الساسانيون كانوا كورداً و ليس فُرساً
كنت قد قررت الإكتفاء بتناول التأريخ الكوردي، الذي تحدثت عنه في المقالات الأربع السابقة ضمن هذه السلسلة من المقالات، لأن هدفي لم يكن سرد التأريخ الكوردي و إنما تناولي لهذا الموضوع كان لإلقاء الضوء على جانب من التأريخ الكوردي و الإشارة الى المساهمة المحورية للشعب الكوردي في بناء صرح الحضارة الإنسانية، إلا أنني إرتأيت أن أكتب هذه المقالة عن التأريخ أيضاً، بعد أن لاحظت الظلم الذي يتعرض له التأريخ الكوردي، حيث أقول بكل أسف أن الغالبية العظمى من المؤرخين، من شرقيين و غربيين، يعتبرون الساسانيين فرساً أو في أحسن الأحوال عجماً، بينما المصادر التأريخية الموثوقة تؤكد بشكل قاطع لا لبس فيه بأن الساسانيين ينتمون الى الشعب الكوردي. لإنصاف الشعب الكوردي العريق و لإظهار الحقائق التأريخية بموضوعية و مهنية، بعيداً عن الأهواء الشخصية و النزعات العنصرية، أحببت أن أخصص هذه المقالة عن الساسانيين الذين سنرى بأنهم كانوا كورداً أقحاح. كما أود التأكيد هنا أيضاً بأن كل الحضارات الكوردية أُقيمت على سواعد الفيليين، لكونهم نزحوا منذ فجر التأريخ من جبال كوردستان الى المناطق السهلية، حيث المياه و الأرض الخصبة الصالحة للزراعة و لتربية المواشي و لبناء المدن و التي بدورها أدت الى ظهور حضارات عظيمة على أرض كوردستان.
ملوك الساسانيين كانوا يُلقبون ب”خَسرَو”. الكلمة مؤلفة من الكلمتين الكورديتين “خاس” التي تعني “جيد” باللهجة اللورية الكوردية (راجع كتاب “لغت نامه” لمؤلفه علي اكبر دهخدا) و كلمة ” رَو” التي تعني “تصرّف”، و بذلك كلمة “خَسرَو” تعني “ذو تصرف جيد” أي “إنسان محترم و ذو منزلة عالية”. حرف الألف في كلمة “خاس” محذوف في الكلمة المركبة لتسهيل لفظها بعد تركيب الكلمتين. الفرس أخذوا هذا اللقب من الكوردية و حوّروه الى “خُسرَو”، حيث لا توجد كلمتي “خاس” و ” رَو” في اللغة الفارسية. العرب بدورهم قاموا بتعريب هذه الكلمة فأصبحت “كِسرى أو كَسرى”. كثير من ملوك الشعوب الأخرى كان لهم ألقابهم الخاصة بهم كما كان للساسانيين، مثلاً ملوك الروم كانوا يُلقّبون ب”قيصر” و ملوك الأقباط ب”فرعون” و ملوك الأتراك ب”خاقان” و ملوك اليمن ب”تُبّع” و ملوك الحبشة ب”نجاشي” و ملوك مصر ب”عزيز” و هكذا. إن الكثيريين من الناس يظنون خطأً بأن إسم الملك الساساني الذي جرت معركة القادسية أثناء حكمه كان “كِسرى”، بينما “كِسرى” كانت لقب كل ملوك الساسانيين و ليس إسم أحدهم، و الذي يُقابل لقب “الملك” أو “رئيس الجمهورية” أو “الأمير” المستعمل في هذه الأيام.
هنا لا أتحدث عن تأريخ الحضارة الساسانية و إنما عن أصلهم. “ساسان” هو الجد الأعلى لملوك الساسانيين. ينتمي “ساسان” الى قبيلة “شوانكاره” الكوردية (“شوانكاره” تعني بالكوردية “الراعي”) التي كانت تقطن إقليم فارس (راجع كتاب “إبن البلخي”). زوجة ساسان كانت بنت أحد شيوخ العشائر الكوردية التي كانت تُدعى (باز رَنكي) و التي تنتمي الى قبيلة “شوانكاره” أيضاً. نشأت هذه العائلة في المنطقة الكوردية التي كانت تقع في إقليم فارس. للمضي في إثبات كون الساسانيين من الكورد، نعرض الرسالة التي كتبها و أرسلها آخر ملوك الإشكانيين، الملك أردوان الخامس الى الملك الساساني “أردشير” و التي في هذه الرسالة يُهين الملك “أردشير” و ينظر إليه بإزدراء. تمت قراءة هذه الرسالة المُهينة من قِبل الملك الساساني في البلاط الملكي و بحضور رعية الدولة الساسانية. مما جاء في الرسالة المذكورة ما يلي: (إنك قد عدوتَ طوركَ و إجتلبتَ حتفكَ أيها الكُردي المُربّى في خيام الأكراد، مَن أذِنَ لك في التاج الذي لبسته؟). يشير الى هذه الرسالة كل من الطبري (الطبري، المجلد الثاني، طبع مصر، صفحة 57) و إبن الأثير (إبن الأثير، الكامل في التأريخ، المجلد الأول، صفحة 133). كما يذكر ياقوت الحموي في كتابه “معجم البلدان”، الذي إستغرقت كتابته من عام 1224 الى عام 1228 الميلادي (ياقوت الحموي، معجم البلدان، المجلد السابع، صفحة 413)، بأن السلاطين الساسانيين عندما بنوا “المدائن”، قاموا ببناء حي ضمن المدائن، أطلقوا عليه إسم “كورد آباد”، تيمُّناً بإنتمائهم القومي للشعب الكوردي و الذي يعني “أن الكورد هم بُناة المدينة” . إسم المدينة هو “ماديان” و التي تعني باللغة الكوردية “ماديون أو ميديون” الذين ينتمي الكورد إليهم، حيث تم تحويره من قِبل العرب الى “المدائن” و أطلق الفرس عليها إسم “تيسفون”. قام الملك الساساني، أردشير أيضاً ببناء مدينة خاصة بالكورد قرب مدينة الموصل الحالية و سماها “بوذ أردشير” ( راجع ليسترنج، بلدان الخلافة الشرقية). من هنا ندرك أن معركة القادسية التي وقعت بين المسلمين العرب، بقيادة سعد بن أبي وقاص مع الساسانيين في عهد آخر ملوكهم، يزدكرد الثالث، كانت معركة بين العرب و الكورد، إلا أن محتلي كوردستان قاموا بتزوير التأريخ و سرقة التأريخ الكوردي و إعتبروا الساسانيين من الفرس زوراً و بهتاناً. كما أنه، نتيجة هذا التزوير، حاول و لا يزال العروبيون العنصريون يحاولون بجعل العلاقة بين الشعيين الفارسي و العربي علاقة عدائية تأريخية، كما حاول المقبور صدام حسين حين سمّى حربه المدمرة و المتهورة ضد إيران ب”قادسية صدام” كإمتداد لقادسية سعد بن أبي وقاص، بينما كما أسلفنا، فأن تلك المعركة جرت بين الكورد و العرب و ليس بين الفرس و العرب. كما يجب التذكير بأن الفرس و العرب لا يشتركون بحدود جغرافية مع البعض، حيث تفصل كوردستان بين البلاد الفارسية و العربية.
نذكر هنا أسماء ملوك الساسانين الأربع و العشرين، الذين دام حكمهم لمدة أربعمائة و ستة و عشرين عاماً (224 أو 226 – 651 م) التي هي كالآتي، مرتبة حسب التسلسل الزمنى لحكمهم :
1. أردشير الأول
2. شابور الأول
3. هرمز الأول
4. بهرام الأول
5. بهرام الثاني
6. بهرام الثالث
7. نرسي
8. هرمز الثاني
9. آذر نرسي
10. شابور الثاني
11. أردشير الثاني
12. بهرام الرابع
13. يزدكرد الأول
14. بهرام الخامس
15. يزدكرد الثاني
16. هرمز الثالث
17. فيروز الأول (بيروز الأول)
18. بلاش (وه لكاش)
19. قُباد الأول (كوات)
20. خسرو الأول (أنوشيروان العادل)
21. هرمز الرابع
22. خسرو الثاني (برويز)
23. قُباد الثاني
24. يزدكرد الثالث
يذكر حمدالله المستوفي في كتابه “نزهة القلوب” الذي كتبه في القرن الرابع عشر الميلادي، بأن الملك خسرو الأول قام بتنظيم الضرائب و الجيش و سجلات الدولة. في عهد هذا الملك تم جلب كتاب “دليلة و دمنة” من الهند الى بلاد الساسانيين و في عهده أيضاً بلغت المدارس الفلسفية و الأدبية أوجّها.
الشاعر الكوردي، حاجي قادر كويى (1817 – 1897 م) كتب قصيدة شعرية قبل أكثر من مائة عام، يقول فيها أن الساسانيين هم من الكورد، حيث يذكر بالإسم الملكين الساسانيين، أردشير و قُباد و يتشكى فيها من إهمال تدوين تأريخ الشعب الكوردي باللغة الكوردية و التي أقتطع منها هذه الأبيات التي قمتُ بترجمتها الى العربية:
إذا لم يرغب كوردي في تعلم لغته الأم
فمن المؤكد أنّ أُمه عاهرة و أباه زانٍ
تعالَ لأُحدّثك عن أمور تجهلها!
عالم السياسة جميل إذا أتقنتَ فنونه
صلاح الدين و نور الدين الكورديان
و ” عزيزان”* ال”جزيرة” و “موش” و “وان”
“مهلهل”** و أردشير و الأسد “ديسم”***
قُباد و صقور أمراء أردلان
هؤلاء كلهم كورد خالصون لا شك فيه
بسبب الجهل و الأمية، إختفوا من صفحات التأريخ
الكتب و الألواح و الوثائق التأريخية
لو تم تدوينها عبر التأريخ بلغتنا
لخلّد التأريخ ملوكنا و حكامنا و أمراءنا
و لَبقوا نجوماً متلألئة تُنير صفحات التأريخ
* “عزيزان” هم أجداد “البدرخانيين”، الذين حكموا أجزاء من كوردستان “مناطق الجزيرة و موش و وان” في زمن الخليفة عمر بن الخطاب.
** “مهلهل” هو مهلهل شازنجاني الذي تغلب على السلجوقيين في كرمنشاه و أصبح يحكم مناطق كرمنشاه و خانقين و كفري و كركوك و شهرزور و سيروان.
*** ” دَيسَم ” هو الحاكم الكوردي الذي حكم أذربيجان في زمن الدولة العباسية.
نتيجة إفتقار الشعب الكوردي لكيان سياسي يُعبر عن هويته و يقوم بتدوين تأريخه و الحفاظ على ثقافته و لغته و تراثه و تطويرها، فأن تأريخه قد تعرض الى سرقة و طمس و إلغاء و تشويش ظالم لأن محتلي كوردستان يحاولون إستئصال اللغة و الثقافة الكوردية و إلغاء هوية الشعب الكوردي و تزوير تأريخه العريق، ليُكرّسوا إحتلالهم لكوردستان و يُلغون كوردستان من خارطة الشرق الأوسط و ليقومون بصهر الشعب الكوردي عن طريق تتريكه و تفريسه و تعريبه. إن للشعب الكوردي تأريخ مجيد و أنه من أقدم شعوب المنطقة و الحضارات السومرية و العيلامية و الميدية و الساسانية تشهد على عراقة هذا الشعب و المساهمة العظيمة له في بناء الحضارة الإنسانية و تطورها و تقدمها. إبراز الدور الحقيقي للكورد في تأسيس الحضارة البشرية و التعرف على ثقافتهم و تأريخهم، يتطلب تأسيس مراكز علمية كوردية لإحياء الثقافة الكوردية و لإعادة قراءة التأريخ. صديقي الأستاذ محمد مندلاوي يُكرر على مسامعي بإستمرار و يؤكد على حاجة الكورد لإعادة قراءة تأريخهم و أنا أتفق معه تماماً بأن على الكورد البحث عن تأريخهم في ثنايا الكتب و الوثائق وفي قاعات المتاحف و الأماكن الأثرية و عن طريق التنقيب عن الآثار في ممالك الكورد الأثرية و تفحص مراسلات و تقارير الحكومات و المسئولين. هنا أقصد القيام بدراسات علمية موضوعية للتأريخ الكوردي للعثور على الحقيقة، بالرغم من التخريب و السرقة و الطمس التي تعرض لها التأريخ الكوردي و خاصة أن الكورد يفتقرون الى كيان سياسي ليُكتب هذا التأريخ في ظله، لذلك فأن محتليه قد قاموا بكتابة التأريخ الكوردي، فعملوا على تشويهه و سرقته و طمسه. من بين هذا التشويه و السرقة، على الكورد أن يبحثوا و يجدوا و يكتشفوا تأريخهم و يضعوه في متناول أطفال الكورد و ليدعوا العالم يعرف التأريخ الحقيقي للكورد. لا أطالب هنا بتزوير التأريخ كما قام به المقبور صدام حسين في حملته “لإعادة كتابة التأريخ”، و إنما أقترح تأسيس مراكز علمية لجمع المعلومات التأريخية عن الكورد و تبويبها و تسجيلها و حفظها و مقارنة بعضها مع البعض و غربلتها و تحليلها و من ثم كتابة المعلومات الصحيحة بشكل موضوعي و علمي. قبل أن أنتهي من كتابة هذه المقالة، أود أن أشكر صديقي الأستاذ محمد مندلاوي على مساعدته القيّمة لي في ترجمة المعلومات التي إعتمدتُ عليها في هذه الكتابة و التي كانت باللغة الفارسية و كذلك لإستعارتي المصادر التي إحتجتها من مكتبته العامرة، لولاه لم أكن قادراً على تقديم هذه المقالة و وضعه تحت أيدي القراء الأعزاء.
المصادر
ياسمى، رشيد (؟). كُرد و بيوستكى نزادى و تاريخى. جاب سوم، انتشارات ابن سينا. (باللغة الفارسية).
بيرنيا، حسن و اقبال، عباس (1370 ﻫ ق). تاريخ ايران از آغاز تا انقراض قاجاريه. جاب ششم. (باللغة الفارسية).
دهخدا، على اكبر (1345 ﻫ ق). لغت نامه. جلد ششم، جاب دانشكاه تهران، صفحة 9307. (باللغة الفارسية).
ابن البلخي (؟). فارسنامه، فصل احوال شبانكاره و كُرد و فارس. طبع اوروبا، صفحة 146. (باللغة الفارسية).
ليسترنج، ك. (1954). بلدان الخلافة الشرقية. ترجمة بشير فرنسيس وكوركيس عواد، مطبوعات المجمع العلمي العراقي مطبعة الرابطة، بغداد.
الحموي، ياقوت (1868). معجم البلدان. إشراف فردناند وستنفلد. المجلد الثالث، لايبزغ.
القزويني، المستوفي حمد الله (1915). نزهة القلوب في المسالك و الممالك. ليدن.
الطبري (؟). المجلد الثاني، طبع مصر، صفحة 57.
إبن الأثير (؟). الكامل في التأريخ، المجلد الأول، صفحة 133.