نوروز …عودة إلى الجذور:
لكل قوم تراثه وأساطيره ومخزونه الثقافي الموغل في القدم ، الذي يختلط فيه الحق والباطل،والحقيقة والخرافة، المتغلغل في أعماق نفوس أفراده، أو المستقر في عقلهم الباطن،ويكون الحافز لهم والشادّ لعزيمتهم في مواجهة الظروف القاسية التي تلمّ بهم،كتلك التي مرّ بها أجدادهم.
وبخصوص عيد “نوروز” الذي تحتفل به الشعوب الآرية،مثل الكرد والفرس والأفغان والطاجيك والبلوش وغيرهم في الحادي والعشرين من آذار من كل عام،فإنه مرتبط بأحداث جسام مرّت بها هذه الشعوب،أو ربما كانت من بقايا عقائدهم القديمة التي سبقت الإسلام،وليس من السهل التحقق من صحتها أو الجزم بصدق وقوعها بالصيغة التي تتناقلها الأجيال،مع إضافات أو حذف هنا أو هناك،أو اختلافات تكون كبيرة بين رواية وأخرى،…لكن ،وبالرغم من كل ذلك،وبغضّ النظر عن رأي الشعوب الأخرى فيها،فإنها تظل موضع احتفاء واستحضار قويين في العقل الجمعي لهذه الشعوب،تحييها وتحتفل بها وتعدّها محطة مراجعة وتقويم واستلهام وشحذ للهمم،و ربط بين الماضي والحاضر لترَسّمِ الخطى نحو المستقبل.
ونوروز بالنسبة للكرد،الذي يرى فيه بعضهم بداية السنة الكردية من حقهم الاحتفال فيه،كما يرى فيه كرد آخرون ذكرى التخلص من الطغيان الفارسيّ أو الآشوريّ,وبداية عهد جديد من التحرر والانعتاق والقضاء على الظلم الذي مورس بحقهم في غابر الأزمان،كما يرى فيه فريق ثالث اليوم الذي نزلت فيه آلهة الخير والنور على الأرض وقضت على آلهة الشر والظلام،وأنزلت الخصب والنماء[وهذه خرافة لا يمكن أن يقبلها مسلم يعتقد أن السموات والأرض خلقها ويتحكم في كل ما يجري فيهما الله تعالى وحده]،كما يرى فريق رابع في نوروز بداية الربيع وما يمثله هذا الفصل بالنسبة للكردي الذي كان يعتمد في مصدر دخله على الزراعة والرعي.
الكرد والطموحات المشروعة:
وبينما يحتفل الكرد بنوروزهم ويستحضرون اللحظة التاريخية التي قام فيها جَدّهم كاوا الحدّاد بتحطيم رأس الطاغية “زوهاك أو ضحاك ـ كما في المصادر العربية”الذي كان يذيق الكرد صنوف العذاب،وتخليصهم من جبروته، ويكون سبباً في تمتعهم بالحرية (كما تقول الأسطورة)،فإنهم يستلهمون من هذه المناسبة العزم والإصرار على أحقيتهم في أن يكون لهم مكان تحت شمس الله،أسوة بباقي الشعوب الحية التي تنعم بالحقوق السياسية والثقافية والاجتماعية وغيرها،وأن يعيشوا في أمن وسلام وعلى قدم المساواة مع باقي شعوب المنطقة من العرب والترك والفرس وغيرهم،في ظلال الإسلام الوارفة التي محا الفوارق وقضى على التمييز بكل أنواعه وأشكاله.
إنهم لا يريدون من إخوانهم في العقيدة سوى أن يعاملوهم كما أمرهم الله تعالى،وكما يجب أن تكون العلاقات السائدة بين المسلمين،من أخوة ومساواة وتكافؤ للفرص،واحترام متبادل،ومراعاة للخصوصية،فـ “المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره ولا يُسلمه…” ـ كما في الحديث الشريف الذي يرويه أئمة الحديث مسلم وأحمد ومالك وأبو داود والترمذي رحمهم الله تعالى.
إن الكرد ـ إذ يحتفلون في هذه الأيام بأعياد الربيع ونوروزـ يأملون في حل المشكلات التي نشأت بينهم وبين إخوانهم المسلمين، نتيجة العصبية القومية المقيتة التي استبدّت بإخوانهم الترك والفرس والعرب،فسعى أولاء لتتريك الكرد وهؤلاء لتفريسهم وأولئك لتعريبهم،هذه المساعي التي يأباها الإسلام ويرفضها الكرد والعقل والمنطق.
إن المطلوب من شعوب هذه المنطقة أن تجتمع على كلمة سواء،فتعمل على حقن دماء أبنائها،وتوجّه الجهود لبناء مستقبل زاهر لأجيالها الحاضرة والقادمة،وترسّخ في نفوس أفرادها وجماعاتها قيم العدل والحرية والمساواة والعيش المشترك والقواسم المشتركة،بدلاً من قيم الجاهلية الأولى التي تمجّد الظلم والطغيان والإلغاء والإلحاق والتذويب. فهل نطلب المستحيل؟ وكل نوروز وأنتم بخير.