عقد المنتدى العراقي في قاعة المركز البولوني في لندن ندوة بتاريخ 16/3/2007 قدم فيها السيد الدكتور فاضل الجلبي محاضرة بعنوان “الدستور, قانون النفط والسياسة النفطية في العراق”. وقد حضر الندوة حشد كبير من العراقيات والعراقيين المهتمين بشؤون العراق ونفطه ومستقبله. سأحاول في هذا المقال أن أستعرض بشكل مكثف الأفكار الأساسية التي تناولها المحاضر, وهو خبير نفطي عراقي معروف لا زال يعمل مديراً لمركز دراسات الطاقة العالمي في لندن التابع لمؤسسة الخبير النفطي السعودي أحمد زكي اليماني, ثم أناقش بعض تلك الأفكار التي تستوجب إبداء الرأي بشأنها.
1. الأفكار الأساسية للمحاضر
قسم الدكتور الجلبي محاضرته إلى جزئين, جزء تاريخي, ثم جزء خاص بقانون النفط وحدد بحثه بثلاث نقاط: الجانب الدستوري والسياسة النفطية وكيفية وضع النفط في خدمة الاقتصاد.
– أشار ابتداءً إلى أن تاريخ استثمار النفط في العراق يؤكد تعرضه إلى تهميش فعلي من جانب شركات النفط الأجنبية بالمقارنة مع صيغة التعامل مع نفط الدول الأخرى في المنطقة, سواء أكان ذلك من حيث التنقيب أو الاستخراج أو التصدير, وبالتالي قلة الموارد المالية المتأتية من استخراجه وتصديره. وقد تواصل هذا التهميش طيلة فترة عمل الشركات الأجنبية في العراق.
– هاجم بشدة سياسة قاسم النفطية وصب جام غضبه على القانون رقم 80 لسنة 1961 الذي تم بموجبه استرداد الدولة العراقية 99,5 % من الأراضي التي كانت قد وضعت تحت تصرف شركات النفط الأجنبية ولم تستثمرها طيلة الفترة المنصرمة, التي تمتد إلى عدة عقود, ورغم اعترافه بتهميش الشركات لنفط العراق. واعتبر هذا القانون أصل البلاء. (ومن المعروف أن الدكتور فاضل الجلبي أعتبر قانون الإصلاح الزراعي رقم 30 لسنة 1958, وهو قانون برجوازي وطني وديمقراطي, بمثابة الطامة الكبرى وأصل البلاء في العراق أيضاً. وقد جاء ذلك في ندوة عقدت في فيينا كنت حاضراً فيها وخالفته الرأي ودخلت معه بحوار. وكانت جمهرة من السياسيين والاقتصاديين العراقيين مشاركة في هذا اللقاء, ومنهم الدكتور أحمد الجلبي, الدكتور فاروق برتو, الدكتور عباس النصراوي, نوري عبد الرزاق حسين, الدكتور سنان الشبيبي, الدكتور وليد خدوري, الدكتور مهدي الحافظ وأديب الجادر وآخرون).
– مدح سياسة صدام حسين في مجال النفط الخام, حيث اعتبرها فترة ازدهار العراق حتى العام 1980, ثم بدأ التدهور مع بدء الحرب العراقية الإيرانية وحرب الكويت …الخ. وأشار إلى أن معدل دخل الفرد الواحد في العام 1980 بلغ أكثر من 4000 دولاراً وانخفض في العام 2006 إلى مستوى الدول الفقيرة في العالم.
أما الجزء الثاني من المحاضرة فقد كرسه المحاضر لنقطة واحدة مركزية وردت في القانون وأخرى وردت في بيان مجموعة عمان حول موقفها المعارض لعقود مشاركة الإنتاج وتأييدها لعقود الخدمة, إضافة إلى شن هجوم حاد ضد السيد كريج موتيت, الخبير الأجنبي بالنفط الذي نشر مبكراً )تشرين الثاني/ نوفمبر 2005) دراسة حول ما كان يدور في مطبخ الشركات الأجنبية من محاولات لتمرير قانون جديد للاستثمار في النفط العراقي تحت عنوان “عقود مشاركة الإنتاج, التنازل عن مصدر سيادة العراق” [راجع: www.crudedesigns.org]. كما أكد الجلبي ضرورة تسريع عمليات استخراج وتصدير النفط قبل تحول العالم صوب بدائل أخرى للطاقة لكي لا يبقى النفط الخام بائراً ومطموراً تحت سطح أرض العراق!
الفكرة الأساسية التي ركز عليها الدكتور الجلبي تشير إلى وجود تناقض بين نص المادة 109 من الدستور الدائم الخاصة بالنفط الخام والغاز, باعتبار هذه الثروة ملك الشعب, وبين منح الأقاليم حق عقد الاتفاقيات النفطية وإقرارها بعد عرضها على المجلس الاتحادي الذي يفترض أن يبت بالموقف خلال 30 يوماً, ويرى أن القرار الأخير متروك للإقليم وليس للمركز. ويرى أن هذا التناقض مضر بوحدة العراق وبثرواته ويفرط بها, وأن النفط والسياسة النفطية يفترض أن تخضعا للسلطة المركزية في بغداد لأنها ترتبط بالسيادة الوطنية. كما أيد بحرارة عقود المشاركة ووجد أن ما جاء فيها صحيح من ناحية نسب توزيع النفط وفق السعار الدولية والفترة الزمنية للاتفاقيات التي قدر أنها لا تزيد عن 20 عاماً, كما أنه اختلف مع جماعة عمان بشان عقود الخدمة, ولكنه ترك اتخاذ الموقف بالارتباط مع أيهما أفضل للعراق من احتساب مقدار الربح والخسارة وضرورة اختصار الزمن. وأخيراً أكد أن هذا التناقض الدستوري مع مشروع قانون الاستثمار في النفط والغاز يعزل النفط عن الاقتصاد والمجتمع.
وفي معرض حديثه أشار إلى أن مشروع القانون قد اتفق عليه “السبعة الكبار” في العراق, وهم السادة:
عبد العزيز الحكيم وإبراهيم الجعفري والبارزاني والطالباني وأياد علاوي وأحمد الجلبي, ولم يذكر السابع الذي قدر الحاضرون أنه خليل زاد, سفير الولايات المتحدة في بغداد.
كان الحضور يتوقع أن يتطرق الدكتور فاضل الجلبي إلى النقاط الأخرى التي عليها اعتراضات وردت في نص مشروع القانون, ولكنه ابتعد عنها, وبالتالي وجدت تعبيرها في مداخلات الحاضرين في الفترة القصيرة التي خصصت عملياً لهذا الغرض.
2. ملاحظاتي حول أفكار المحاضر
* بصدد القسم التاريخي
أ. اتفق تماماً مع السيد الدكتور فاضل الجلبي من أن الكارتيل النفطي العالمي قد أهمل وهمش النفط العراقي طيلة العقود الأولى قبل ثورة تموز 1958. وقد برز هذا الإهمال والتهميش المتعمد في عدة نقاط, أبرزها: قلة عمليات التنقيب عن البترول, قلة كميات الاستخراج وكميات التصدير, نقص الموارد المالية المتأتية من إرباح النفط الخام للخزينة العراقية, خاصة وان حصة العراق لم تزد حتى العام 1951 عن أربع شلنات ذهب للبرميل الواحد, ثم أصبحت مناصفة في الأرباح وفق اتفاقية 1952 بمردود رجعي لسنة واحدة فقط. وقد ارتبط هذا التغيير بتلك الأحداث التي وقعت في إيران (تأميم النفط والتآمر على حكومة الدكتور مصدق وسقوطها وإلغاء التأميم) ومن ثم نضال الشعب وقواه الوطنية. وقد بادرت شركات النفط الأجنبية إلى طرح مشروع تعديل الاتفاقيات النفطية خشية منها على حصول وضع مماثل لما حصل في إيران. وقد استمر التهميش لاحقاً رغم الزيادة الطفيفة في الإنتاج التي تحققت في فترة وجيزة من أجل الضغط على إيران.
ب. لقد خاض رئيس الحكومة العراقية عبد الكريم قاسم مفاوضات صعبة كشفت عنها محاضر جلساتها بوضوح كبير والتي دفعته إلى إصدار القانون رقم 80 لسنة 1961. والأسباب كانت واضحة جداً, وأبرزها:
توقف التنقيب عن البترول تقريباً في جميع الأراضي التي كانت تحت تصرف شركات النفط الأجنبية, ندرة إعادة استثمار جزء من الأرباح السنوية المتحققة لشركات النفط الأجنبية في اقتصاد النفط الخام وعدم تحديث المكائن والمعدات, قلة الاستخراج والتصدير وحاجة البلاد للموارد المالية, عدم استجابة الشركات لمطالب العراق العادلة والكثيرة, عدم تعريق الموظفين في الشركات الثلاث, وجود إمكانية دخول شركات أجنبية أخرى منافسة في اقتصاد النفط الخام العراقي. من هنا نرى إن موقف قاسم كان سليماً وعادلاً ولم يلحق أي ضرر بالشركات بل رفع الضرر عن العراق في حينها. فهو قد استرد فقط تلك المساحات الواسعة من الأرض العراقية التي كانت تحت تصرف الشركات دون أن تستغلها لصالح العراق ولصالحها في آن. وبالتالي الحديث عن أن القانون كان طامة كبرى وأصل البلاء لا يعبر إلا عن موقف مسبق الصنع للدكتور فاضل وهو رأي غير سديد, كما أرى.
إن أخطاء قاسم بالارتباط مع هذه القضية تكمن في مواقع أخرى وليس في القانون 80 ذاته, منها مثلاً: فرديته في الحكم وعدم تسليمه الحكم للقوى المدنية بعد انتصار الثورة, تردده وتراجعه عن وضع دستور ديمقراطي دائم للبلاد, عدم وجود مؤسسات دولة شرعية وتشريعية, رفضه الاستجابة لمطالب الشعب الكردي وخوضه الحرب ضده منذ العام 1961, أثارته لموضوع الكويت باعتبارها جزءاً من العراق, تجميده عملياً تطبيق قانون الإصلاح الزراعي, خوضه الصراع ضد الأحزاب المتصارعة. لقد أضعفت هذه السياسة وغيرها قدرة الحكومة والمجتمع على مواجهة مؤامرات شركات النفط الاحتكارية وقوى الإقطاع والرجعية والقوى القومية العربية الشوفينية المتآمرة الأساسية ضده بدعم مباشر من حكومتي مصر وسوريا والأردن وبقية حكومات الدول العربية وإيران وتركيا (أي مع جميع أعضاء مجموعة حلف بغداد/السنتو). لقد تميزت سياسة عبد الكريم قاسم في قضية النفط بالوطنية وبالحرص على مصلحة البلاد ورفض التفريط بثروة الشعب والتلاعب بمصالحه من قبل شركات النفط الاحتكارية. وفي محاضرة سابقة للدكتور فاضل الجلبي لخصها السيد نضال الليثي ونشرها في جريدة الزمان حيث أنصف فيها عبد الكريم قاسم حيث ورد ما يلي: “وحول الموقف من عبد الكريم قاسم اعتبره وطنيا بشهادة الأعداء ولم يكن مرتبطا بجهة أجنبية ووضع مصلحة العراق والعراقيين وخدمتهم خاصة الطبقة الفقيرة فوق كل اعتبار”.
ج. وفي الوقت الذي انتقد إجراء قاسم السليم, كما أرى, لم يتطرق إلى موضوع تأميم النفط الخام في فترة البعث التي كانت أقسى من استعادة الأراضي غير المستغلة. وحسب علمي كان الرجل ضد التأميم, ولكنه لم يتحدث به في حينه. والآن يعتبر سياسة صدام حسين جيدة وكانت فترة السبعينات فترة ازدهار العراق.
لا شك في أن قرار تأميم النفط كان صائباً, وقد وقفت إلى جانب التأميم بخلاف ما يشاع أحياناً في هذا الصدد. وقد تجلى ذلك في الندوة التي عقدت في جمعية الاقتصاديين العراقيين في الشهر الرابع من العام 1972, أي قبل التأميم بعدة أسابيع, كما كتبت مقالات في حينها بهذا الصدد. وكانت رسالتي لنيل شهادة الماجستير تبحث في موضوع النفط وقد أكدت في حينها, أي في العام 1964 ضرورة تأميم النفط الخام العراقي. وقد شارك في تلك الندوة كل من الدكتور عبد الأمير الأنباري, والدكتور كاظم حبيب والدكتور فخري قدوري وأدار الندوة الأخ الدكتور الراحل عبد العال الصكبان. واستند التأميم في واقع الحال إلى المفاوضات التي خاضها عبد الكريم قاسم أولاً ولقرار استعادة السيطرة العراقية على أراضيه التي كانت تحت تصرف الشركات البترولية الأجنبية أكثر من أربعة عقود دون أن تستثمرها وفق القانون رقم 80 لسنة 1961 ثانياً, إضافة إلى تأييد الأحزاب السياسية العراقية والقوى الوطنية لإجراء التأميم ثالثاً. وكان موقف الحزب الشيوعي العراقي في حينها مؤيداً لقرار التأميم. وكان الحزب الشيوعي, وهو يطرح هذه القضية يؤكد بأهمية تحقيق الوحدة الوطنية مؤكداً على دروس الماضي الصعبة في التعامل مع الشركات الأجنبية, وخاصة موقف تلك الشركات من القانون 80 وغياب الوحدة الوطنية وإسقاط حكومة قاسم, كأحد أهم أسباب التآمر عليه.
لقد مارس صدام حسين سياسة صائبة في إصدار قرار تأميم النفط الخام. ولكنه لم يوفر شروط الاستثمار العقلاني للنفط وموارده سياسياً واقتصادياً واجتماعياً, عربياً ودولياً. ورغم معرفتنا بالعوامل التي دفعت صدام حسين إلى اتخاذ قرار التأميم, إلا أن القرار كان سليماً. ولكن ما جرى بعد ذلك, وابتداءً من قرار “التنمية الانفجارية” في العام 1974, لم تكن السياسة الاقتصادية صائبة في كل الأحوال, بل كانت سياسة سيئة ومدمرة. عملت في حينها على بلورة موقفي من السياسة الاقتصادية للبعث ومن موضوع التنمية الانفجارية في أكثر من مقال ودراسة قدمت في حينها. وكان ما نشرته في طريق الشعب نهاية الثلث الأول من تموز من العام 1978 حول السياسة الاقتصادية للحكم سبباً في اعتقالي في نفس الشهر ثم إحالتي على التقاعد بدون تقاعد وإنزال وظيفتي الحكومية درجتين وأنا في الاعتقال وتحت التعذيب. إضافة إلى أن مجمل سياساته, بما فيها حربه ضد الشعب الكردي وقواه المسلحة وتآمره مع شاه إيران …الخ.
وما تزال في ذاكرتي تلك المناقشة التي أجريتها مع السيد الدكتور فخري قدوري ولمدة أكثر من ساعتين في مقره حين كان رئيساً للجنة الاقتصادية التابعة لمجلس قيادة الثورة حول اعتراضاتي على سياسة التنمية الانفجارية والآثار السلبية التي ستنجم عنها وعن مجمل السياسة الاقتصادية لحزب البعث والحكم. وما يزال الدكتور قدوري حياً يرزق وشاهداً على ما أقول, أرجو له الصحة والعمر المديد. كما عبرت عن ذلك في أكثر من ندوة. وقد كانت البداية للتنمية والسياسة الانتحارية لنظام الحكم.
لم تبدأ السياسة الخاطئة لصدام حسين مع حربه ضد إيران بل قبل ذاك بكثير, ولهذا يصعب الحديث عن الازدهار الاقتصادي للمجتمع, بل يمكن الحديث عن التفريط بالموارد المالية النفطية في تلك الفترة والتي تجلت في الاستيراد المفتوح والواسع النطاق وبأرقام مالية خيالية, وطبيعة العقود مع الشركات الأجنبية القائمة على أساس تسليم المفتاح, وإقامة المشاريع الباذخة والبدء بالتسلح والتصنيع العسكري والتحضير للحرب ضد إيران. لقد كانت تلك الفترة ازدهارا في أرباح الشركات المقاولة الأجنبية والعراقية القريبة من النظام والحرفيين والشركات التجارية. ولكنها عرفت في تلك الفترة البدايات الفعلية للفساد المالي في النخبة الحاكمة وأجهزة الدولة العليا وتفاقم النزعة الاستهلاكية في المجتمع.
* بصدد مشروع قانون استثمار النفط والغاز
أ. اتفق مع السيد الدكتور فاضل الجلبي بأن على العراق أن يستخدم أسلوب عقود المشاركة في الإنتاج, ولكني أتفق أيضاً مع إمكانية وضرورة الأخذ بعقود الخدمة, كما جاء في بيان الأخوة الاقتصاديين في عمان. ولكن أختلف معه في التفاصيل, وهي مربط الخيل, إذ أن السؤال ليس الأخذ بهذا الشكل أو ذاك, بل المسألة ترتبط بالشروط التي يفترض أن يتفق عليها بهذا الصدد, وهي التي حاول الدكتور الجلبي عدم الخوض بها, بل سفّه دون وجه حق وجهة النظر المخالفة دون أن يمتلك الحجة لهذا التسفيه. إن الشروط المطروحة هي التي عليها مآخذ وليست الطريقة أو أسلوب التعاقد. وهو ما أكدته في مقال سابق لي حول هذا الموضوع. فالفترة الزمنية التي يراد عقدها تمتد إلى 37 سنة, كما أشار إلى ذلك الأخ الدكتور علي الأسدي في سلسلة مقالاته تحت عنوان “دراسة في أجزاء (3) مشروع قانون النفط اختبار لوطنية المجلس النيابي …” 10-14/3/2007 (الحوار المتمدن العدد 1854), وليس كما قال الدكتور الجلبي, كما أن الشروط المالية هي التي يفترض أن تناقش وتغير لصالح العراق في حالة الاتفاق على عقود مشاركة الإنتاج (PSA).
ب. أثار الدكتور الجلبي موضوع حق الإقليم في عقد الاتفاقيات النفطية باعتبار ذلك تجاوزاً على المادة 109 من الدستور العراقي الدائم, إذ أن القانون لم يحدد من المسؤول في المحصلة النهائية على المصادقة على عقد الاتفاقيات النفطية.
يبدو لي أن المعرفة والتجربة في النظام الفيدرالي ما تزالان حديثتا العهد وقد تعودنا على المركزية التي عرفنا كل جوانبها الإيجابية والسلبية عبر ما يزيد عن 80 عاماً تقريباً, وبالتالي نخشى من أي إجراء يمس الجانب المركزي ونعتبره انفصالاً عن العراق وإساءة للمصلحة العامة. نحن بحاجة إلى تيقن باستمرار من كل الإجراءات التي نتخذها ويمكن تعديل الكثير من الأمور عبر التجربة التي نمر بها ما دمنا نفكر معاً بمصلحة العراق ككل, والتي لم تكن كذلك خلال العقود المنصرمة.
من الضروري الإشارة إلى عدم وجود أي تناقض فعلي بين المادة 109 من الدستور وحق الإقليم في عقد الاتفاقيات, إذ أن الاتفاقيات ستعرض على المجلس الاتحادي الذي فيه ممثلون عن كل الأطراف والذي يمكن أن يهتدي إلى أسلوب توافقي حالياً ولاحقاً وفق الأكثرية وفي مجلس النواب أيضاً. إن الاعتقاد بوجود تناقض يعبر عن عدم ثقة أساساً في أن الإقليم ستصرف وفق مسؤولية وطنية في عقد الاتفاقيات النفطية, وهو يعبر عن انعدام الثقة عموماً في الساحة السياسية العراقية. وفي كل الأحوال لا بد من وضع معايير محددة وواضحة بشأن كيفية وشروط عقد الاتفاقيات بما يساعد على حماية مصالح العراق بعد أن تم الاتفاق على الأسس التي يتم بموجبها توزيع الثروة النفطية في العراق, بل ومجمل الدخل القومي العراقي. إن منح الإقليم الحق في عقد الاتفاقيات النفطية لا يعني إلغاء الرقابة على تلك الاتفاقيات أولاً, ولا يعني الإضرار بمصالح العراق ثانياً, ولا يعني التناقض مع الدستور ثالثاً, كما لا يعني سوء التصرف رابعاً. بل أن كل ذلك كان يحصل قبل ذاك أثناء سيادة المركزية التامة وعدم وجود معايير وآليات مناسبة لعقد الاتفاقيات أو توزيع الثروة أو ما يجري حالياً بسبب الفوضى السائدة في مجال اقتصاد النفط الخام. وعلينا أن نؤكد ضرورة وضع معايير تمنع كل ذلك.
من المفيد المطالبة بتدقيق العلاقة بين المركز والإقليم بشأن العقود التي توقع مع الشركات الدولية حول اقتصاد النفط الخام لضمان علاقة سليمة وفعالة وغير بيروقراطية مؤذية بما يسمح في أن تكون أكثر فاعلية وأكثر ضماناً لعدم التجاوز على المعايير لأي سبب كان. ولكن ليس التشكيك بمنح الإقليم الحق في عقد الاتفاقيات التي تخضع للمعايير العراقية التي تتحدد بالضرورة وعبر المؤسسات الدستورية في الإقليم وفي العراق عموماً. إن الخشية, كما تبدو لي, التي عبر عنها البعض لم تنشأ عن الموقف من النفط الخام وحده, بل من وجود فيدرالية الإقليم الكردستاني التي لا يرتضيها البعض, وهو حق من حقوق كل فرد التعبير عن رأيه. ولكن الفيدرالية الكردستانية هي الطريق الوحيد السليم للتعامل الدستوري الديمقراطي مع واقع التعدد القومي العراقي, بعد تجارب أكثر من ثمانية عقود.
ج. أشار الدكتور فاضل الجلبي إلى أن العراق خسر منذ العام 1980 -2006 ما يقرب من 430 مليار دولار نتيجة عدم استخراجه وتصديره للنفط الخام وفق حصته في الأوبك التي بلغت 14,5 % في العام 1980, حيث قدرت كمية النفط التي كان المفروض تصديرها 18,5 مليار برميل. ولكن القسم الأكبر من هذه الفترة (23 سنة) كانت في ظل النظام السابق وبسبب حروبه العدوانية والحصار الاقتصادي الظالم الذي فرض على العراق وبسبب سياسات النظام السابق عموماً. وبهذا الصدد تطرق الدكتور الجلبي إلى أن على العراق أن يعجل باستخدام نفطه قبل أن يبور في السوق الدولية بسبب اكتشاف بدائل جديدة لإنتاج الطاقة. كنا نسمع بهذا الرأي منذ منتصف الستينيات من القرن العشرين, وسنبقى نسمع به, وهو رأي يفترض التفكير به. ولكن علينا أن نفهم أيضاً بأن النفط سيبقى للعقود الخمسة القادمة مهماً جداً لإنتاج الطاقة أولاً, ولسلسلة طويلة جداً ومتشعبة من المنتجات الصناعية ثانياً, وكذلك لاستخدامات الغاز الطبيعي أيضاً. كما أن العالم يسعى إلى التخلص من الطاقة النووية بسبب من مخاطرها على العالم. واشك كثيراً في أن العالم سوف يستغني عن النفط الخام كما تحاول ألمانيا أن تستغني عن الفحم. إن الولايات المتحدة تفكر اليوم في استثمار محمية غزال الرنة في ألاسكا لاستخراج النفط الخام, رغم انقسام الرأي العام هناك بين من هو ضد التنقيب واستخراج النفط الخام خشية انتقال غزال الرنة إلى منطقة أخرى تؤذي التكاثر الطبيعي لهذا الحيوان, وبين مؤيد لزيادة موارد المنطقة وتوفير فرص عمل وتحسين مستوى حياة الناس. وليس هناك ما يدلل على استعداد الولايات المتحدة التخلي عن النفط الخام, إذ أن استراتيجيتها الراهنة متوجهة أصلاً صوب النفط في منطقة الشرق الأوسط وبحر قزوين حيث تتوفر فيهما ما يزيد عن 76% من احتياطي النفط العالمي. أملي أن لا يرعبنا ترديد اللوبي النفطي المرتبط بالكارتيل الدولي بأن سوق النفط الخام سيبور قريباً لنعجل في استخراجه وتصديره, إذ علينا أن نربط بين مصالح الجيل الحالي والأجيال القادمة في مدى الاستفادة من هذه الثروة الناضبة أولاً, وفي مدى قدرتنا على استثمار النفط الخام للصناعات الحديثة والمتقدمة تقنياً وغير الملوثة للبيئة ثانياً, لا على أساس السوق العراقي فحسب, بل بالتعاون والتنسيق مع بلدان المنطقة والكثير من الدول الأخرى, إذ أن سوق العراق محدود جداً لمثل هذه المنتجات.
إن العراق الغني بالبترول, هذا الذهب السود, يعاني من البطالة والفقر والعوز. فالأرقام مرعبة حقاً, إذ أن هناك ما يقرب من 60% من العاطلين عن العمل, ونسبة النساء أعلى بكثير من هذا المعدل, وبين الشباب تصل إلى 70%, كما أن نسبة السكان الذين يعيشون تحت خط الفقر تصل إلى 30%, وعلى خط الفقر ما يقارب هذه النسبة, وفوق خط الفقر بقليل يبلغ ذات النسبة, وبالتالي فأن ما يتراوح بين 85-90% من السكان يعانون من أوضاع غير طبيعية وبؤس معيشي وحياتي, في حين لا يتمتع بخيرات البلاد سوى 1-2 % من إجمالي السكان. والفساد يضرب أطنابه في جميع أنحاء البلاد. وقد ساهمت شركات النفط الدولية, وخاصة شركة هاليبرتون Halliburton العالمية التي يقع مقرها في مدينة هيوستن Houston في ولاية تكساس الأمريكية، والتي تأسست في العام 1919 ويصل إيرادها سنوياً إلى حوالي 20.46 بليون دولار، وتوظف ما يزيد عن 95 ألف موظف وعامل في أكثر من 100 دولة. ويتوزع نشاطها على جانبين: إنتاج النفط والغاز من جهة وقضايا الطاقة ومد أنابيب النفط وبناء المنشآت النفطية وتقديم الخدمات لها وغيرها من جهة ثانية, بشكل فعال في تعميم الفساد المالي والوظيفي وتفاقم ما كان سائداً في عهد صدام حسين.
سأحاول في مقال لاحق أن أبدي وجهة نظري بشأن الموضوعات الواردة بمشروع قانون النفط الجديد الذي لم يتطرق لها الدكتور الجلبي, ولكن المشروع أثار موجة نقد عادلة من جانب الكثير من الكتاب الاقتصاديين والسياسيين الديمقراطيين العراقيين, أملي أن يؤخذ ذلك النقد بنظر الاعتبار عند مناقشة مشروع القانون في مجلس النواب. أجد ضرورة طرح المشروع على المجتمع لمناقشته بصورة علنية ليتبين كافة المسؤولين مواقف الصواب والخطأ في مشروع قانون النفط والغاز.
آذار/ مارس 2007 كاظم حبيب
جريدة الاتحاد