في العام الماضي كتبت مقالة كانت بعنوان (هكذا نظام يستحق السقوط) وأشرت الى الممارسات السيئة والأجرامية للنظام البائد الكثيرة والمقززة بحق الشعب العراقي ، وتحدثت فيها عن الأمل الذي يبتسم لنا بعد طول عبوس ، وبداية أفراح لأنتهاء حزب البعث وعهد الفكر الشمولي ، وتخلصنا من حاكم ظالم ومجرم متمرس ظلمنا وأجرم بحقنا دون رحمة وشفقة ، تلك اللحظات لا بد لنا فيها من الفرح والأحلام لأنها لحظات أرخت يوم مولد عراق جديد وحياة جديد وهواء نقي خالي من فايروس البعث .اليوم الذي أنتظره الفرد العراقي طويلاً بفارغ الصبر ليخرج من تلك الحقبة المظلمة ، ولينعم بالأمن والأستقرار . كان يحدوني الأمل بأن يطل العام القادم من عيون العراقيين بنظراتهم المفعمة بالامل وأحلامهم المنتظرة لما هو أفضل . وأتى هذا العام وشعبنا ينخره الخوف والقتل والتخريب لأنه أصبح بين مطرقة الإرهابيين وتفخيخ السيارات والعبوات الناسفة , وبين سندان الميليشيات الإسلامية والعوز والفاقة ، وأخذ يفترش الطرقات والساحات باعة متجولين , ومتسكعون في الشوارع أغلبهم من الأطفال الذين فقدوا المعيل في حروب النظام الخاسرة وفي تلك الجرائم الخسيسة . يعيشون بهذه الفاقة ويفترشون الارض التي تفور من تحت اقدامهم ثروات وخيرات .
السؤال الذي يطرح نفسه : ما الجديد في العراق الجديد ؟
بعد سقوط النظام البعثي الفاشي أخذت بعض الأحزاب قيادة السفينة العراقية التي أصبحت بديلاً لحزب البعث , الى نظام جديد لكي يحترم فيه الأنسان العراقي وتصان فيه كرامته ، لذلك أستبشر العراقيون خيرا وتنفسوا الصعداء وراحوا يمنون انفسهم بمستقبل مشرق كانوا يحلمون به .. عراق جديد وجميل وافضل ، عراق الحلم والتسامح ، عراق القانون ، عراق الديمقراطية والفيدرالية ، عراق العدل … والخ . ولكن للاسف ان احلامهم وأمانيهم ذهبت عبر ادراج الرياح وتبددت في الهواء وتردى مستوى الخدمات على كافة الصُعد . لعل ابرزها الاضطراب والارتباك في الحياة العامة بسبب استشراء ظاهرة الفساد الاداري والنهب المنظم لموارد الدولة تحت شتى الذرائع واختفاء سلطة القانون وما يتبعها من زيادة ارتفاع وتيرة الارهاب والعنف وتردي كبير في العملية السياسية وكذلك انتشار ظاهرة العصابات المنظمة (المافيا) ، التي تتحول فيما بعد الى ميليشيات منظمة ، والتي تعبث بالبلاد حيث القتل والاعتقالات على الهوية والتعذيب والسجون خارج اطار السلطة والقانون ، كل هذه الامور ادخلت العراق وشعبه في مآزق خطير ينذر بكارثة كبرى تهدد وبشكل جدي مصيره ومستقبله .
لم يطرا على حياة العراقيين منذ الإطاحة بصدام حسين الى هذه اللحظة أي نوع من التحسن على كل الاطر بدءاً من الكهرباء الى البطاقة التموينية التي تعاني التذبذب في عمليات التوزيع الحاد وفي الكميات والنوعيات , وفقدان الخدمات العامة الأنسانية والأجتماعية والحياتية والاسوء من كل ذلك الوضع السياسي المتدهور ووجود الفراغ الأمني ، والقتل الجماعي للناس الأبرياء الذين ليس لهم في السياسة ناقة ولاجمل . ولم يشعر الأنسان العراقي بالأمان والأستقرار والراحة نتيجة تلك الأسباب المذكورة ، رغم مرورهذه الأيام الذكرى الرابعة لسقوط النظام البعثي وبلادنا تسيرمن سيئ الى أسؤ ، وكلنا ندرك حجم المعاناة والمصائب التي تطال شعبنا ، لذلك أضطرت عشرات الألوف من العوائل العراقيةا الهجرة والعيش في بلدان الغربة خوفاً على حياتهم بعد أن فقدوا الأمن والخدمات الحياتية من ماء وكهرباء ووقود داخل العراق .
سوف أبحث في هذا الموضوع بعض أسباب العنف وفقدان الخدمات العامة وأنتشار ظاهرة الفساد الإداري والمالي والتردي الكبير في العملية السياسية في عراقنا الجديد بشكل صريح وواضح , ومن يقف وراءها بشكل مباشر أو غير مباشر :
أزدادت العمليات الأرهابية والعنف الطائفي من قبل الجماعات المسلحة التي تنتشر بين الطوائف على الساحة العراقية ، وأرتكابها الجرائم البشعة بحق الأبرياء على الهوية الطائفية حتى رخصت حياة الانسان امام همجيتها واصبح الموت المجاني يطال حياة العراقيين يوميا دون تفريق بين ابناء هذا المذهب او ذاك في ظل قسوة غريبة تنفذ باكثر الاساليب انماطا وبطشا ووحشية ولا توجد ثمة رحمة او صحوة ضمير عندما تستباح حياة الانسان وتنتهك حرماته وامنه حتى بات الموت من المشاهد المألوفة في حياة العراقيين ، واستخدام العنف والقتل العشوائي ضد السكان المدنيين لإلحاق أكبر ما يمكن من قتل ودمار من أجل نشر سايكولوجية الرعب لتحقيق أغراض سياسية تحصد أرواح عشرات العراقيين يوميا ، وتدفع فاتورة هذا العنف الهمجي الطبقة الفقيرة من مكونات الشعب العراقي بدون تمييز، هولاء أستغلوا وجود التحالف الحكومي المحكوم بالمحاصصة الطائفية والقومية والحزبية
. أما الحكومة العراقية فانها تتماهل لأتخاذ الأجراءات القانونية بحق هؤلاء المجرمين ، ولا تريد معالجة وحل المشاكل التي يعاني منها المواطن العراقي ، بل ان أعضائها يكتفون بالتصريحات الرافضة لهذه الحالة ويحصلون مقابل ذلك على الكثير من المكاسب والارباح ، وإضافة الى ذلك حيث نشهد التناحر السياسي القائم على ساحة الوطن بينهم ، والمنافسة حول المناصب العليا في الدولة ( ومع العلم بان بعض من هولاء السياسين في الأمس القريب كانوا من أعوان النظام البائد ) .
أما الفساد الأدراي والمالي فهو مقياس لا توازيه مقاييس في ظل العراق الجديد ، وهكذا استفحل هذا المرض المزمن العجيب والذي يتجدد ويتورم يوم بعد يوم ، ودهر بعد دهر . كل هذه الازمات يفتعلها اصحاب المآرب السيئة لأبقاء الوضع الحالي على ما هو عليه من سوء الادارات وتفشي الرشاوى ، لأن القوى والتنظيمات السياسية داخل الحكومة أو خارحها ما زالت تنظر بنوع من الخلط بين مصالحها ورؤاها وعقائدها ومصلحة العراق كدولة تعيش في مجتمع دولي ، وهذا ما يتطلب تفعيلا حقيقيا للقوانين التي تردع اصحاب النفوس الضعيفة وبائعي الضمير .
أما أنتشار سيادة المعايير الطائفية التي أستفحلت مثل السرطان الخبيث في جسد بعض القيادات الحزبية على حساب الكفاءة والمواطنة ، وأنتشار المحسوبية والمنسوبية والحزبية الضيقة والتي اعتمدت في تشكيل قوام الهيئات والمؤسسات الحكومية في التوظيف ، تمثل هي الاخرى عاملا حاسما في تعميق وتجذير المخاطر التي راحت تاكل الجسد العراقي حتى العظم , وقد افرزت هذه الطائفية تعصبا قوميا شوفينيا وكراهية اخذت بالتصاعد بوتائر متسارعة بين مكونات الشعب العراقي ويوما بعد يوم . أما داخل البرلمان العراقي فمن الواضح ان هناك لم يضع أحدهم العراق نصب عينيه وخدمة أبنائه المظلومين . لذلك يتراوح بين الأسلوب الأنتهازي القائم على استغلال الفرص ووفق اللعبة البرلمانية للقفزعلى الديمقراطية وتسخيرها لمآربهم الشخصية ومغافلة الآخرين لأستصدار بعض القرارات او التملص من قرارات لها تأثيرها الهام في الأوضاع الراهنة او في مستقبل البلاد عبر التغيب او مقاطعة الجلسات النيابية بهدف عدم اكتمال النصاب ، ومن جهة اخرى هناك المحاصصة واللهجة الطائفية لبعض القوى السياسية داخل البرلمان وهي سبب في تفجيرالصرعات الطائفية المؤثرة على الشارع العراقي ، وتشجيع للعنف من قبل عدد كبير من النواب بهدف ألغاء قرارات التي لا تخدم مصالحهم ، ووضع الحكومة واجهزتها بين خيارين اما الأذعان لمطالبهم او انهاك الشعب العراقي في دوامات العنف والدم . والغريب جميعهم يتناسون القوى الارهابية التي تتربص بالبلاد دون ان يضعوا اية الية يمكن ان تلجأ اليها الحكومة العراقية لمواجهة هذه التنظيمات الإرهابية .
أما ما يتعلق بوجود القوات الأمريكية في العراق ، فأنها عملت على أنهاك الأقتصاد المنهار أصلاً في ظل السرقة والفساد الأداري والمالي الذي أنتشرفي مؤسسات الدولة من خلال القرارات الخطأ التي أتخذت أيام الحاكم المدني بول بريمر، وانها غير فاعلة وبطيئة لمحاربة الإرهابيين وحتى الميليشيات ، والسيطرة على الأمن داخل العراق ، بسبب أجنداتها وأهدافها الخاصة ، وترك العراق أرضاً وشعباً متعمداً لهولاء المجرمين من القتلة واللصوص لتدمير وتخريب كافة ممتلكات الدولة ، لذا لا نرى الأرهابيين يشنون الهجوم على القوات الأمريكية ، إنما هجومهم فقط على مكونات الشعب العراقي ، ومن جهة أخرى سخرت الأدارة الأمريكية القنوات الفضائية العربية الحليفة معها وخاصة قناة الجزيرة وقناة المستقلة والديمقراطية لتستضيف أعداء المواطن العراقي من البعثيين والمأجورين العراقيين وغير العراقيين لتحريض الناس البسطاء على الفتنة الطائفية بين أطياف شعبنا ، أليس من المفروض ان تتحمل القوات الأمريكية المحتلة المسؤولية كاملة في حماية أرواح وممتلكات الشعب العراقي وفق قرار مجلس الأمن الخاص بواجبات القوات المحتلة في البلدان المحتلة ؟
أما الأحزاب السياسية العراقية التي أصبحت بديلاً لحزب البعث لقيادة السفينة العراقية تتحمل القسط الأكبر من تلك الأحداث والمعاناة والمصائب الذي يعاني منها الشعب العراقي ، وبسبب تغليب المصالح الشخصية والحزبية والفئوية على المصلحة الوطنية وتقسيم المناصب كالوليمة بينهم ومن أجل حصول على مكاسب أكثر ، لأن كل حزب يبكي عن ليلاه أما ليلى الشعب ففي العراق مريضة . وبروز ظاهرة عبادة الفرد ، وحب التسلط والأنفراد الذي يستحوذ على الأفراد وخصوصاً القيادات التي وصلت من الغنى الى ارقام خيالية فاقت كل التصورات .
بصراحة أمام كل ذلك نزداد قناعة بان العراق الحالي ليس العراق الذي كنا نحلم به ونخطط له . ان الازمة العراقية الراهنة المتمثلة بالوضع الامني المتدهور والذي يعصف بالعراق ويزهق ارواح العباد ، والفساد المستشري في جهاز الدولة من القمة الى القاعدة ، والفقر والبطالة وتردي الحالة المعيشية للشعب .
واذا اردنا النهوض بواقعنا فما علينا الا ان نجهد انفسنا لتكريس علاقة المواطنة على اسس صحيحة واعتماد الحوار الحر والحضاري واشاعة الاجواء الديمقراطية والحرية في الممارسة السياسية ، واعطاء كل جهة سياسية حقها في المشاركة بالسلطة وبشكل سليم لنحافظ على التوازنات السياسية والامنية للبلد ، علينا العمل الجاد والدؤوب لاستئصال جذور الارهاب الطائفي والفساد الأداري والمالي الذي يبغي استهداف التجربة السياسية الجديدة لعراقنا ، كونها تقصد النهوض بالواقع الجديد ، ومعاقبة كل من يقدم مصلحة دول الجوار على مصلحلة الشعب العراقي ، هذا المطلب الاساس لكل مواطن هو توفير الامن والذي يأتي في مقدمة الاولويات ، وانهاء وجود الجماعات المسلحة التي تحاول ان تعرض نفسها على الساحة السياسية بقوة السلاح وليس عن طريق الحوار والمنطق العقلاني في حل المسائل الخلافية العالقة ، وتصفية اجواء الاشكالات والاختلافات القائمة .