في منتصف ستينيات القرن الماضي طالعتني ولأول مرة صورة القائد الكبير الملا مصطفى البارزاني عبر شاشة التلفاز وهو يصافح الرئيس العراقي الأسبق عبد الرحمن عارف بحضور رئيس الوزراء المرحوم عبد الرحمن البزاز، واستوقفتني هذه اللقطة طويلاً. فالرجل الذي طرق ذكره اسماعنا من خلال قيادته للحركة الكوردية والمواجهات مع الجيش الحكومي، اذ دارت معارك عديدة في سفوح وعلى قمم الجبال الشماء، وبين الأودية والسهول المعطاء. وكنا نسمع الكثير من القصص والحكايات عن تلك المواجهات المؤلمة والتي بتنا نلمس حقائقها المرة بتلك النعوش التي تأتي من هناك ومجالس العزاء.ونتمنى ان تنتهي تلك المواجهات وبسرعة.. ويشاركنا تلك الاماني جيراننا وابناء محلتنا من اخواننا الكورد .. وكانت تلك المواجهات حديث المجالس والتجمعات لآبائنا واجدادنا ورجال محلتنا والمحلات الاخرى.
اقول استوقفتني تلك اللقطة وحفرت في ذاكرتي في مابعد، ورحت اتساءل: هل حقا ان هذا الرجل يمد يد السلام وببساطة الى مسؤولي الدولة آنذاك بعد كل الذي سمعته وأسمعه عن تلك المواجهات الدامية.. وأثرها في المجتمع العراقي بكل اطيافه ومكوناته وشرائحه.
ولكن وبعد اطلاعاتي وقراءاتي اللاحقة توضحت عندي الحقائق وعرفت ان الراحل الكبير كان دائما يمد يد السلام، ويسعى باستمرار الى تطويق الخلافات والوصول الى اتفاقات لايقاف نزيف الدم الذي لا يستفيد منه سوى قوى الاستعمار والامبريالية والتوجهات القومية والعنصرية.. ولم يفتح قلبه ضعفاً او تراجعا عن مواقفه او تخليا عن قضية وهو القائد السياسي والعسكري الشجاع والذي أشرت له سوح الوغى حنكته ومقدرته العسكرية المميزة.. وشهد له الميدان السياسي امتلاكه خاصية المناورة السياسية، لكنه كان سباقاً الى فعل الخير وتأصيل قيم المواطنة واشاعة روح المحبة بين مكونات الشعب العراقي.
وقد تعرفت على شيء من تلك العبقرية العسكرية من خلال ما سجله بعض القادة والمحاربين والضباط من الذين أسهموا بشكل او بأخر بتلك المواجهات، او مشاركاتهم في الفعاليات العسكرية التي حدثت بين القوات الحكومية وقوات البيشمركه، اذ اوردوا الكثير من صور تلك القيادة العسكرية الفذة، والتي عكست اطلاعاً وتوظيفاً موفقا للموروث العسكري العربي والاسلامي، لا سيما بالتوظيف الايجابي لخطة الدفاع عن الطائف في غزوة حنين، والتي اتبعها مالك بن عوف النصري بمواجهة جيش المسلمين، حيث قاد هوازن وحلفاءها من ثقيف وجشم… اذ استدرج القائد البارزاني رحمه الله الجيش الحكومي لوادي (مازنة ميركة سور) (وقد اتيح للكاتب هذه السطور ان يشاهد منطقتي ميركة سور ورا وندوز، ويتعرف على الطبيعة الشائكة لتلك المنطقة والتي تجعل من اية قطعة عسكرية تتورط اذا ما حاولت القيام بعمل عسكري جزئي، وهو ما حدث للجيش السوري الذي جاء للعراق للمشاركة في عمليات كوردستان آنذاك ابان محادثات الوحدة الثلاثية بين العراق ومصر وسوريا في حقبة الحكم العارفي اذ تعرض الجيش السوري الى هجمات مميتة من قبل المقاتلين الكورد انهكته واجبرته على الانسحاب من قمم وسفوح جبال نواخين متخماً بالجراح والخسائر.
لقد استدرج الجيش لذلك الوادي السحيق ولكن لأسباب خاصة لم تنجح الخطة غير انه وضع النساء والاطفال والمواشي والاموال في مكان آمن تحسباً لأية مفاجآت ، بعكس اجراء مالك بن عوف النصري الذي اصر على اصطحاب النساء والاطفال ليستبسل رجاله في القتال..
وقد حدث ما توقعه القائد الكبير بابعادهم عن منطقة المواجهة اذ تعثرت الخطة بسبب ظروف وملابسات خاصة، الأمر الذي جعله يتمكن من انقاذهم باجتياز الحدود العراقية الايرانية من قاطع (كله شين) في أقصى حدودنا الشمالية الشرقية مع ايران.
وهكذا يجسد الراحل الكبير بأن القائد العسكري والسياسي ليس رجلا ً معاصرا بل مسؤولا حريصا على رعيته بأروع صور النبل والايثار.
وليس الانتصار بكسب مواجهة محدودة ازاء ضحايا كثر بل الانتصار الحقيقي هو بالحفاظ على الرعية وحمايتها وتأمينها.
هذه حالة واحدة ولكن تاريخ هذا القائد الكبير زاخر بالمواقف الانسانية والوقفات العسكرية والسياسية.
اذ ادرجت بعض العمليات العسكرية التي قادها رحمه الله تعالى في مناهج العديد من الاكاديميات المختصة بالعلوم الحربية واعداد الضباط والقادة.
(صوت العراق)