أي معالجة حقيقية يجب أن تنبع من الواقع الاجتماعي، الاقتصادي والسياسي، للمجتمع وخصائصه المميزة وتكفل في النتيجة الوصول السلس للغايات التي ينشدها المشرع والمخطط، والتي تعتبر الأساس لبناء اقتصادي متين ومحدد المعالم، وتستند إلى منهج علمي مبني على أساس المصلحة الوطنية أولا، ومن ثم إغراء الآخرين بالمشاركة على أساس المصالح المشتركة، إذا لا يوجد تشريع في بلد ما هدفه مصلحة الآخرين قبل مصلحة البلد، ولا مصلحة فئات بعينها على حساب المصالح للفئات الاجتماعية الواسعة.
السيادة الوطنية تعني من حيث الأساس وضع الضوابط القانونية التي تكفل أولا حماية الاقتصاد الوطني من الهيمنة الاقتصادية الخارجية، وذلك من خلال الحفاظ على أن يكون القرار الاقتصادي والقرار السياسي بيد واحدة وهي بلا شك يجب أن تكون الدولة، لا أن توزع مفردات السيادة الوطنية بين كيانات مبعثرة ضمن الدولة، ربما لا تكون أمينة على المصالح العليا للبد، كأن تكون نوازعها شخصية أو سياسية. وثانيا أن تكون هذه القرارات تأتي وفق ضوابط قانونية صيغت من حيث الأساس لحماية المصالح الوطنية العليا. هنا تحديدا يأتي دور القانون الذي ينظم هذه العلاقات، وبلا ريب هو القانون أو القوانين الذي نحن بصدد مناقشتها.
السؤال الأكبر:
ماذا يريد العراق من تشريعه لقوانين النفط وتطوير حقوله النفطية وتطوير الصناعة النفطية بشكل عام؟ يعتبر هذا السؤال هو الأكبر.
من البديهي أن يتم كل شيء وفق مبدأ احترام الدستور، وأن تضمن جميع القوانين، وليس قانون النفط فقط، وحدة العراق، لا أن تخلق حالات تتضارب فيها المصلح تؤدي إلى التشرذم وتفكيك الوحدة الاجتماعية، والتوزيع العادل للثروة في البلد والارتقاء بالمستوى المعاشي لعموم الناس، وذلك من خلال ضمان أكبر قدر من العائدات المالية للبد الغني بمواده، والنفط يعتبر من أكثرها أهمية على الإطلاق، وتشغيل العمالة العراقية حيث يعاني البلد من البطالة التي يصل حجمها الآن إلى70% ، وأن يرتقي بخبرة الكوادر الوطنية إلى أعلى المستويات العالمية، وتحريك العملية الإنتاجية في جميع القطاعات الاقتصادية، وبالتالي ضمان السيادة الوطنية في عموم العمليات الإنتاجية في جميع القطاعات الاقتصادية وليس النفط وحسب. هذا من جانب، أي الجانب الوطني وهو ما يجب أن يضعه المشرع نصب عينيه، أو ما يهدف له التشريع، أما من الجانب الآخر، هو ما يتعلق بالجانب الأجنبي والمهم جدا، لذا يجب أن يقدم المشرع ما يغري الشريك الأجنبي الذي يحتاج له العراق في جميع مراحل التطور على مدى العقود القادمة وبنفس الدرجة من الاحتياجات.
لقد حددنا في أكثر من مقال أو دراسة سابقة المساحة التي يستطيع أن يعمل بها المستثمر الأجنبي أو المحلي على حد سواء، وهي العمل في الصناعة الخدمية المرافقة للصناعة الاستخراجية، وهي مساحة قد تصل إلى أكثر من90% من مساحات العمل المرتبطة بالصناعة الاستخراجية، ويمكن أن يعمل الاستثمار الأجنبي أيضا في مجالات تصنيع النفط والغاز الواسعة جدا والتي تفوق بحجمها الصناعة الاستخراجية بخمسة إلى ستة مرات، من حيث حجم الاستثمارات أو العمالة أو بمستوى التحديات التكنولوجية، ولا يمكن أن تمس الملكية العامة للنفط ولا السيادة الوطنية وتعطي للمخطط العراقي رؤيا أوضح لسبر أغوار المستقبل وتمنحه أرضية أصلب بالتخطيط وتوزيع الإنتاج ووضع السياسات المتعلقة بالنفط والتنمية عموما في البلد، لأن العراق بوضعه الحالي وعلى المديات البعيدة بحاجة إلى تخطيط مركزي متين لا فوضى عارمة فوق ما نعاني منه من فوضى حاليا، وهذا لا يعني أبدا أن الأقاليم، على سبيل المثال لا دور لها بالتخطيط، لأن الأقاليم يجب أن تخطط على ضوء الخطط المركزية للبلد وليس بعيدا عنها.
نلاحظ هنا أن التطوير على هذا الأساس يضمن جميع ما يجب أن يهدف إليه المشرع للقانون فهو يحترم ملكية النفط العامة التي أقرها الدستور ويضمن وحدة الوطن والسيادة الوطنية ولا يمسها، لأن أي عقد خدمة لا يختلف من حيث المضمون عن مقاولة للبناء من قبل مقاول عادي، لكن حين يسكن المقول معي ويشاركني بالبيت، لم تبقى لي خصوصية بعد ذلك، حيث لا يمكنني اتخاذ أي قرار يتعلق ببيتي وعائلتي بعد منحه حق المشاركة معي بالسكن والملكية، وسيزداد الأمر سوءا لو كان أعضاء العائلة يتصرفون على هواهم ويقيمون شراكات خاصة بهم، بهذا المعنى سيكون البيت عبارة عن فندق، وربما مجموعة شاليهات لها مسمى الوطن على سبيل الترويج التجاري.
كذبة كبرى تلك التي تطلقها الجهات التي تدعم فكرة تقديم عقود المشاركة بالإنتاج أو الرسك أو التطوير والإنتاج، تقول تلك الكذبة بأن هذه العقود ذات طبيعة مؤقتة ولا تؤثر على المدى البعيد على مضمون الملكية العامة للنفط من قبل الشعب، قد يكون هذا الأمر صحيحا لو تعلق الأمر بتأجير قطعة أرض على سبيل المثال، لأن الأرض تعود لمالكها كاملة غير منقوصة بعد انتهاء العقد، لكن العقود هنا تتعلق بإنتاج النفط والغاز، أي أن النفط الذي ينتج خلال العقد يستنزف موجودات النفط تحت الأرض، ولا يمكن أن يعود الحقل بكامل محتوياته من المخزون النفطي، بمعنى أن هذه العقود تختلف من حيث المضمون عن تأجير الأرض التي تعود كاملة غير منقوصة، وهذا فيه تجاوز على أهم بنود دستوري لم يختلف عليه العراقيون، وربما هي النقطة الوحيدة المتفق عليها بالكامل، وهو أن النفط ملك للعراقيين أينما كانوا وإن وجود الشريك الدائم أو المؤقت، سواء كان الشريك أجنبي أو عراقي، فهو يعني بلا أدنى شك انتقاص لمفهوم الملكية وينسفه من حيث المضمون.
بما تقدم لا نحاول أبدا العودة إلى هيمنه الدولة على جميع مرافق الحياة، حيث أن مشاركة الأقاليم والمحافظات بالتخطيط والقرار والإدارة للعمليات الإنتاجية مازالت مضمونة دستوريا وهي أمر ضروري ومهم جدا للانطلاق إلى اقتصاد ديناميكي يستندً إلى آليات السوق ويعطي دورا فاعلا للقطاع الخاص والاستثمار الأجنبي، بما يساعد على تنمية الموارد الأخرى للبلد أيضا، أي تحرير الاقتصاد من الاعتماد المفرط على النفط وبناء اقتصاد متنوع يعتمد على مصادر دخل متعددة.
كل ما أردنا قوله مما تقدم هو أن القانون بصياغته وأهدافه الحالية لا يحقق ما يصبوا إليه العراق الجديد أبدا، فضلا عن التفريط الغير مبرر لثرواته من خلال إعادة الإمتيازات القديمة بصيغ أخرى.
رب قائل يقول أن الشركات الأجنبية تريد أن تأخذ نصيبها أيضا من العراق، وهذه الرغبة ليست مجرد حالة تمني بالنسب للدول العظمى، بل هي الأساس الذي دفعها لإسقاط النظام السابق وإقامة نظام بديل ديمقراطي، دستوري، يعتمد على اقتصاد السوق، ولديه منظومة قوانين يستطيع من خلالها الرأسمال المالي وشركات النفط العالمية الدخول للعراق بحرية. هذا الأمر صحيح إلى حد بعيد، وبذات الوقت هو ما يبحث عنه العراق حاليا ومستقبلا، وإن على المشرع العراقي أن يقدم الإغراءات المطلوبة للاستثمار الأجنبي والشركات النفطية العالمية.
فإذا كان الأمر رغبة مشتركة من الطرفين، العراقي والعالمي، إذا أين الخطأ؟
باعتقادي المتواضع، أن الخطأ الذي وقع به المشرع العراقي لهذه القوانين التي تتعلق بالصناعة النفطية له وجهين، الوجه الأول هو ما تحدثنا عنه من أن القانون لا يضمن الحق العراقي في جوانبه الكثيرة، أما الخطأ الثاني هو أنه لم يستطع أن يحل المعادلة الصعبة المتمثلة بتقديم الإغراءات الكافية للمستثمر الأجنبي في المجال النفطي دون أن يمس أي من الثوابت الوطنية، لذا لجأ إلى الالتفاف عليها وبذات الوقت لم يستطع أن يقدم كامل الإغراءات للأجنبي.
في الواقع يمكن تغيير بعض أرقام هذه المعادلة الصعبة، ليس من خلال تجاهل المصالح الأمريكية أو العالمية ولا أن تكون على حساب المصالح الوطنية، ولكن من خلال إيجاد مصالح مشتركة تتعلق بالنفط والصناعة النفطية، وذلك من خلال تحديد تلك المساحات الواسعة جدا للعمل والاستثمار في العراق كما أسلفنا وحددناها في بداية المقال.
القانون يرضي شركات النفط ولا يرضي الرأسمال المالي العالمي:
كما هو معروف أن أمريكا يحكمها من حيث الأساس الرأسمال المالي وشركات النفط، أي البنوك والنفط، وفي حال منح العراق عقود المشاركة بالإنتاج أو الأخرى المشابهة لها، فإن هذا الأمر يرضي شركات النفط لكن لا يحقق طموح البنوك، أي الرأسمال المالي وهو الأقوى عالميا، لأن ما تصرفه شركات النفط في الصناعة الاستخراجية قليل جدا من المال بحيث يستطيع العراق توفيره ضمن الميزانية العامة الكبيرة نسبيا وليس من الضروري توفيره من قبل المستثمر الأجنبي، لكن تصنيع النفط والغاز يحتاج خمسة أضعاف ما تحتاجه الصناعة الاستخراجية أو أكثر، وهو ما يجب أن توفره الاستثمارات الأجنبية فقط باقتراضه من البنوك.
لهذا السبب نقول أن التركيز في القوانين الجديدة للنفط والغاز يجب أن تكون على تصنيعها وليس استخراجها من قبل المستثمرين الأجانب أو المحليين.
مثال عملي لتوضيح المسألة:
لتطوير حقول نفطية تنتج ثلاثة ملايين دولار على مدى خمسة سنوات، نحتاج إلى مبالغ مالية تقدر ب15 مليار دولار تقريبا، وقد تصل إلى20 في حال زيادة الأسعار، أي يترتب على العراق توفير مبلغ3 إلى4 مليارات دولارات سنويا يضاف إليها مليار دولار آخر سنويا لتطوير البنى التحتية الضرورية على مدى الخمسة سنوات التي نحتاجها لتطوير هذه الحقول، هذه الأموال تعتبر بسيطة جدا بالنسبة للعراق الذي يستطيع توفير مبالغ أكبر من ذلك بكثير، لكن نحتاج من75 إلى100 مليار دولار لتصنيع نفس الكمية من النفط والغاز المصاحب، هذه الأموال لا تستطيع الحكومة توفيرها على مدى الخمسة سنوات القادمة، كما ونحتاج إلى تكنولوجيا متطورة وقيم عمل جديدة بعيدة عن قيم العمل المتعارف عليها في العراق ونحتاج إلى تكنولوجيا حديثة وكادر متطور يعمل على الأنظمة المتطورة لهذه الصناعات، هذه الجوانب غير متوفرة حقا في العراق حاليا، هنا نحتاج للمستثمر الأجنبي وشركات النفط العالمية الكبرى، وهذا الأمر تحديدا، هو الذي يطالب به الرأسمال المالي العالمي أيضا، لأن البنوك العالمية هي فقط التي تستطيع تأمين الأموال المطلوبة لتطوير هذه الصناعة.
في حال اقترضت الشركات العالمية الأموال من البنوك لتطوير هذه الحقول النفطية، فإن الأموال البسيطة نسبيا سوف تعود للبنوك خلال بضعة أشهر، لأن بظرف3 إلى4 أشهر يمكن أن تعاد هذه بحساب سعر البرميل الواحد50 دولار، لكن تبقى الشركات تضخ أموال أخرى للبنوك كنتيجة لعوائد عقود المشاركة بالإنتاج، حيث أن كلف الإنتاج تستقطع من قبل توزيع العائد المالي، أي أن الإنتاج يغطي كلفته في جميع أنواع هذه العقود، هذه الأموال كبيرة وتقدر بمئات المليارات. في الحقيقة ليس هذا ما تبحث عنه البنوك العالمية، لأنها تريد أيضا فرص لتوظيف الأموال الموجودة فيها، وهو ما سيشكل عبئا عليها لافتقارها إلى فرص التوظيف في بلدانها، لكن حين تقترض شركات النفط الأموال من أجل تصنيع النفط الغاز، فإن هذه الأموال سوف لن تعود بتلك السرعة للبنوك، وتبقى تدر أرباحا على الشركات والبنوك لفترات طويلة جدا، أي مدة العقد تقريبا، وإن أقل ربح يحققه هذا النوع من التطوير هو25% سنويا يتقاسمها البنك والشركة النفطية في العادة. وهذا يعني للبنوك العالمية حالة من التوازن بين الإقراض والاستثمار، واستمرار الانتعاش الاقتصادي، لكن في الحالة الأولى يعني تضخم مالي، أي دخول أموال جديدة للبنوك من دون توفر فرص لتوظيفها، حيث يعتبر هذا الأمر خطرا كبيرا على الاقتصاد العالمي، أضف إلى ذلك أن العائد المالي من هكذا توظيف يكون أكبر بالنسبة لشركات النفط، وأعلى من عائداتها في الصناعة الاستخراجية.
من هنا نستطيع أن نفهم أن تصنيع النفط والغاز هو الذي يحقق أهداف الطرفين الأقوى في أمريكا والعالم، شركات النفط والرأسمال المالي، وهو الذي يحقق طموح العراق أيضا، لأن الأموال الكبيرة المطلوبة لتطوير صناعة نفطية متكاملة، أي ليس بيعه على شكل خام، لا يستطيع العراق توفيرها، وفي حال تم توظيف هذه الأموال في العراق فإنه يعني انتعاش اقتصادي في البلد والمنطقة على حد سواء، لأن هذه الصناعات تحتاج إلى توظيف أيدي عاملة تزيد بخمسة مرات أو أكثر على تلك التي تحتاجها الصناعة الاستخراجية، كما وتحتاج إلى قطاع خدمي تخصصي واسع جدا يمكن أن يساهم بشكل فعال بتطوير باقي القطاعات الاقتصادية في البلد كالزراعة والصناعة والسياحة، لأن المكتب الاستشاري الهندسي، على سبيل المثال وليس الحصر، يستطيع توفير خدماته لجميع القطاعات دون استثناء.
إذا هذا النوع من التطوير يرضي جميع الأطراف، العالمية بشقيها والعراق ودول الجوار، في حين عقود المشاركة بالإنتاج لا تستطيع تلبية كل هذه الحاجات.
أضف إلى ذلك، هناك جانب سياسي من الموضوع، حيث وجود توظيفات مالية كبيرة في العراق يستوجب حمايته من قبل الدولة العظمى، وبالتالي نضمن أمن واستقرار العراق لأمد بعيد، وهو بذات الوقت يوفر للعالم أمن الطاقة وأمن الحصول على منتجات مصنعة من دون تعريض البيئة اهناك لأي نوع من التخريب، فكما هو معروف أن الحصول على ترخيص في صناعة الداون ستريم في أمريكا، على سبيل المثال، يتطلب موافقات طويلة جدا قد تصل إلى خمسة سنوات، وفي النتيجة شروط عقدية كبيرة على الشركات النفطية تأكل معظم الأرباح التي تتوقعها. لكن في العراق يمكنهم الحصول على تراخيص بوقت أسرع وبشروط أقل، لكننا نطمح أن تكون هذه الشروط أكثر قسوة في المستقبل بعد تعديل وإصدار قوانين لحماية البيئة متطورة.
يجب الوقوف عند هذه النقطة مليا، حيث بالتأكيد نحن لا نريد للعراق أن يكون مزبلة بيئية، لكن الأمر يمكن السيطرة عليه حاليا بظل التطور الهائل بوسائل حماية البيئة، أضف إلى ذلك لدينا هبة بيئية من السماء لا تقل أهمية عن النفط، وهي وجود طبقات أرضية سميكة جدا ونفاذة جدا ومعزولة عن باقي الطبقات وعن المحيط الخارجي الإيكولوجي تماما، وهي التي يستفاد منها الآن في دول الخليج عموما لطمر المخلفات الصناعية المضرة بالبيئة وقد أثبتت نجاحها، حيث أنها تستوعب نفايات بيئية من هذا النوع لآلاف السنين، وفي العراق هذه الطبقات الثلاثة أوسع وأكثر سماكة، وأبعد قليلا من سطح الأرض، لذا فهي أكثر عزلة عن المحيط الإيكولوجي، أي أفضل من باقي دول الخليج عموما.
وللحديث صلة في المقالات القادمة