتعلق بالموقف السياسي ولا علاقة ذلك بالإيمان الديني. لقد كان موقف بعض رجال الدين المعارض للثورة وكل من يدافع عنها نابع من عدة اسباب منها ارتباطهم بالنظام الاقطاعي المنهار الذي كان يمدهم بمصادر مالية خاصة بعد اعلان الاصلاح الزراعي وقانون الاحوال الشخصية وغيرها من القوانين اضافة الى موقفهم الايجابي من النظام السياسي السابق الذي انهار او بحكم علاقتهم بالحكم الايراني الشاهنشاهي، ولدي قصة طويلة حول ذلك عندما كنت في السجن الايراني في الاعوام من 1964 الى 1971 لا يتسع المجال لسردها هنا. ان القضية هي ليست في الرعب من الخطر الشيوعي المزعوم، فالخطر كما يحصل الآن هو انهيار المنظومة الطائفية العنصرية التي كرسها الارث العثماني الثقيل في بلادنا والقائم على حكم الأقلية وابعاد الاكثرية والتمييز الطائفي والقومي، ومن هنا تم رفع شعار”لا شيعية ولا شيوعية ولا شركاوية” من قبل اعداء النظام الجديد. والغريب هو ان يقف قسم قليل من رجال الدين الشيعة ضد ابناء جلدتهم ويتستروا على المحنة التي تعرض لها الشعب العراقي لاحقاً.
في الكتاب هناك عبارات توحي وكأن الشيوعيين عبارة عن موجودات عنيفة فالتة من عقالها وتضرب يميناً ويساراً، وهذا غير دقيق. العنف بدأ به انصار النظام المنهار ومن انضم منهم الى الحركات القومية في الساعات الاولى من انهيار النظام السابق تماما كما انضم الآن انصار النظام الصدامي الى التيارات الدينية وحتى المدافعين عن الديمقراطية وحقوق الانسان بعد التاسع من نيسان عام 2003. وهنا اود التأكيد على ان الاحزاب القومية شهدت بعد ثورة تموز تحولاً كبيراً في تركيبها بما يضمن هيمنة اقصى اليمين وأنصار النظام السابق عليها، وبرزت شخصيات لم تكن معروفة على الساحة القومية وغرق حزب البعث على وجه الخصوص بالضباط اليمينيين الموالين للنظام السابق وأزاحوا ثم اغتالوا مؤسس الحزب في العراق فؤاد الركابي والعديد من قادة الحزب. ان اول الاغتيالات وفي وقت مبكر من الثورة نفذت ضد الشيوعيين، وسقط أول شيوعي, الحاج آل سعدون, برصاص الغدر في تكريت على يد القاتل صدام حسين في الاسابيع الاولى التي اعقبت الثورة. وكانت الضحية الثانية هو العامل وعضو المقاومة الشعبية في صوب الكرخ عزيز سوادي، هذا قبل تصاعد الخلافات الحادة وما يسمى بالمد الاحمر. ثم استمرت حملات الاغتيالات لاحقاً في شوارع بغداد ومدن أخرى ليقع صريعاً المربي الفاضل الشيوعي ممدوح الآلوسي وفهر نعمان الاعظمي وعشرات آخرين بحيث وصل عدد الضحايا في الموصل وحدها الى اكثر من 400 شخص، واخليت مناطق في بغداد وبعض المدن من الشيوعيين وانصارهم كما حدث في الأعظمية والموصل على سبيل المثال وليس الحصر. ولم يكن الحزب الشيوعي هو البادئ في الصراعات السياسية حيث بذل جهداً غير قليل من اجل اعادة الحياة في جبهة الاتحاد الوطني، وتصرف الحزب بحذر لفترة غير قليلة. ولكن واقع الخوف من الديمقراطية وما ينتج عنها من نتائج غير مناسبة خاصة بالنسبة للتيار القومي وحتى بالنسبة الى تيارات سياسية اخرى وضباط الجيش من القوميين والتدخلات العربية سد الابواب امام كل محاولة لاضفاء الهدوء في العلاقة بين الاطراف المختلفة. ربما لم يكن لدى الحزب المهارة الكافية في ادارة هذا الصراع.
كما ان السلوك العملي لبعض الاحزاب لم يساعد على التهدئة، وعلى سبيل المثال اقدام حسين جميل على غلق صحيفة اتحاد الشعب بشكل يعد خرقاً لابسط التقاليد الديمقراطية لا يمكن ان يثير الود لدى الطرف الآخر او عند انصاره. كما ان اقدام الحزب الوطني الديمقراطي على تجميد نفسه بين حين وآخر وفي ظروف حساسة هو الآخر يثير التساؤل والشكوك وربما الى اندفاعات طائشة لدى اعضاء في الحزب الشيوعي العراقي. كما أن امتناع الحزب الوطني عن تقديم اية مبادرة للخروج من دوامة الاختلافات والصراعات والتزام الصمت يثير هو الآخر الشكوك حول نوايا الحزب. وبالمناسبة فإن الحزب الوطني الديمقراطي مد الجسور سراً مع من نفذ الصفحة الاولى من الجريمة الكبرى في العراق الا وهم انقلابيي شباط ولم يتم ادانة او التلميح بالادانة لهذا الفعل الاجرامي من قيادة الحزب الوطني الديمقراطي على الاطلاق. وهنا لا أنكر حدوث تجاوزات لا ديمقراطية أزاء نشاطات معدودة للحزب الوطني الديمقراطي وأحياناً رفع شعارات تنتقد الحزب وبعض قادته، ولكنها تبقى في إطار محدود ولا تنم عن تنظيم مسبق مخطط ومدبر من الحزب وقيادته. وفي الحقيقة اشير الى انني وقد كنت مسؤولاً عن التنظيم الطلابي (الكليات والثانويات) في بغداد لم استلم اي توجيه بذلك ولم يحصل اي صدام مع اعضاء في الحزب الوطني بل وكنا على تعاون مع ممثلهم في اتحاد الطلبة الطالب في كلية طب الاسنان ناصر حسين الطرفي والذي جرى انتخابه بدعم القوة التصويتية للشيوعيين في كلية طب الاسنان. وبالطبع لا انفي بعض الاندفاعات العفوية للناس، وهي صفة عامة ترافق كل الثورات حيث يطغى فيها قدر كبير من الهستيريا والتطرف. ولكن التجاوز على الوطني الديمقراطي، الذي يوعز الى المنافسة بين الحزبين على المواقع في الكتاب، فيه قدر من عدم الدقة والمبالغة. فمثل هذه المنافسة غير موجودة بل كان هناك خلافات. فالحزب الشيوعي وخلال الفترة التي سبقت الثورة كان على احسن علاقات مع الديمقراطي وكان اعضاء الحزب يقومون بالنيابة بتوزيع نشرات الحزب الوطني وبيانات غرفة تجارة بغداد التي كان يدعمها الوطني الديمقراطي خاصة في فترات حرجة كتلك التي واكبت انتفاضة العراقيين في عام 1956 للتعبير عن التضامن مع الشعب المصري. وللتاريخ كان الحزب الشيوعي عوناً لكل الاحزاب ومن ضمنها حزب البعث الذي تلقى هدية ثمينة في ذلك الوقت وهو جهاز طباعة، وكانت بيانات جبهة الاتحاد الوطني وتنظيم الضباط الاحرار تطبع في مطابع الحزب أو مطابع يشرف عليها الشيوعيون. بالطبع لا يمكن الركون الى حديث يونس الطائي الذي كان جزء من المخطط الذي حيك للاطاحة بالزعيم عبد الكريم قاسم. وكذلك لا يمكن الركون الى مذكرات رفعت الجادرجي الذي كان خائفاُ من ان يطرد من دار ابيه في حالة قبوله بمنصب اداري في امانة العاصمة اقترحه عليه عبد الكريم قاسم كمظهر من مظاهر التعامل الديمقراطي بين الاب والابن!!
والأمر الهام الاخر الذي يناقشه الكتاب هو موضوع السلطة والشيوعيون بعد تموز. وهنا ينبغي الإشارة الى ان الحكومة التي تشكلت بعد ثورة تموز ابعد عن المشاركة فيها ظلماً الحزب الشيوعي العراقي، ومن المفارقات أن يشارك الحزب في حكومة عراقية في ظل الاحتلال الامريكي الآن وفي عام 2003 ولا يسمح له بالمشاركة في حكومة قادت جبهة الاتحاد الوطني الثورة فيها والتي لعب الشيوعيون الدور الابرز في نشاطها. بالطبع لابد وان يترك ذلك تساؤلات عن مغزى هذا التمييز في الوقت الذي شارك ممثلي جميع الاحزاب في الحكومة التي تشكلت بعد ثورة تموز. ولكن ذلك لم يمنع الشيوعيين من تقدم الصفوف في حماية المنجز الشعبي الكبير. وتجاهل الحزب هذه المسألة لحين خروج البعث والاستقلال وفريق الجادرجي من الحكومة وبقاء فريق محمد حديد فيها، حيث حصل فراغ سياسي خطير في السلطة، ثم تصاعد التآمر ضد النظام الجديد بعد محاولة اغتيال قاسم. عندها طرح الحزب في مظاهرة اول ايار شعار”حزب الشيوعي في الحكم مطلب عظيمي” وهو الشعار الداعي الى المشاركة في الحكومة لتعزيز مقاومتها وردعها للتآمر وليس استلام السلطة وازاحة عبد الكريم قاسم. وبعدها جرى استيزار اول وزيرة في العراق والعالم العربي الشيوعية الدكتورة نزيهة الدليمي لوزارة خدمية هي وزارة البلديات.
وفي الحقيقة لم يطالب الحزب بالسلطة حتى في فترة قيادة الرفيق فهد، حيث اقتصر برنامج الحزب على التحرر من التبعية وتحرير الفلاح وانصاف العامل وتنمية الصناعة الوطنية والديمقراطية الليبرالية فقط دون الحديث في اية وثيقة حزبية عن سعي الحزب لاستلام السلطة ولا الحديث عن سلطة الطبقة العاملة او ديكتاتورية البروليتاريا. وفي الواقع فإن المتتبع لكتابات فهد يمكن التأكد من ان هذه الشخصية كانت تطالب بالديمقراطية الليبرالية ولم ترد في كتاباته اية عبارة حول الديمقراطية الشعبية او الديمقراطية الموجهة التي لم تكن مطروحة اصلاً قبل اعدام الرفيق فهد ورفاقه. ربما يمكن استثناء كتاب واحد كتبه الرفيق فهد وهو “حزب شيوعي لا اشتراكية ديمقراطية” الذي ما هو الا نقل بالنص للنظريات الستالينية الشائعة آنذاك والتي فرضتها ضرورات الصلة بالحركة الشيوعية العالمية، وهي ليست وجهة نظره والتي لم يجر تطبيقها في غالبية الاحزاب الشيوعية في انحاء العالم. بالطبع بعد اعدام قادة الحزب في عام 1949جاءت قيادات تفتقر الى الحكمة والتجربة وغلب عليها ميول التطرف اليساري وادت الى تمزق الحزب، شأنها شأن ميول متطرفة ظهرت خصوصاً بعد 8 شباط وبقيت بعض ذيولها الى الآن مثل اقحام عدد من الموضوعات المتعلقة بديكتاتورية الطبقة العاملة او رفع شعار المنجل والمطرقة على الصفحة الاولى من طريق الشعب. إن القيادات المزايدة بالتطرف والحديثة العهد بالسياسة هذه، استمرت لفترة قصيرة بعد إعدام قادة الحزب في شباط عام 1949, وسرعان ما تمت معالجة الامر على يد الشهيد سلام عادل الذي اعاد الوحدة للحزب وسلك الحزب سلوكاً واقعياً وهذا ما اتسمت به وثيقة الكونفرنس الثاني للحزب عام 1956 والتي خلت من التطرف والمزايدات اليسارية التي تلي عادة اي فشل او هجوم تتعرض له الحركات السياسية. هذه الوثيقة مهدت الطريق لانطلاقة الحزب ولتحالفه مع القوى الوطنية العراقية ولتحرر العراق في تموز عام 1958. وقد امكن اخراج مثل هذه الوثيقة المتينة والواقعية بسبب اندماج كل من راية الشغيلة وحزب الشعب اللذين ضما نخبة من المثقفين وذوي النزعات الواقعية وضد التطرف وبسبب إنهيار الستالينية على نطاق الحركة الشيوعية, مما ادى الى ان يعمل الحزب خلال الفترة التي تلت الوحدة الحزبية عام 1956 بشكل نشيط وتسوده حياة حزبية صحية تتصارع فيها الافكار بشكل سليم بما تشكل فترة زاهية في العمل السياسي العراقي والشيوعي بوجه خاص حتى اندلاع الثورة.
واؤكد هنا ان موضوعة السلطة لم تطرح أبداً الا بعد مأساة شباط عام 1963 وبدء التنافس بالتنظير حول هذه القضية بين الطامحين على زعامة الحزب أو عندما هيمنت المرارة على الشيوعيين بعد الضحايا الكبيرة التي قدموها، ومعها بدأ التراشق والاتهامات بين ما تبقى من القياديين الشيوعيين عن المسبب لهذه الخسارة وتنافس العديد في تبرئة النفس والقاء اللوم على هذا وذاك. ولكن الحقيقة والواقع في ذلك الوقت هو امر آخر حيث ان الحزب لم يناقش موضوعة استلام السلطة عبر ازاحة عبد الكريم قاسم. واذكر اننا كنا نشبه وضع الحزب بحزب اكيل القبرصي الذي لديه الغالبية من الاصوات في البرلمان ولكنه يدعم شخصيات قبرصية كالقس ماكاريوس لتولي مسؤولية الحكم لاعتبارات تتعلق بالاجواء المحيطة بالبلد واجواء الحرب الباردة. وبتقديري فإن استلام السلطة من قبل الحزب في ذلك الوقت كان سيعرض الحزب لمأساة اكبر مما حصل على المدى القريب والبعيد واتفق بما ورد في الكتاب. ان القول بأن الشهيد سلام عادل كان الى جانب ازاحة عبد الكريم قاسم واستلام السلطة لا تؤكده جملة من المعطيات. الدليل الاول انه لا توجد اية وثيقة حزبية تشير الى ذلك ومنها محاضر اجتماعات المكتب السياسي في ذلك الوقت. ولا يصح التعويل على حديث المرحوم صالح دكلة والتي تصور الامر كمؤامرة بين سلام عادل وبعض العسكريين، هذا التصور هو اقرب الى صورة كاريكاتورية من صور افلام رامبو. ان أهم ميزة لسلام عادل هو الحرص على الرجوع الى الهيئات الحزبية في اتخاذ القرارات وهو الذي استلم قيادة الحزب بعد ازاحة حميد عثمان الذي لم يكن يعير اهمية لاية هيئة ويصدر القرارات بإسمه. ومن غير المعقول ان يبادر الشهيد سلام الى ارتكاب خطيئة تخطي الهيئات الحزبية للبت في مسألة على هذه الدرجة من الخطورة. اضف الى ذلك فإن الشهيد كان يستمع كثيراً الى تقديرات القيادة السوفييتية التي كانت تقف ضد القيام بعمل لازاحة عبد الكريم قاسم وضد توتير العلاقات مع جمال عبد الناصر. انني اؤكد ان النقاشات التي كانت تجري في منظمتنا كانت تنصّب على كيفية التصدي للتآمر والنشاط المعادي الذي اخذ ابعاداً خطيرة بعد ان بدأ عبد الكريم قاسم بالهجوم على الشيوعيين وازاحة الضباط الشيوعيين من الجيش او اعتقال بعضهم وارجاع العديد من الضباط الذين تآمروا عليه إلى الجيش وعودة الحياة لجهاز الامن الخبير في مطاردة الشيوعيين وعودة الشرطة، التي كانت بلا عمل بعد الثورة سوى الخروج بمظاهرات ترفع شعار “اسألوا الشرطة ماذا تريد وطن حر وشعب سعيد”, الى الميدان لتسهم في قمع الاضرابات العمالية والانخراط في مهمة مطاردة اليسار وبحيوية. بالطبع ان استفحال النشاط المعادي اثار الخوف والقلق عند الجميع وشرع الحزب بتنظيم ما يسمى بلجان الطوارئ على نطاق بغداد وبعض المدن بعد ان حل عبد الكريم قاسم المقاومة الشعبية التي قامت بجهد كبير للجم الجرائم والحد من النشاط المعادي للحكم. وللاسف ان مسألة المقاومة الشعبية تعرضت للتجني من قبل العديد وبغير حق على انها مؤسسة سلبية وغيرها من الاوصاف وهي التي انشأت بقرار من الحكم. أن لجان الطوارئ التي مر ذكرها كانت غير فاعلة فهي لا تملك السلاح لان الحزب كان يخشى من ردود فعل عبد الكريم قاسم في حالة العثور عليه، وبقيت مهمة هذه اللجان ذات طابع تعبوي في حالة حدوث طارئ ونشاط معادي كالذي حدث عند محاولة اغتيال عبد الكريم قاسم في شارع الرشيد أو في صبيحة الانقلاب الاسود في 8 شباط. واسترشد الحزب بسياسة ما سمي آنذاك بسياسة “تضامن-كفاح-تضامن” ازاء عبد الكريم قاسم، واستمر هذا النهج حتى 8 شباط عام 1963. بالطبع كان هناك ضغط من قبل بعض العسكريين الشيوعيين من الذين كانوا يتحسسون الخطر المحدق اكثر من غيرهم ويتنبئون بالمحنة المقبلة وكانوا يعبرون عن اراء حول ازاحة قاسم. وقد نقل لي المرحوم عامر عبدالله ذلك قبل سفري للدراسة الحزبية في موسكو في خريف عام 1960 حيث كرر اكثر من مرة”ان هناك ضغوط من بعض الضباط للقيام بعملية لازاحة عبد الكريم قاسم دون النظر الى ردود الفعل الاقليمية والدولية والعراق محاط بالخصوم، وهذا مرفوض من قبل قيادة الحزب”. وعندما ابعد الشهيد سلام عادل الى موسكو في عام 1961 بناء على قرار من قيادة الحزب وجاء الى المدرسة الحزبية كنت غالباً ما اتردد اليه ونذهب في اوقات الفراغ لمشاهدة معارض الفنون التشكيلية العامرة في موسكو او الى المسارح الجميلة، صدف وان فتح هذا الموضوع، اي ازاحة عبد الكريم قاسم، بيننا وطرحت عليه فكرة استلام السلطة، وأجابني بالنص:”ان ذلك ضرب من المغامرة والجنون”. والحقيقة ان موضوعة استلام السلطة جاءت من خارج الحزب قبل انقلاب شباط ومن داخل الحزب بعد شباط وضمن الصراعات الداخلية في الحزب. في الخارج كان هناك توجه محموم من قبل الصحافة الغربية لتصوير ما يحدث في العراق على غرار ما جرى في روسيا عام 1917 وتشبيه قاسم بكيرينيسكي, رئيس وزراء الحكومة المؤقتة بعد ثورة شباط عام 1917، وتشبيه البلاشفة وسياستهم بالشيوعيين العراقيين ومساعيهم المزعومة لازاحة عبد الكريم قاسم. وقد غطت هذه التقارير الصحف الغربية وكذلك مراسلي الصحف الاجنبية الذين كانوا يلتقون عبد الكريم قاسم ويعزفون على وتر التهديد الشيوعي لحكمه ومنهم صحفي هندي معروف لا اتذكر اسمه الآن تردد اكثر من مرة الى العراق وركز بشكل خاص على موضوعة الحزب الشيوعي العراقي. وهناك دور الصين الذي لا يجري الاشارة اليه. ان غالبية وفود الحزب الشيوعي العراقي التي ذهبت الى الصين قبل انقطاع العلاقة الحزبية مع الحزب الشيوعي الصيني كانت تنقل لقيادة الحزب الشيوعي الصيني دور ومكانة الحزب الشيوعي العراقي في العملية الجارية في البلاد وكانت تسمع الجواب التالي من القيادة الصينية، ومنهم شو آن لاي:”ماذا تنتظرون لاستلام السلطة”. وكان هذا الجواب غريباً على مسامع هذه الوفود. وانتقل الامر الى نمط آخر مغاير بعد ربيع عام 1960 عندما شرع الحزب بنشر موضوعات القيادة الصينية المعروفة بـ”تحيا اللينينية” ثم توقف نشرها دون اكمالها في صحيفة اتحاد الشعب بعد ان انتبه بعض القياديين الى انها تتناقض جوهرياً مع سياسة التعايش السلمي والتوجه العام الذي اقر في وثيقة عام 1957 وفي اجتماع عام 1959 للاحزاب الشيوعية والعمالية. هذا الاختلاف ترك اثراً في قيادة الحزب بين موال لموقف غالبية الاحزاب والموقف السوفييتي وبين بعض القياديين ومنهم من مثل الحزب في اجتماع للاحزاب الشيوعية في موسكو بما اعتبر تعاطفاً مع الموقف الصيني. وتكرر نفس الشيء في كل المنظمات العالمية سواء في اتحاد الطلبة العالمي او اتحاد الشبيبة الديمقراطي العالمي واتحاد النقابات ومجلس السلم حيث تحول الامر الى مواجهة حادة بين الجانبين السوفييتي والصيني، واتخذت قيادة الحزب العراقي موقفاً شديد الانحياز للموقف السوفييتي، علماً انه قد بدأ نوع من الفرز داخل القيادة ضمن هذا الصراع الخطير الذي أحاط بالحركة الشيوعية العالمية. وبدأت القيادة الصينية بمساعي لجذب انصار لها داخل الحركة الشيوعية وخارجها واضعاف مواقع السوفييت على نطاق الحركة الشيوعية وحركة التحرر الوطني واضعاف مواقع الاحزاب الشيوعية التي تقف الى جانب الموقف السوفييتي. وكان نصيب الحزب الشيوعي العراقي من هذا التوجه كبيراً لدى القيادة الصينية حيث راح الموفدون الصينيون يسعون الى دق اسفين وتعميق التوتر بين عبد الكريم قاسم والشيوعيين وتشديد توجس قاسم من مخططات الشيوعيين المزعومة بالاطاحة به وتطور الامر الى حد تقديم معونات الاسلحة لانقلابيي شباط عام 1963.
يقع العديد من الباحثين عند نقد سلوك الشيوعيين العراقيين بعد تموز عام 1958 ومنهم الباحث حنا بطاطو في دوامة التأكيد على ان الشيوعيين كانوا يهولوا ويرددوا كثيراً من موضوعة التآمر من أجل مكاسب حزبية ضيقة. ان توضيح هذا الامر وردّه الى درجة من السهولة لو عدنا الى حجم التآمر الذي وجه ضد النظام الجديد وقيادة عبد الكريم قاسم والقوى الداعمة له. فالحدث التموزي العراقي كان بالغ الخطورة على قوى دولية واقليمية ومحلية بحيث بادرت الى انزال القوات العسكرية في لبنان والاردن والحشود العسكرية الايرانية على الحدود العراقية لتتطور الى تراشق مستمر بالاسلحة بين الطرفين على الحدود ونصب محطات اذاعية في سوريا وايران ضد الوضع الجديد والمؤامرات الكثيرة التي حيكت والتي تكاد تكون يومية الى حد استهداف حياة عبد الكريم قاسم، كل ذلك لدليل على صحة توقعات الحزب ومصادر معلوماته وليس العكس. ولا يحتاج ذلك الى عبقرية استثنائية لمعرفة ذلك، ويستغرب الباحث المحايد كيف ان تنطلي لعبة نفي هذه المؤمرات على شخصية عسكرية ذكية مثل الزعيم عبد الكريم قاسم.
وهناك العديد من المآخذ الأخرى ضد الشيوعيين والتي يمكن تفنيدها وبسهولة. ولكن هل يعني ذلك عدم ارتكاب الشيوعيين اخطاء مما اوصل الوضع الى الحصيلة الدرامية في عام 1963؟؟. بالطبع كلا والف كلا، فالشيوعيون العراقيون كانوا جزءاً من التجربة بإيجابياتها وسلبياتها. وكان من ابرز ما واجه الشيوعيين من عثرات هي صعوبات داخلية وفي القيادة الحزبية التي اعقبت تموز. لقد كانت قيادة الحزب واسلوب عملها منذ وحدة الحزب او منذ استلام سلام عادل لقيادة الحزب وحتى عشية تموز عام 1958 تتسم بميزة الانسجام والنظام في العمل وبحياة حزبية بعيدة عن الصراعات الحادة وهذا لا يعني بالطبع الاختلاف في الرؤية لدى اعضاء القيادة وفي الحزب عموماً. ولكن ما أن انفتحت ابواب السجون وخرج قياديون سابقون وكوادر من السجون ثم انضمام الكثير منهم الى الطاقم القيادي حتى بدأت الحياة الحزبية تأخذ منحى آخر. لقد كان جو السجن مشحوناً بالصراعات التي كانت تتسم غالبيتها بالذاتية والبعد عن ساحة النضال والتطورات المتسارعة اليومية وعدم استيعاب ما يجري في المجتمع، وهو أمر مفهوم. ويسرد الشهيد سلام عادل قصة تلك الرسالة التي ارسلت الى قيادة السجن قبل شهور من ثورة تموز والتي يلمح فيها الحزب الى قرب تحرر السجناء وبأمل تحرر العراق. وما كان من احد الرفاق القياديين الا ان يسخر من هذه التلميحات باعتبارها “مزعطة”. وعند أنضمام العديد من القياديين السابقين الى الطاقم القيادي بعد تموز الذين كانوا بعيدين كل البعد عن البناء والاسلوب الذي اتبع بعد وحدة الحزب عام 1956 اضافة الى ملموسيات الوضع السياسي والاجتماعي والفكري في المجتمع, نقلوا معهم تلك الأجواء المشحونة بالصراعات مما ادى الى شل قدرة القيادة في الادارة الماهرة للاداء السياسي المناسب للحزب. وفي الحقيقة لم يكن لدينا فكرة عما يجري في القيادة ولكننا بدأنا نحس تدريجياً بتخلخل في الاداء مقارنة بذلك الاداء الحزبي الراقي الذي سبق الثورة الى حين تفجر التناقضات والصراعات التي كانت تتسم بالصراع حول القيادة والمراكز القيادية. ومما شدد ذلك عدم لجوء قيادة الحزب الى عقد مؤتمر أو كنفرنس حزبي ليناقش ويحدد ملامح السياسة الواجب اتباعها في الظروف الجديدة التي تلت ثورة تموز عام 1958. هذا الصراع اللامبدئي حرم قيادة الحزب من التفكير بتروي والتفكير بوضع خطة نسلكها لمواجهة الاوضاع البالغة التعقيد التي تواجه البلاد.
وارتكبت قيادة الحزب من ناحية أخرى خطأ كبيراً في فتح باب الحزب على مصراعيه بقبول افواج كثيرة من الاعضاء الجدد، بحيث زادت عضوية الحزب من حوالي اكثر من 700 عضو قبل الثورة الى عشرات الالاف من الاعضاء الجدد، ربما اكثر من 40 الف عضو ومرشح خلال شهور. وهذا يعني ان الحزب الذي كان ينعم بديناميكية عالية مع قلة العضوية قد ترهل وانخفض مستواه السياسي والاداء النوعي ولم يعد بإمكانه ضبط سلوك الاعضاء الجدد على النحو الذي كان سائداً في الفترة التي سبقت الثورة. ولم يكن بالامكان انجاز مهمة التربية السياسية والفكرية لهذه الجمهرة الواسعة الجديدة وغرق الحزب في هذه الجمهرة. ومن هنا كنا نلاحظ الشطط والاندفاعات التي تتناقض حتى مع الاتجاه الحزبي العام. وقد ارتكبنا نفس الخطأ اثناء فترة التحالف مع البعث في السبعينيات مما ادى الى امر آخر وهو حالة اندساس خطيرة للمخابرات الصدامية داخل الحزب مما ادى الى شله. واعتقد ان العبرة في العضوية ليست في العدد بل في النوعية والدينامية للاعضاء. ومما زاد الطين بلة ان هذه الجمهرة القليلة الخبرة لا يمكنها بالنتيجة قيادة ذلك الجمهور الهائج الذي نزل الى شوارع المدن العراقية وريف العراق من اقصى كردستان الى ريف البصرة، هذا الجمهور الهائج المنفعل الذي يرافق عادة تلك المنعطفات الثورية المصيرية التي يمر بها اي بلد، ولنا في ذلك مثال الثورة الفرنسية وآخرها مثال الثورة الشعبية في أيران. ان هذا البحر والموج الجماهيري الهائج المشروع له شعاراته الخاصة واساليبه الخاصة ولا ينتظر التوجيه من احد بعد ان خرج “الجني” من القمقم. وفي الشارع كانت تصيبنا الحيرة من الشعارات والممارسات العجيبة والغريبة ومنذ اللحظات الاولى للثورة. أذكر الآن انه كانت لنا مواعيد كل نصف ساعة يوم 14 تموز لمتابعة الشؤون الحزبية وصادف ان كان لي موعد على قمة جسر التحرير الذي افتتح في نفس اليوم من قبل أهالي المنطقة. وبينما كنت انتظر لمحت ثلاث مدرعات من صنع انجليزي كان يستخدمها الجيش العراقي وكانت تسير وراء هذه المدرعات جمهرة كبيرة من ابناء المنطقة وهي تهتف وتلوح بالعصي ضد اشخاص في المدرعات تبين انهم اعضاء في حكومة الاتحاد الهاشمي من الاردنيين وبينهم ابراهيم عبد الهادي. وعندما اقترب الموكب الغاضب لمحت احد الضباط وهو الملازم عبد الرزاق وهو شيوعي ومن الضباط الاحرار وخاطبني بضرورة التحدث للناس بالكف عن ملاحقة هؤلاء. وبالفعل صعدت على متن المدرعة وبدأت اتحدث الى الجمهرة مطالباً اياهم بأسم جبهة الاتحاد الوطني بالكف عن الملاحقة والسماح للضابط بإيصال الاردنيين الى وزارة الدفاع. وما ان انتهيت حتى انبرى احدهم وكان ضخم الجثة ويحمل قامة تلمع بيديه وقال لي :”انزل ابن الحجي ولا تحشر نفسك، يبدو ان منشأك البرجوازي البرجوازي مازال قوياً عندك”!!! ونزلت وعرفت فيما بعد ان الجماعة قد اجهزوا على هؤلاء الأردنيين الوزراء الثلاثة. وبعد وقت قليل وفي نفس اليوم كنت على موعد آخر في شارع الرشيد وفي ساحة حافظ القاضي وامام مصور ارمني قديم اسمه ارشاك. وكان الرجل منهمكاً ببيع صور اخذها ربما لجثة عبد الاله، وطلب منا المسؤول الحزبي ان نسعى لاقناع ارشاك بضرر بيع هذه التصاوير وبدأنا نجمعها من الطريق. كما سمعت في نفس اليوم ان والدة احد العقداء الاربعة الذين اعدموا بعد حركة مايس 1941 وهو محمود سلمان إنها توجهت نحو جثة عبد الاله التي كانت معلقة في عمارة في صوب الكرخ وامام جسر الشهداء وبدأت تعضها تحقيقاً لنذر لها بعد إعدام ابنها الطيار محمود سلمان الذي اعدم بأمر من الوصي عبد الاله. مثل هذه الحوادث ومن ضمنها قتل الملك والعائلة المالكة حدثت في اليوم الاول من الثورة.
بالطبع ومع تعقد الاوضاع السياسية كان من الصعب السيطرة على انفعالات الناس. ولكن ذلك لا يعفي الحزب من ضرورة التفكير وعلى الاقل للحد منها في احداث لاحقة، ولو كان من الصعب السيطرة عليها. بالطبع إن كل هذه الممارسات لا يمكن ان تلصق بالحزب الشيوعي وبتوجيه منه ولا حتى بالاحزاب الاخرى. ومع مرور الايام بدأنا نسمع شعارات غريبة ومنها ” عاش الحزب الشيوعي العراقي بقيادة الزعيم الاوحد عبد الكريم قاسم”. ومع اشتداد الصراع أخذنا نسمع شعارات اخرى مثل “المايصفك عفلقي” و”ماكو مؤامرة تصير والحبال موجودة” والتي لم يقف الحزب بشكل حازم تجاه وقفها، بالطبع دون ان يكون الحزب هو من رفعها. اذكر إنني كنت واقفاً على شرفة مكتب الشهيد حمزة سلمان امام سوق الصفافير في شارع الرشيد وكنت اتحدث الى الشهيد والانسان الرائع ابراهيم حكاك الذي ما ان سمع هذا الشعار حتى قال” بالله عليك هل اننا ثرنا وقمنا بهذا العمل من اجل تحقيق مثل هذا الشعار وهذه الترهات”!!انني اشير هنا الى ان الحزب وفي كثير من الاحيان اصبح رهينة للحركة العفوية الجماهيرية بسبب الخلل الذي وجد في المركز القيادي.
كان الحزب يشدد في الجانب الدبلوماسي من علاقات العراق الخارجية على جانب واحد وهو تطوير العلاقة مع الاتحاد السوفييتي ودول الكتلة الشرقية وضمن عقلية الحرب الباردة المستعرة في ذلك الوقت، ولم يعر إهتماماً مطلوباً لحساسية وضع العراق اقليمياً وهو محاط بخصوم الداء منذ لحظة اندلاع الثورة ولا مع الدول العربية ولا مع الدول الغربية التي بادلته العداء. بالطبع كان هؤلاء مرعوبين مما حدث في تموز ولم يتوقعوه، ولكن كان على الحزب ان يلعب دوراً في تهدئة هذا العداء وليس تشديده. كان عبد الكريم قاسم يسعى الى تهدئة العلاقات وتخفيف التوتر ولكننا كنا نشدد بدعوى معاداة الامبريالية والرجعية ونضغط على الحكم بهذا الاتجاه. وعلى سبيل المثال ارسلت الحكومة الامريكية مبعوثاُ لها هو راونتري للتباحث مع الادارة العراقية الجديدة ونظم الحزب مظاهرات ضده وطوق مطار بغداد لكي لا يستطيع الخروج منه والتباحث مع وزارة الخارجية وعاد من حيث أتى. وبالرغم من الموقف العدائي لعبد الناصر ولكن كان علينا ان نضغط بإتجاه قدر من التطبيع معه. وفي الحقيقة حشرنا انفسنا في عجلة الحرب الباردة وآثارها السلبية على البلاد دون ان نفكر بعواقب ذلك. وارعبنا هذه الاطراف بشكل اكثر من واقع الحال رغم انها، كما اشرت، كانت مرعوبة من الحدث نفسه وهو 14 تموز. ومما شد ذلك اكثر هو ابراز الود للاتحاد السوفييتي بمناسبة وغير مناسبة،”اتحاد فدرالي صداقة سوفييتية”، وغيرها من الشعارات التي كانت توحي وكأن العراق اضحى جزءاً من الكتلة الشرقية. لم يكن هناك خلاف تقريباً حول الصداقة مع الاتحاد السوفييتي بعد مواقفه المساندة للعرب، ولكننا طرحنا شعارات غير واقعية وتتعدى ذلك الاحترام الذي كان يكنه العرب عموماً للاتحاد السوفييتي.
وهناك ثغرة جدية في ممارساتنا خاصة بعد اشتداد المواجهة مع خصوم الحكم القائم هي اننا تصرفنا ومن منطلق الحرص بالطبع وكأننا سلطة موازية في بعض الاحيان، مما اعطى انطباعاً وكأن هناك ازدواجية في السلطة، سلطة عبد الكريم قاسم وسلطة الحزب الشيوعي، مما حمّلنا اوزار الحكم وتبعاته من ناحية، ومن ناحية اخرى انخرطنا في اعمال ليست من صلاحياتنا مثل اقامة محاكم في الموصل لانصار الشواف والذين اعلنوا العصيان في المدينة، ولا يبرر ذلك عصيان الشواف والانتهاكات واعمال القتل التي ارتكبت ضد الشيوعيين وانصارهم وانصار الحزب الديمقراطي الكردستاني. وعلى العموم كان هناك تفريط في النشاطات الجماهيرية والمظاهرات بذريعة تعبئة الناس ضد الاعمال المعادية وكان بعضها غير مبرر ولا يأخذ بنظر الاعتبار ظروف كل مكان وزمان. ان اقامة مهرجان لانصار السلام في الموصل لم يأخذ بنظر الاعتبار الجو المتوتر في المدينة التي كانت بغالبيتها لا تتعاطف مع الشيوعيين وانصارهم. علماً ان هذه النشاطات الاستعراضية لم تقدم ولم تأخر ولم تضف شيئاً الى مكانة الشيوعيين وشعبيتهم، لربما بالعكس. وتنطبق نفس المقولة على احداث كركوك، إذ على الرغم من أن طابع الصدام هو صدام كردي تركماني بالاساس ويعود الى خصومات متراكمة ومصالح متضاربة، و لم يخلو من استفزازات مقصودة ضد مظاهر الاحتفال بالذكرى الاولى لعيد الثورة وساهمت قوى معروفة في الاستفزاز، ولكن كان على منظمة الحزب في كركوك ان تلعب دورها في تهدئة الوضع وليس الانجرار وراء المصادمات في 14 تموز عام 1959.
في البداية اشرت الى ان البحث الحالي عن 14 تموز وعبد الكريم قاسم يفتقر الى فصول كثيرة اخرى لكي تكتمل صورة هذا الحدث الكبير وزعيمه. ومن هذه الفصول الهامة الناقصة هو فصل خاص بالأخطاء التي ارتكبها عبد الكريم قاسم والتي اودت بحياته وحياة الالاف من العراقيين وقادت العراق الى دوامة ونفق من التدمير مستمرة لحد الآن. وبتقديري ان عبد الكريم قاسم لم تكن لديه صورة عن الخطر الداهم ضده لسبب بسيط هو انه لم يقدر حجم الضربات التي وجهت الى المصالح الاجنبية. فإذا كان تأميم النفط في أيران وتأميم قناة السويس قد أدى إلى أستنفار الغرب ضد إيران والعدوان الثلاثي ضد مصر, فإنني أعتقد أن الخروج من حلف بغداد والاسترليني واصدار قانون رقم 80 حول تقليص حدود سيطرة الشركات الاجنبية النفطية وإقامة علاقات طبيعية مع الاتحاد السوفييتي وتسليح الثورة الجزائرية وتشكيل جيش التحرير الفلسطيني واصدار قانون الاصلاح الزراعي واعتبار الاكراد شركاء في الوطن وتحرير المرأة وبداية ممارسة المواطن العراقي لبعض حقوقه الديمقراطية …الخ, كل ذلك يعد أكثر خطورة ويجند خصوماً بطيف أوسع ويخططون ليل نهار لازالة هذا التهديد الجدي للقوى المندحرة داخلياً وإقليمياً وعالمياً. وهذا ما لم يدركه قاسم ولربما الجميع لكي يقودوا سفينة البلاد بمهارة عبر هذه العواصف. وهكذا كان يردد عبد الكريم قاسم دائماً “ماكو مؤآمرة” و”العفو عما سلف”. بالطبع لم يكن المطلوب منه اقامة حمامات الدم ولا التغني بشعار”اعدم ..اعدم”, ولكن السعي لردع المتآمرين الذي يعملون على المكشوف لاقامة حمامات دم وشرعوا بها حتى قبل إنقلابهم المشؤوم.
كان أمام الشهيد عبد الكريم قاسم فرص ذهبية للانتقال بالبلاد الى مجتمع المؤسسات وتكريس تقاليد ديمقراطية توفر الفرصة للجميع بالمشاركة في ادارة البلاد ولفتح الباب واسعاً امام البلاد العربية نحو الديمقراطية بدلاً من الفساد والاستبداد المريع الذي مازال يشد بخناقة على العرب المساكين ويكنّز الثروة في نفر محدود ويعرقل التطور والتنمية في البلدان العربية التي، رغم ثرواتها الهائلة، مازالت الامية تشكل 50% من السكان فيها، وتهيمن التيارات الاصولية الدينية المتطرفة على اذهان وسط واسع من الشبيبة العربية وتزجهم في دوامة العنف المرير. وبتصوري ان عبد الكريم قاسم كان على قناعة بأن شخصيته الكاريزماتية لوحدها، وهو فكر ساد غالبية البلدان العربية والاحزاب السياسية والعالم الثالث وبلدان الكتلة الشرقية آنذاك، هي كافية لتعبئة الشعب لتحقيق مشروعه ودفع البلاد على سكة التنمية والتطور. ان هذا التقدير فشل على يد عبد الناصر وسوكارنو وبورقيبه وكاسترو وكيم ايل سونك وغيرهم. ولهذا تأخر في الشروع بأصدار قانون الاحزاب ولم يأخذ بشكل جدي هذه العملية عندما رفض طلب الحزب الشيوعي واعطى اجازة الحزب لداوود الصائغ الذي لم يمثل الا نفسه وكان محظ أداة بيد قاسم ضمن عملية الشد بينه وبين الحزب الشيوعي. وهكذا بدأت عملية وتّرت العلاقات اكثر بين الطرفين عندما بادرت قيادة الحزب من اجل عرقلة “الحزب الشيوعي القاسمي” بإرسال متطوعين من اعضاء الحزب للانضمام الى داوود الصائغ لكسب اجازته ولكنهم ينسحبون من حزب الصائغ حال تقديم طلبه ويفرط هذا الحزب. وتكررت هذه العملية الكوميدية عدة مرات ولشهور حتى سحب الحزب الشيوعي يده من اللعبة. وكان عبد الكريم قاسم سلبياً ازاء مساعي لتقريب وجهات النظر بين الاحزاب. ففي منتصف عام 1959 بادر الحزب الشيوعي الى جمع بعض القيادات في الاحزاب العراقية لتكوين تجمع جديد بديلاً لجبهة الاتحاد الوطني التي انتهت مهمتها وفرطت. ولكن انبرى المرحوم ملا مصطفى البارازاني الذي كان يعتبر نفسه “جندي الزعيم” وبقوة السلاح الى اقتحام مقر الحزب الديمقراطي الكردستاني واخراج المرحوم حمزة عبدلله وآخرين من المقر وبمباركة من عبد الكريم قاسم. ولا ادري ماهي الحكمة في اقحام عبد الكريم قاسم نفسه بهذه العملية خاصة وان هذا التجمع لم يكن موجهاً ضد عبد الكريم قاسم بل بالعكس كان يرمي الى تطويق المخاطر التي تحيط بالبلاد. اعتقد ان ما جاء في الكتاب حول مسؤولية الجميع في عرقلة تطبيق الديمقراطية فيه شئ من عدم الدقة، واعتقد انه كانت هناك كل الظروف مناسبة ومنذ اليوم الاول للثورة للشروع بالحياة الحزبية والتي من شأنها الحد من المواجهة الحادة بين الحركات السياسية والتوجه للعقلانية والاحتكام الى رأي الجمهور في الامور المختلف عليها.
ان اكثر الاخطاء جدية عند عبد الكريم قاسم هو تعامله مع القضية الكردية. كان قاسم مبادراً نحو طرح القضية الكردية والشروع بإنصاف هذا الشعب. وكانت اولى مبادراته السماح بعودة المرحوم الملا مصطفى البارازاني ورفاقه الى العرق, ثم الشروع بتسمية الكرد كشركاء في الوطن وعدد غير قليل من الاجراءات الثقافية ومراعاة الخصوصية الكردية وهي اجراءات ذات اهمية تاريخية يمكن تطويرها على مراحل، هذا في ظل أجواء قومية عربية شوفينية تعتبر مجرد الحديث عن حقوق الشعب الكردي مؤامرة ضد العرب!!. انني اعتقد ان لجوء القيادة الكردية بعد اكثر من سنة من عمر الثورة نحو حمل السلاح كان خطأ تاريخياً ألحق الضرر بقضية الشعب الكردي والشعب العراقي خاصة وانها لم تقدم تصور عن مطاليبها الملموسة. لقد كان هذا الصراع عاملاً في تهديم البلاد وتبديد موارده المادية والتمهيد لسيطرة القوى الاكثر تطرفاً وفاشية في العراق. ومهد هذا الصراع الطريق نحو لجوء القيادة الكردية نحو ايران وهو امر يثير العجب خاصة من المرحوم الملا مصطفى البارازاني, والحديث هنا عن ايران الشاه العدو اللدود لأماني الشعب الكردي، والولايات المتحدة التي استخدمت القضية الكردية وسيلة ضمن دوامة الحرب الباردة, وتدخل اسرائيل في هذا الصراع ضمن مساعيها للنفوذ في المنطقة وفرض ارادتها. لقد كان هناك قوى ضغط داخل الحركة القومية الكردية تعمل بإتجاه ابعاد الحركة القومية الكردية عن القوى الديمقراطية العراقية وتقويض مفهوم النضال المشترك بين العرب والاكراد الى حد انها مدت الخيوط مع ألد اعداء الشعب الكردي في الداخل وهو اليمين القومي في شباط عام 1963، في حين ان مصير الشعبين مشترك ولا حاجة لاقحام قوى لا تؤمن اساسا بحق الشعب الكردي بل تستغل المشكلة لدوافع آنية براغماتية. هذا النهج كبل القيادة الكردية وحشرها في طريق غير معنية به الى حد إضطرارها الى الاستجابة لطلب الشاه بتسليم كوادر من الحزب الديمقراطي الايراني الى الساواك حيث تم اعدام البعض منهم و زج آخرين في غياهب السجون حيث التقيت ببعضهم عندما كنت نزيل سجن الشاه في الستينيات. وقد عبر عن هذه المأساة بمرارة السيد مسعود البارزاني عندما التقيناه، الرفيق كريم احمد وكاتب هذه السطور، في عام 1979 بعد انتصار الثورة الشعبية الايرانية التي اطاحت بنظام الشاه في فندق متواضع في ساحة الطوبخانة (ساحة الخميني حالياً) لاول مرة بعد انقطاع وصدام بين الحزب الشيوعي والحزب الديمقراطي الكردستاني وكان لقاءاًًً مؤثراً للغاية. وقتها اشار السيد مسعود البارزاني في معرض حديثه عن النكسة التي تعرضت لها الحركة القومية الكردية بعد اتفاقية الجزائر عام 1975 بما يلي:”كنا نقف مع القوى الوطنية الديمقراطية العراقية وكنا اقوياء بذلك رغم سلاحنا ومعداتنا الشحيحة والبسيطة، ولكننا حصلنا على السلاح واحدث المعدات من قوى خارجية غدرت بنا وبجرة قلم في الجزائر وانهار كل شئ”، مؤكداً ضرورة السعي لحل المسألة الكردية ضمن اطار عراقي دون اللجوء الى دوامة مجهولة والسير في دهليز مظلم لا يؤدي الى شئ. فاذا كان الموقف الذي اتخذته القيادة الكردية بحمل السلاح خاطئاً فان الخطأ عند الطرف المقابل, أي عبد الكريم قاسم, كان هو الآخر فادحاً حيث لم يستطع استدراج القيادة الكردية نحو التسوية والاتفاق على غرار ما فعله الطرف الاخر. لقد قدمت الكثير من المشاريع لتجنب الصدام ومنها المشروع الذي قدمه الحزب الشيوعي حول الحكم الذاتي ولاول مرة في العراق. ولكن تم تجاهله، وتدخلت اطراف صديقة للطرفين وفشلت في تحقيق السلام في كردستان. ونظمت الكثير من الفعاليات لوقف الحرب ضد الشعب الكردي بمبادرة من الشيوعيين والديمقراطيين, وكانت تواجه بالعنف وليس التعامل بتروي ومسؤولية معها. بالطبع بادر عبد الكريم قاسم بإظهار قدر من التراجع ولكن بعد خراب البصرة.
كان الشهيد عبد الكريم قاسم رجلاً عسكرياً موهوباً وذي خبرة ومعرفة وثقافة عسكرية عالية. ولا افهم كيف وقع هذا الإنسان في فخ العمل العسكري الداخلي وخاصة ضد الكرد وهو يعرف مصير كل الحملات التأديبية السابقة التي قامت بها الحكومات العراقية المتعاقبة؟؟ فاللجوء الى السلاح والجيش في صراع داخلي قد يخمد او يعرقل قضية شعب ولكنه لا يضع حداً لطموح اي شعب كان، وان القضية الكردية قضية سياسية ديمقراطية لا يمكن حلها بالاسلوب العسكري. وهذا هو الامر المحير الذي دفع عبد الكريم قاسم الى فخ المواجهة العسكرية المدمرة والتي كانت السبب الرئيسي في الاطاحة به واغراق العراق بحمامات الدم.
وبدون الاثقال على الشهيد عبد الكريم قاسم، أود ان اشير الى ان العراق وطبيعته وتعقيداته تحتاج الى جهد مشترك وعقل جماعي لحل مشاكله ولا يمكن لفرد مهما كانت خبرته وموقعه وسمعته ونزاهته ان يحل المشاكل. العالم كان يتجه خاصة بعد الحرب العالمية الثانية نحو المشاركة الجماعية التي حيثما وجدت تمتع هذا المجتمع او ذاك بقدر من الاستقرار والازدهار. ان النزعة الفردية لعبد الكريم قاسم كانت احدى نواقصه، ونواقص الكثير من السياسيين ولحد الآن. كان يقيل الوزراء ويعينهم دون اعلام مسبق لهم ودون تبيان الاسباب وهذا ما حصل مع الدكتور الفاضل إبراهيم كبة والدكتورة نزيهة الدليمي وآخرين. والغريب انه كان الى جوار عبد الكريم قاسم شخصيات عسكرية ومدنية ذات كفاءات عالية في الدولة من امثال جلال الاوقاتي قائد القوة الجوية ووصفي طاهر المرافق الاقدم لعبد كريم قاسم وطه الشيخ احمد وفاضل المهداوي والكثير من الشخصيات المدنية التي كان قاسم يتجاهلها ويقرب شخص مثل يونس الطائي الضالع في التآمر ضده!!! ولم يستمع عبد الكريم قاسم الى جملة من التحذيرات حول الجهود المبذولة للاطاحة به ومن ضمنها ماردده شاعرنا الكبير محمد مهدي الجواهري مكرراً نفس التحذيرات الموجهة الى بكر صدقي عام 1936 حيث قال :
وضيق الحبل واشدد من خناقهم لعل كان في أرخائه ضــــــــرر
تالله لأقتيد زيد بأسم زائـــــــــدة ولأصطلى عمر والمبتلى به عمر
اما العلاقة بين الجواهري وقاسم فهي احد القصص الدرامية التي احاطت بثورة تموز ورجالها. ترجع علاقتي المباشرة واليومية تقريباً بالنابغة الجواهري الى عام 1973 عندما تم ايفادي من قبل الحزب للعمل في مجلة قضايا السلم والاشتراكية في براغ. وكان شاعرنا الكبير يعرج على المجلة يومياً لتناول الجعة الجيكية الطازجة التي كان يفضلها على غيرها. ولا حاجة للتذكير بأن الجواهري نابغة عصره وكتب تاريخ العراق بشعره البليغ والنافذ ولم يبخل بإبداعه في ميدان النثر، وللانصاف كان للجواهري قدرة على التنبؤ بالاحداث السياسية قد لا تجدها حتى عند محترفي السياسة الذين تشغلهم الاحداث اليومية. ومن هنا كان يتنبأ بمجزرة شباط وتنبأ ايضاً بإنهيار الجبهة بين الحزب الشيوعي والبعث والتي كان يسميها “جبهة الحلي. والجواهري شأنه شأن أي انسان لا يخلو من الدوافع الذاتية والمرارات التي تعتري بني البشر. بالطبع لا اظن انه كان في نية عبد الكريم قاسم اغتيال الجواهري كما ردده هو وكتبه في مذكراته. اعتقد ان الدافع الاساس لخروج الجواهري من العراق بعد تأزم علاقته مع عبد الكريم قاسم هو خوف الشيوعيين من تعرض الجواهري الى الاغتيال من قبل انصار التيارات القومية اليمينية الذين كانوا يكنون الحقد له. ولم يتم ترتيب خروجه ولجوئه الى جيكوسلوفاكيا بمعزل عن الحزب الشيوعي العراقي. اما مذكراته التي كتبها في اواخر الثمانينيات فلم تكن بمعزل عن الجو النفسي القاسي الذي كان يعاني منه، والذي اتسم باليأس المرير وبالسلبية ازاء السياسة ونشاط الاحزاب وعدم قدرتها على احداث تغيير في الوضع. وطالت هذه النفسية حتى تقييمه لاحداث عراقية مثل ثورة العشرين التي اخذ يستكثر تسميتها بالثورة وما هي إلا “كونة” على حد تعبيره. وقد عايشته عن قرب عندما كنت في سوريا وكنت أتتبع مزاج هذا العملاق ومراراته. وبالطبع طالت مرارات الجواهري وملاماته عبد الكريم قاسم ومسؤوليته في الاحداث في العراق وهذا سبب كاف لان يحتل هذا الموضوع حيزاً كبيراً في مذكرات الجواهري المعروفة.