كان نهر الحياة يجري هادئا مثل جريان نهر دجلة القادم من جبال كردستان ليمنح الخير لسهول العراق و كنا اطفالا لانعرف الكثير مما يدور حولنا وما يحدث في عالمنا الكبير ، ولكننا كنا نعرف اننا كرد رغم وجودنا في بيئة عربية وسط العراق، فقد كان آباؤنا يتكلمون الكردية ، بينما ندرس نحن في المدراس العربية ، و نعيش في أحياء كردية في مدينة عربية.
كانت أ حياء الكرد تنتشر وسط مدينة الكوت ، وقد عرفت باهلها الطيبين الكرماء ، الذين كان أغلبهم يعمل في الحرف اليدوية مثل الحياكة والحدادة والنجارة والدوشمة والصباغة ، ومنهم من لم يجد فرصة عمل فاستفاد من قوة عضلاته ليكسب لقمة عيشه بعرق جبينه ، كما استطاع البعض أن يشق طريقه في التعليم ليحصل على فرصة وظيفية في المدارس والدوائر الرسمية.
كانت خطواتنا الصغيرة تنتقل بنا من الصف الاول الى الثاني فالثالث في المدرسة، وما ان اقتربنا من انهاء المرحلة الابتدائية حتى هزت ثورة تموز 58 19 بحيرة المجتمع الهادئة ونفخت الروح في الاجساد الساكنة، لتعلن اجراس الثورة تغيير كل شيء في حياتنا. عرفنا انها تسمى ثورة ، فالناس عن بكرة أبيهم في الشوارع يصرخون ويهتفون: يسقط النظام الملكي ، يسقط الاستعمار ، عاشت الجمهورية العراقية ….
وما ان انقضى عام من عمر الثورة أو يكاد حتى انتشر هتاف يمجد الاخوة العربية الكردية ، وبدأنا نسمع النقاشات عن وضعنا الكردي ، بين الاهل والاقارب وامتد النقاش الى المدينة ، وجاء اليوم الذي انتشرت فيه صورة رجل مهيب الى جانب صورة الزعيم عبد الكريم قاسم ، صورة رجل يرتدي بزة عسكرية كتب تحتها الجنرال مصطفى البرزاني .
طبع أحد ستوديهات التصوير في المدينة صورة القائد الكبير البرزاني ، فاحتلت معظم البيوت الكردية ، وبدأ الناس يتحدثون في مجالسهم عن ثورة برزان ، واخذوا يتناقلون القصص الثورية عن الصراع الذي دار بين الثورة الكردية والحكومة في العهد الملكي .
خلال تلك السنوات الاولى من ثورة تموز المجيدة بدأ مفهوم جديد يتشكل لدينا ، مفهوم كوننا كردا نعيش في العراق ، فنستمع من الكبارالى تاريخ شعبنا الكردي كردستان وامتنا الكردية، وبدا نشاط الحزب الديمقراطي الكردستاني في مدينة الكوت ملحوظا ، وخلال السنوات الاولى تلك استطاع المعلمون الكرد تنظيم انفسهم وبمبادرة من الحزب الديمقراطي الكردستاني انعقد اول مؤتمر للمعلمين الكرد في شقلاوة شارك فيه وفد من مدينة الكوت ، كان والدي أحد اعضاء ذلك الوفد ، فعاد بعدها لينقل لنا وللمدينة أنباء وآمال كردستان .
كان لانتكاسة الثورة و توالي الاحداث المأساوية وانطلاق الشرارة الاولى للثورة الكردية عام 1961م تأثير كبير في تغيير مسار ثورة تموز، فخيم جو من التشاؤم على الحياة السياسية في العراق ، وبدأ ابناء المدينة يتوجسون شرا من اجراءات السلطات وتضييق الخناق عليهم ، حتى تفاقمت الاحداث وجاء انقلاب 8 شباط الاسود عام 1963 م والذي كان كارثة على المدينة ، عرف فيها العرب و الكرد أبشع انواع التنكيل على يد مايدعى الحرس القومي .
كان لاشتداد الاجراءات الامنية أثره السئ على الكرد الفيليين، ومع التعسف الذي كانوا يتعرضون له ، بقيت عيونهم شاخصة نحو جبال كردستان الشماء ، وظل البرزاني الخالد نبراسا يتطلعون اليه ، وأملا يضئ لهم الطريق ، فالتحق العديد من الكرد الفيليين بالثورة الكردية، ولم تستطع سلطات البعث التي استخدمت سياسة الارض المحروقة في كردستان من تسجيل انتصار كبير على الثورة الكردية ، وكانت أنباء المعارك الشرسة ترد الى أبناء المدينة من شتى القنوات وخاصة المنشورات الصحفية الكردية .
استمرت صورة البرزاني تتوهج من خلال الانتصارات التي كان يحرزها البيشمركة الابطال مما اضطر الحكومات المتعاقبة الى دخول المفاوضات مع القيادة الكردية برئاسة البرزاني الخالد حتى أعلنت اتفاقية الحادي عشر من آذار عام 1971 م وكنا حينذاك نعيش ببغداد ، فشهدنا الحدث الكبير، الاحتفال في ساحة التحرير الذي وقف فيه بشموخ القائدان مسعود البرزاني و الراحل ادريس البرزاني، فكان حضورهما على المنصة بملابسهما الكردية مثاراعتزاز كبير لدى الكرد ، وأذكر يوما كنت اسير مع زميل عربي في شارع الرشيد فتوقف أمام محل لبيع الصور والاطارات ، كان يقف أمام صورة البرزاني التي وضعها صاحب المحل في صدارة محله ، فسألته لماذا يطيل الوقوف ، فأجابني : أنظر الى صورة البرزاني البطل ، هذا الذي مرغ انف الحكومة بالوحل . كان مزهوا بشخص البرزاني .
شجعت اتفاقية اذار الكرد ببغداد وغيرها من المدن على الاعراب عن مشاعرهم تجاه الثورة الكردية وقيادتها ، فعلق صاحب المقهى في شارع الكفاح صورة كبيرة للبرزاني في واجهة المقهى ، فكانت تثير العواطف الجياشة للكرد وتستفز الشوفينيين الذين كانت ترعبهم صورة البرزاني .
بعد اتفاقية الحادي عشر من اذار انتشرت صور البرزاني ببغداد وكان لصدور جريدة التآخي دور متميز في اشاعة الوعي القومي الكردي بين الكرد واصبحت الجريدة الاولى ببغداد وفاقت الصحف الحكومية في الانتشار ، فكان الناس يتلاقفونها بعد توزيعها مباشرة ، وحصلت على شعبية كبيرة وسط المثقفين ، وزاد من تعلق الكرد بالقائد البرزاني ترشيحه السياسي المعروف حبيب محمد كريم لمنصب نائب رئيس الجمهورية ، وهو الكردي الفيلي الذي طالما حاول الشوفينيون سلبه هويته والادعاء بانه جاء من وراء الحدود ، وهو ماتدحضه الوقائع التاريخية التي تثبت ان الكرد الفيليين يعيشون في موطنهم العراق وفي بلاد الرافدين منذ آلاف السنين ، وهم احفاد العيلاميين اصحاب اولى الحضارات السومرية، وقد قسمت بلادهم مثل بقية اجزاء كردستان بين العراق وايران وفق اتفاقيات دولية حديثة.
ظلت صورة البرزاني تحتل مكانها ، ولكن سارت الامور عكس ما مخطط لها، فانقلب نظام البعث على اتفاقية آذار،و بدأ النظام يستفز الكرد الفيليين وأخذ يضيق الخناق عليهم وشدد من حملات تسفيرهم الى ايران على دفعات ، حتى اضطرت قيادة الثورة الكردية الى مفاتحة الجهات الحكومية بهذا الشأن دون جدوى ، ولما حصل نظام صدام المقبور على وعود شاه ايران في اتفاقية الجزائر المشؤومة ، كشر النظام عن انيابه واساليبه الاجرامية ضد الكرد عامة ، فاخذ يمارس اساليبه الاجرامية المعروفة للاقتصاص من الكرد ، فاوغل في عملية التهجير والانفال واستخدام الغازات الكيماوية والمقابر الجماعية ، وراح الالاف من شباب الكرد ضحايا للتجارب الكيماوية والبايولوجية.
ظل الكرد ينظرون الى القيادة الكردية والى القائد البرزاني نظرة الرائد الذي يأملون ان تتحقق على يديه حرية الشعب الكردي وظلوا يعتزون باسم البرزاني حتى انهم كانوا يقسمون برأسه اعتزازا بمكانته ، وكان الكرد الفيليون لايتوانون عن دعم الثورة الكردية وقيادة البرزاني بالغالي والنفيس ، وقد ذكر المؤرخ جرجيس فتح الله اهمية الدعم الذي قدمه الفيليون رغم ظروفهم الصعبة.
واليوم يشعر الكرد بالاعتزاز إذ تحقق النصر على الدكتاتورية البشعة ويشعر الفيليون باهمية المكاسب التي بدأت تثمر ، وان احلامهم لن تذهب سدى ماداموا يهتدون بالمبادئ السامية التي حملها قائد الشعب الكردي الخالد البرزاني مصطفى.