الرئيسية » شخصيات كوردية » البارزاني قائد وقضية

البارزاني قائد وقضية

كتب الكثير عن هذا القائد العظيم وبمناسبة يوم رحيله لن أخوض في سيرته الحافلة بالبطولات والتضحيات والمنعطفات وهي بالمطلق إستثنائية قياسا بسيرة ومسيرة قادة حركات التحرر في العالم , فربما بارزان ومهاباد ونهراراس وسنوات المنافي الطويلة أبلغ مني بالتوضيح والبيان.
بيد أن ما لفت نظري وتختزنه ذاكرتي هو شهادة أحد الكتاب الكبار في الولايات المتحدة بعيد نكسة عام 1975.)أن البارزاني هو غاريبالدي وليس غيفارا) رداً على بعض الأنتقادات التي وجهت إليه ولنهجه في قيادة حركة التحرر الكوردية, وإثباتا لما ذهب إليه ذاك الكاتب الكبير والمنصف هي مؤهلاته الفريدة ونجاحه بإمتياز بخلق وحدة وطنية صلبة بين كل أطياف ومكونات ومذاهب الشعب الكوردستاني والأنطلاق من تلك الأرضية لقيادة نضال شاق وكفاح مرير من أجل حرية الشعب الكوردي وقضيته العادلة في مناخ دولي بالغ التعقيد كان الصراع بين القوتين الأعظم لإقتسام مناطق النفوذ في العالم قد بلغ ذروته وعلى حساب حقوق ومصالح الشعوب المضطهدة وحقها في تقرير مصيرها والإنعتاق من طغيان الأنظمة الفاشية وخاصة في منطقة الشرق الأوسط حيث كوردستان تشكل عمودها الفقري.
فالبارزاني الخالد الكوردي القومية قد آمن بامكانية التعايش والتآخي بين الكورد والعرب والترك والفرس على قاعدة الإعتراف المتبادل والعيش المشترك بسلام ووئام والمساواة بالحقوق والواجبات. وهو المسلم الذي كان يصلي في المسجد إحترم الكنيسة وقساوستها ورعاياها و الايزدية وشيوخها وهو السني المذهب والنقشبندي الطريقة نجح في إقامة أوثق الوشائج والعلاقات مع الشيعة عموما ومرجعياتها الدينية
)المرحوم آية الله الخميني وال الحكيم) خصوصا. اضف الى ذلك مؤهلاته الفائقة والفريدة بإتقان لغة العامل والفلاح والراعي وكبير القبيلة والطلبة والشباب والنخب السياسية في المدن على إختلاف إنتماءاتهم الفكرية والأيديولوجية حتى بات محط آمال وأحلام كل كوردي في جميع أجزاء كوردستان.
من نافلة القول أن القاعدة الثابتة في الحياة ومنطق التاريخ تجعل من الشعوب وأوطانها هوية لقادتها فالشعب الصيني والهندي شهادة تعريف لماوتسي تونغ والمهاتما غاندي . بيد أن البارزاني كان في مرحلة معينة من تاريخ الشعب الكوردي وعلى وجه التحديد بعد إنهيار جمهورية مهاباد استثناء من تلك القاعدة وذاك القانون بحيث باتت الامة الكوردية وكوردستان تعرفان بالبارزاني من خلال شخصيته الاسطورية مما جعله بمثابة هوية الكوردي داخل كوردستان المسلوبة وجواز سفره خارج الوطن . ويقينا لاقى الكثيرون مثلي المعاناة والصعوبة بتقديم نفسه والتعريف بقوميته دون ذكر اسم البارزاني أولاّ خاصة إذا كان المخاطب أجنبيا غربيا. لا أريد أن أعيش ويموت شعبي . بهذه العبارات البسيطة والبليغة في ان معا والتي رددها البارزاني على مسامع أحد مراسلي الصحافة الأجنبية لدى تقديمه كمامة للاتقاء من الغازات السامة والتي كانت الحكومة العراقية تنوي إستخدامها في عام 1974 فقد ربط مصيره بمصير شعبه حياة وفناءً وباتت حرية الشعب الكوردي وقضيته العادلة بمثابة قضاء وقدر له لا مفر منه ولا تراجع عنه. ولا شك ان مقولته تلك هي أبلغ اثراً بمعانيها ومدلولاتها من المقولة السائدة في تلك الحقبة التاريخية
)الثائر أول من يشقى وآخر من يسعد) وإنصافا للحقيقة فإن الشعب الكوردي بأسره وفي جميع أجزاء كوردستان بادلته هذه المعادلة الجدلية والقدرية فكان البارزاني الخالد قدره ومحط آماله وأحلامه في جميع المراحل والمنعطفات انتصاراً كان أو إنتكاسةّ فلا غرابة أن تودعه تلك الجماهير الغفيرة يوم رحيله وأن تتداخل وتختلط الدموع والحسرات بالهتافات والزغاريد وأن تجعل من يوم وفاته عيداً لميلاده.
اليأس والإحباط والركون التام للهزيمة والقبول بنتائجها وتداعياتها مفردات خلت من قاموس البارزاني النضالي ومسيرته الكفاحية على مدى عدة عقود من الزمن فكان يعتبر كل نكسة بمثابة كبوة فارس وإستراحة محارب فمن بارزان الى المنفى ومن المنفى الى بارزان ثانية والى مهاباد والى المنافي البعيدة تارة اخرى بعد مسيرة قلت نظيرتها في المسار والمحيط والظروف ليعود بعد طول غياب بطلا إسطوريا لقيادة أكبر وأشمل ثورة تحررية في التاريخ الكوردي وكأني به يجسد المثل الألماني الشهير (ليس الفخر أن لا نسقط ابدا إنما الفخر أن ننهض كلما سقطنا).
كركوك قلب كوردستان باتت هذه العبارة التي أطلقها القائد الخالد في وجه الوفد العراقي المفاوض إبان توقيع إتفاقية 11 آذار عام 1970 من المفردات المقدسة لدى كل أبناء الشعب الكوردستاني ومن المحرمات التي لا يجوز ولا يحق لكائن من كان التفريط بها أو المساومة عليها وفي هذا السياق يستحق الرئيس مسعود البارزاني منا جميعا كل التقدير والعرفان على موقفه القومي المسؤول كقائد لمسيرة نضال الشعب الكوردي بالرفض المطلق وتحت أي ظرف كان بالمساومة على قلب الكورد وقلب كوردستان.
في العشرين من آذار عام 1975 واثر مؤامرة الجزائر المشؤومة التي طعنت ثورة أيلول المجيدة في الظهر والقلب معا وقف قائدنا العظيم بكل شموخ وعنفوان قائلا) :إنني وحدي أتحمل كامل المسؤولية أمام شعبي وعن ما لحق به وبثورته).
فرغم أنه ضحى بالكثير من سمعته ورصيده الا أن هذا القرار والموقف هما من مقومات القادة العظام ,فعلى قدر أهل العزم تأتي العزائم فالهزيمة تولد دائما لقيطة يبحث لها عن أب بينما الإنتصار له ألف أب كما شاهدنا ولمسنا إبان إنجاز إتفاقية 11 آذار . وربما كان الزعيم الراحل جمال عبد الناصر هو الوحيد من بين قادة المنطقة الذي إتخذ هذا الموقف الشجاع في أعقاب هزيمة جيشه أمام اسرائيل في حزيران عام 1967.
حسب إعتقادي وتصوري المتواضعين بان الحاسة السادسة وإستشراف افاق المستقبل وتداعيات الاحداث كانت من اقوى حواسه فقوله بعد انهيار ثورة أيلول بان أياما سوداء تنتظر الشعب الكوردي فإن مآساة حلبجة الشهيدة وعمليات الأنفال البربرية وإبادة آلاف البارزانيين وحملات الترحيل القسرية وتدمير الحجر والشجر في كوردستان هي من أكثر المحطات سودا ومأساوية في تاريخ الشعب الكوردي.
عود على بدء كما اشرت في المقدمة دأب البعض من الكورد خاصة بالبحث والتنقيب كعالم آثار في طيات تاريخ هذا القائد الإنسان عساه يعثر على ثغرة هنا أو هفوة في مكان ما حيال قضية معينة او موقف محدد متجاهلين أن أولئك النوع من القادة هم عظماء حتى في أخطائهم وهفواتهم فالعظمة والكمال لله وحده ولكنني أجد ان قول الشاعر الجواهري بحق الزعيم جمال عبد الناصر:
لا يعصم المجد الرجال وإنما
كان عظيم المجد والاخطاء
ينطبق على البارزاني الخالد الى حد كبير.
تشرفت بلقاء البارزاني الخالد آواخر الشهر العاشر من عام 1972 بعد إلقاء نظرة على المكان والموقع الذي تعرض فيه لمحاولة الاغتيال الآثمة والمعروفة بمؤامرة الملالي وإطلاعي من سيادته على تفاصيلها ومراحل وادوات تنفيذها والعوامل التي اسهمت في نجاته منها نظرت الى هامته الشامخة شموخ جبال كوردستان بأعصاب متوترة وحواس مشدودة ورددت بعفوية بالغة قول الشاعر:
وقفت وما في الموت شك لواقف
كأنك في جفن الردى وهو نائم
وفي التاسع والعشرين من حزيران عام 2001 دخلت كوردستان مع أولادي وأحفادي فرغم أنها كانت محررة فيها البرلمان والمؤسسات الحكومية وعليها يرفرف علم كوردستان إلا أنني رأيتها حزينة على فقدان فارسها وبطلها لذا آليت على نفسي أن لا أقابل أحداً أو القيام بأي عمل قبل زيارة ضريحه وقراءة الفاتحة على جثمانه الطاهر فقبره البسيط والمتواضع الذي لا يختلف قيد شعرة عن قبر أي شهيد من بيشمركته الميامين أوحى لي مرة أخرى وأخرى بإنه كان عظيماً في حياته ولكنه أعظم في مماته لذا إستحق منصب القائد وجسد القضية بجدارة وإمتياز.