الرئيسية » مقالات » وحدة العراق والمسألة الكوردية

وحدة العراق والمسألة الكوردية

إن قضية الحفاظ على وحدة العراق أرضاً وشعباً بات يشغل كافة الأوساط السياسية والثقافية، بل باتت واحدةً من المسائل والقضايا الإشكالية على مستوى السياسة الدولية؛ فلا يمكن لأي نقاشٍ سياسي يدور حول المسألة العراقية من أن (يكتمل) من دون التطرق إلى هذه القضية وأبعادها وما يترتب عليها من نتائج مستقبلية، ليس على مستوى العراق وحدها وإنما على مجمل أوضاع دول المنطقة. وهكذا فليس العراقيين بمختلف أعراقهم وقومياتهم وطوائفهم ومذاهبهم الدينية وتياراتهم السياسية هم وحدهم المعنيون بهذه القضية، بل إنها تمس مجموع دول المنطقة وتحديداً المجاورة منها.

وهذا لا يعني بأن البعيدة جغرافياً عن العراق لا تهمها الأمر، بل هي إلى هذه الدرجة أو تلك معنية بالمسألة، إن كان ذاك الارتباط عقائدياً أيديولوجياً؛ مجموع الدول العربية، أو كان دينياً – مذهبياً؛ (الطائفة الشيعية) إن كانت في إيران أو غيرها من دول المنطقة (لبنان نموذجاً)، أم كان ذاك الارتباط اقتصادياً – عولمياً (من العولمة بشقيها المادي الاقتصادي والروحي الثقافي)؛ وهذا ما ينطبق على أغلب دول العالم وعلى رأسها أمريكا وروسيا والاتحاد الأوربي، مع العلم إن دول الفئتين الأوليتين هم أيضاً معنيون بهذا الأمر ويهتمون بهذا الجانب (النفعي) ولكن بدرجةٍ أقل وذلك نتيجة الإمكانيات ودرجة فاعليتها وهنا نستثني إيران منها بحكم تأثيرها وفاعليتها في الجنوب والوسط الشيعي من العراق.

إذاً لنكن صريحين أكثر؛ “عندما تقع الضحية تكثر سكاكين الجزارين”، هكذا يفسر الأمر – وفي أكثر الأحايين – في المناقشات والحوارات التي تدور حول هذه المسألة، وكأن “الكل يبحث عن حصته من الكعكة” – مع أن هذا حقٌ طبيعي وفطري لدى كل البشر وهي ليست بميزة عراقية وتخصهم وحدهم فقط – ولكن عندما يتم تناول هذا الموضوع؛ مسألة الحفاظ على العراق موحداً من التقسيم، وخاصةً من قبل القوميين (العرب) والإسلاميين، فإنه يتم مناولته ومداولته بعقلية مغلقة استبدادية أو ما يمكن تسميته؛ بأن هناك – وحسب وجهة نظرهم – مشروع استعماري صهيوني في المنطقة يهدف إلى “تجزأة المجزأ” – وهذه واحدة من إشكاليات العقلية المؤامراتية – وهكذا يريدون أن نعي؛ وكأن الحدود السياسية العراقية الحالية كانت من الأزل ولذلك يجب أن تبقى إلى الأبد، وهم بهذا ينسون أو بالأصح يتناسون بأن هذه الحدود والتي يدافعون (عنها) هي أيضاً وبالأساس حدود وخرائط رُسِمَت من قِبَل دول استعمارية أخرى آخذةً مصالح قوميات وأعراق وطوائف معينة بعين الاعتبار وعلى حساب غيرها من الأثنيات والأعراق والمذاهب، وهكذا فما دفاعهم هذا عن (الحدود) الحالية إلا دفاعاً عن مصالحهم وامتيازاتهم.

وبالتالي فمن حق تلك الشعوب والمكونات الاجتماعية الأخرى؛ (الشيعة رغم أغلبيتهم المذهبية، الكورد رغم امتلاكهم لكل مقومات الأمة وأيضاً بقية الأعراق والطوائف كالتركمان والكلدو- آشوريين والأرمن والصابئة والأزديين وغيرهم من مكونات العراق) والتي غبنت وغيبت لفتراتٍ طويلة، أن (تنتهز) هذه الفرصة التاريخية؛ تحرير العراق من الطاغية وزبانيتها، لتستعيد دورها في الساحة السياسية العراقية. وهكذا تقوم بتثبيت حقوقها المشروعة في الدستور العراقي وبالتالي تطمئن على مستقبلها ومستقبل الأجيال العراقية القادمة من هيمنة فكر استبدادي تعسفي؛ إن كان دينياً – مذهبياً أو قومياً – عرقياً أو باسم الاديولوجيا والعقائدية.

ولكن نتساءل هنا: هل صحيحٌ أن الشعوب العراقية، بمن فيهم الكورد وإقليم كوردستان (العراق) ورغم تمتعها باستقلالية نسبية “فيدرالياً”، تدعو وتعمل لتقسيم العراق؟ وهل سيكون ذاك التقسيم من مصلحة العراقيين؟. إن الإجابة على السؤال السابق ومن اللحظة الأولى، وخاصةً من لدن أصحاب الرؤوس الحامية، سيكون بالإيجاب وكلٌ من زاوية رؤاه الضيقة؛ حيث يتأكد لنا ومن خلال تحليلات المفكرين القوميين (العرب والتركمان) والإسلاميين عموماً، بأن لديهم قناعة شبه مطلقة بأن الكورد يعملون من أجل تقسيم العراق وما يعزز هذه الفكرة لدى هؤلاء؛ بأن هناك من يُغذي هذه القضية الإشكالية ومن أرضيتين مختلفتين؛ حيث هناك التيار القومي (العروبي والتركماني؛ الجبهة التركمانية) يروجون لهذه المسألة وهي محاولة لتأليب الشارع العراقي وتحديداً الأخوة في الجنوب والوسط (أي الشيعة)، على الكورد وإقليم كوردستان (العراق) وبالتالي الوقوف في وجه مسألة فدرلة (من الفيدرالية) العراق وإجهاضها وسحب مكتسبات كورد العراق وإقليمهم الفيدرالي منهم.

وهي تُغَذى أيضاً من الجانب الكوردي – وفي أكثر الأحيان – بشكل عاطفي – وجداني وليس عقلاني – براغماتي؛ وذلك كما رأينا في قضية الاستفتاء على مسألة الاستقلال؛ أي استقلال إقليم كوردستان عن الدولة العراقية، وقد رأينا النتائج والرغبة المطلقة في الاستقلال من قبل الشارع الكوردي. ولكن وعلى الرغم من أن هذه القضية؛ قضية قيام دولة كوردية تندرج ضمن القضايا الإنسانية والحقوقية وهو أيضاً حقٌ مشروع أسوةً بكل شعوب العالم، بل إنه “حلمٌ كوردي” كما عبر عنها الرئيس مسعود بارزاني وينتظره الكورد عموماً بفارغ الصبر وفي كل الأجزاء، نعم.. وعلى الرغم من كل هذه الحقائق وأيضاً على الرغم من رغبة هذه الجماهير في الإنعتاق والاستقلال، بقي الموقف السياسي على (النقيض) من ذلك ودعّت الدبلوماسية الكوردية إلى البقاء ضمن عراقٍ فيدرالي موحد.

وإنه – وحسب قراءتنا للمسألة – كان ذاك موقفاً دقيقاً وصحيحاً من قبل القيادة الكوردستانية؛ وذلك ضمن قراءة ورؤية عقلانية آخذةً بعين الاعتبار مجموع الظروف والشروط والمناخ السياسي العام للمنطقة والعالم برمته، وقبل هذا وذاك المصلحة الكوردية. وإننا سوف نحاول أن نشرح وجهة نظرنا هذه في الفقرات المقبلة وذلك لسببٍ واحدٍ فقط؛ ألا وهو أن يستبان الأمر لكل من يروج لفكرة “أن الأكراد يعملون من أجل تقسيم العراق” بأن ذاك ليس صحيحاً لا من حيث الواقع على الأرض وما قامت بها القيادة السياسية الكوردية (إعادة لحمة الإقليم إلى الجسد العراقي بعد سقوط الطاغية)، ولا من حيث الاستراتيجية الكوردية؛ كونها (قضية التقسيم) – وفي هذه المرحلة – لا تخدم المسألة الكوردية، بل سوف تضر بها.

على الرغم ومن حيث المبدأ والنواحي الحقوقية والإنسانية؛ فإن للكورد – كما لغيره – كل الحق في تقرير مصيره، ولكن هذا الحق يصطدم مع مجموعة عوامل وأسباب ترتبط بمصالح العديد من البلدان وعلى الأخص دول الجوار العراقي؛ حيث التوزع الجغرافي والسكاني البشري للكورد في تلك البلدان يشكل عامل ضغط على هذه القضية وهكذا فأي تغيير في الخارطة العراقية وقيام دولة كوردية أو بتعبيرٍ أدق دولة كوردستان في منطقة الشرق الأوسط يعني تغيير خارطة الشرق برمته وليس فقط خارطة العراق، وبالتالي فإن مجموع هذه الدول (سوريا، إيران وتركيا) ومن وراءها العالمين العربي والإسلامي سيكونون لها بالمرصاد ويحاولون خنقها في المهد، حيث أن (السماح) لقيام مثل هكذا دولة؛ إقليم كوردستان (العراق) – أو دويلة الشمال بتعبير القومجيين والإسلامويين – يعني تحريك المسألة الكوردية في الأجزاء الثلاثة الأخرى وبالتالي (إعطاءهم) الشرعية القانونية لأن يحذو حذو إخوتهم في الإقليم المحرر وهكذا التمهيد لقيام كوردستان الكبرى وهو أكبر (تهديدٍ) – حسب رؤية تلك الدول – لها ولمصالحها وهي لن توافق عليها ولو بأي شكلٍ من الأشكال، ذاك كانت من ناحية.

ومن الناحية الأخرى، إن لهذه الدول (العالمين العربي والإسلامي وضمنها وتحديداً دول الجوار العراقي) علاقات ومصالح واسعة وقوية مع كل من أمريكا والاتحاد الأوربي؛ راعيتا عملية (الشرق الأوسط الجديد أو الكبير)، وهي بالتأكيد ليست على استعداد لأن تضحي بكل مصالحها مع هذه الدول لأجل خاطر إرضاء الكورد؛ فالسياسة اقتصاد ومصالح، والكورد ما زالوا ضعيفين اقتصادياً وتبادلاً تجارياً مقارنةً مع إمكانيات تلك الدول منفردةً وليست مجتمعةً، وهكذا فليس من مصلحة أمريكا والاتحاد الأوربي أن تراهن على “الحصان الخاسر” ولكن لهذه الدول أجندتها السياسية وهي تحاول أن تنفذها في المنطقة مستفيدةً من الورقة الكوردية وأيضاً من الإمكانيات التي لدى القوى والفصائل الكوردية ولن ننسى أيضاً طبيعة الشعب الكوردي وعدم تفشي السلفية والأصولية الدينية في مجتمعها؛ مما يسهل للعالم من تنفيذ مشروع دمقرطة الشرق وجعله أكثر أماناً وتمتعاً بالحرية.

وهكذا – وبنفس الوقت – فإن هذه الدول (أي أمريكا وأوروبا) تتمسك بالكورد والكورد أيضاً متعلقون بهذا المشروع الشرق الأوسطي الجديد كونهم (يلعبون اللعبة على أصولها)؛ حيث الجميع يعلم بأن من مصلحته مؤازرة الآخر في هذه (اللعبة) ولكن (الكل) يدرك بأن أكثر وأكبر المستفيدين من (لعبة) تغيير خارطة الشرق هم الكورد؛ “العبد لا يخسر إلا قيده” وبالتالي هم (أي الكورد) – وبقراءةٍ أولية بسيطة – سيكونون أكثر من يؤيدون عملية التغيير هذه ويلعبون فيها دوراً محورياً وهذه باتت معروفة للجميع وواحدة من (الحقائق) والبديهيات السياسية لكل من يهتم بشؤون الشرق الأوسط، ودور اللاعبين وأدوارهم ولذلك كانت الاتهامات تكال على الكورد قيادةً وقواعد. ولكن وعلى الرغم من هذه (الحقيقة) فالكورد باتوا يدركون مخاطر هذه اللعبة الدولية ولذلك لم ينزلقوا إلى مسألة “العداوة” مع الجيران، بل ربطوا مصيرهم مع بغداد (المركز) على الرغم من استقلالهم الشبه مطلق ومنذ انتفاضة آذار لعام 1991 ولغاية سقوط الصنم (صدام حسين).

والنقطة الأخرى والتي نود التأكيد عليها؛ بأنه ليس من مصلحة الكورد في هذه الظروف، ناهيك عن الشروط والمناخ السياسي العام، لأن يقوموا بالإعلان عن قيام (دولة كوردية) في الإقليم الشمالي ولذلك فإن الدبلوماسية الكوردية – وكما نقرأها – لم ولن تعمل لتقسيم العراق – كما يُروَج لها من قبل المتشددين والمتطرفين – بل إنها تعمل وعملت على التلاحم بين مجموع القوى العراقية للبقاء على العراق موحداً والحفاظ على الارتباط مع المركز (بغداد) وذلك على ضوء المصلحة الحقيقية للشعب الكوردي وأيضاً من منطلق قراءة واقعية لمجمل هذه الظروف التي تمر بها المنطقة والعالم عموماً ولذلك – وها نحن نكررها وللمرة الألف – بأنه ليس من مصلحة الكورد والقضية الكوردية وفي الظروف الراهنة أن نعمل لأجل تقسيم العراق، وأن خطابنا هذا ليس بخطاب تقية (سياسية)، بل أنه لمن مصلحة شعوبنا أن يبقى العراق موحداً فيدرالياً ديمقراطياً وحراً وعلى القوى الإسلاموية والقومجية أن تعي هذا الأمر، بل لو كان بالامكان لعملنا على قيام شرق أوسط كبير وعلى غرار الاتحاد الأوربي؛ حيث المشاركة الحقيقية لكل الأطراف وبالتالي رعاية وحماية مصالح وحقوق جميع الأطراف والمكونات في تلك الشراكة الحقيقية.

جندريسه – 2006