الرئيسية » مقالات » هل من تنسيق بين الخطة الأمنية وعملية المصالحة الوطنية؟

هل من تنسيق بين الخطة الأمنية وعملية المصالحة الوطنية؟

تواجه المجتمع في العراق مشكلات كثيرة وكبيرة تتوزع على جميع مجالات الحياة والجبهات والمستويات, وهو قادر دون أدنى ريب على النهوض بها ومعالجتها لو توفرت لدى النخب الحاكمة من مختلف الأحزاب والقوى السياسية إرادة فعلية لمعالجتها, إذ أن الدلائل كلها تشير حتى الآن إلى إنها لا تزال مفقودة. ومن المؤسف والمؤلم حقاً أن يكون الإنسان العراقي هو ضحية هذه الإرادة القاصرة عن الاتفاق الشجاع والمسؤول. إن الاختلاف والصراع ليس نابعاً عن مجرد رغبات فحسب, بل عن مصالح يخشى كل طرف على ضياعها ويعمل على “انتزاعها” بغض النظر عن العواقب المحتملة, في وقت تتوفر إمكانية للحوار الجدي والاتفاق على التنسيق والتوافق في المصالح.
يمكن للخطة الأمنية أن تنجح جزئياً في الحد من القتل والتخريب والتدمير, ولكنها لن تكون قادرة على إيقافها كلية ما لم تحقق على الجبهة الثانية, الجبهة السياسية, خطوات فعلية نحو المصالحة الوطنية التي تستوجب جرأة حقيقية لاتخاذ إجراءات ناضجة ودافعة للعملية السياسية. وما لم نحقق الخطوات المطلوبة على الجبهتين السياسية والأمنية لن يكون في مقدور الحكومة تحقيق خطوات ملموسة على الجبهة الاقتصادية ومكافحة البطالة وتحسين مستوى حياة ومعيشة السكان. إن المجتمع يقف أمام حزمة واحدة من السياسات والإجراءات التي لا يمكن ولا يجوز فصل بعضها عن البعض الآخر.
إن التشبث والتخندق الطائفيين الراهنين لن يعالجا المشكلات القائمة بل تزداد تعقيداً. كما أن الإصرار على سياسات وإجراءات اتخذت في فترة الحاكم باول بريمر لن يساعد على السير خطوات إلى أمام. ولهذا أجد لزاماً أن يكون الإنسان صريحاً مع حكومة السيد المالكي ومع كل القوى الداعمة له والمؤيدة لحكومته والمشاركة فيها. والصراحة في هذا الموقع تنفع الجميع وتساهم في وضع النقاط على الحروف لكي تقرأ المشكلة بدقة ويجري التحري عن حلول مشتركة. سأحاول في هذه المقالة أن أطرح مسألتين من المسائل التي يمكن أن تقلص الصراعات وتدفع باتجاه الحلول السلمية للمشكلات القائمة.
1) حين تسلمت القوى الكُردستانية الحكم في إقليم كُردستان واجهت مباشرة موضوع الجماعات التي تعاونت مع حزب البعث والحكم الدكتاتوري في الحرب ضد الحركة التحررية الكُردية المسلحة, تلك الجماعات العشائرية التي ألحقت أضرارً غير قليلة بقوات الپيشمرگة وبالحركة الوطنية الكُردستانية. وكانت تعمل ضمن من أطلقت عليهم الحكومة بـ “الفرسان”, في حين أطلق عليهم الناس اسماً آخر كانوا يستحقونه في حينها. كان الموقف الذي اتخذته قيادات الأحزاب الكردية يعبر عن وعي ومسؤولية عاليتين جداً وتحتاجان إلى جرأة فعلية. لقد احتضنت الجميع في ما عدا قلة قليلة استبعدتهم من العملية السياسية ومن الاحتضان, ولكنها لم تعرضهم للعقاب, بل إنها, حتى أولئك الذين كانوا في صفوف الحركة الديمقراطية الكردية وخانوا الأمانة بهذا القدر أو ذاك لم تعاقبهم على فعلتهم بل احتضنتهم ومارست المقولة الشهيرة للراحل عبد الكريم قاسم “عفا الله عما سلف”. واستطاعت القيادة الكردستانية المشتركة عبر هذا الإجراء العقلاني أن تعزز السلم الاجتماعي في المجتمع الكردستاني وتحقق الهدوء المناسب للبناء الاقتصادي والتغيير الاجتماعي بعد أن توصلت منذ العام 1998 إلى اتفاق أساس ينص على معالجة المشكلات والخلافات المحتملة بين الحزبين الرئيسيين بالطرق السلمية التفاوضية المسؤولة ووفق آليات ديمقراطية. فهل يمكن على صعيد العراق الاستفادة من خبرة الإقليم؟ أرى إمكانية وضرورة ذلك في هذه المرحلة الحرجة التي يمر بها العراق, إذا ما أدركنا أهمية تحقيق السلم الأهلي الاجتماعي بين أهلينا من مختلف القوميات والأديان والمذاهب والاتجاهات الفكرية والسياسية.
وفي العراق أُسقط البعث الحاكم وألقي القبض على جمهرة من كبار المسؤولين وهم يحاكمون أمام القضاء, كما يمكن تقديم مجموعة أخرى مسؤولة عن الأعمال الإجرامية التي ارتكبت في ذلك العهد. إذ أن محاسبة من تلطخت أيديهم بالدماء أمر ضروري. ولكن هل هذا يحتاج إلى قانون نطلق عليه بقانون “اجتثاث البعث”؟ أي هل من مصلحة العراق أن يلقي بكل البعثيين في قدر واحد, أم يفترض التمييز بين هؤلاء الناس الذين التحقوا بالبعث تحت ظروف معروفة للجميع, إضافة إلى أن لهذا البعث امتدادات في الدول العربية؟ وهل حقاً يمكن اجتثاث فكر ما في العالم كله بالقوة العسكرية وبإجراءات ردعية, أم يفترض ان تعالج الأمور بالحكمة وبالصراع السلمي والديمقراطي وعبر التثقيف؟ أرى ضرورة إلغاء هذا القانون واعتماد الأسس المبدئية في مقاضاة المسؤولين عن العمليات الإجرامية والعفو عن الباقين ودفعهم للمشاركة في الحياة العامة. إن هذا يساعد على الفرز المناسب واحتضان الناس من جديد بعد مرور أربع سنوات على سقوط الدكتاتورية في العراق. إن ما أقوله ليس حاجة كمالية, بل حاجة ضرورية وملحة لكي يتسنى لنا عزل وتحييد وكسب من هو قد اصطف مع القوى المشاركة في العمليات العسكرية التي تمارس اليوم في العراق تحت اسم “المقاومة”.

2) إن الإصرار على إقامة الفيدرالية في الوسط والجنوب بحجة وجودها في الدستور ليس بالسبب الكافي على الإصرار الذي يكلف المجتمع المزيد من التضحيات. ويمكن أن تدرس هذه المسالة في فترة لاحقة وبعد أن تهدأ الأمور وتعود الثقة المفقودة وتتوطد العلاقات وتتعزز روح الحوار السلمي والديمقراطي بين القوى والأحزاب السياسية المختلفة. لا شك بأن علينا أن نحترم رأي الأكثرية في ظل نظام ديمقراطي مستقر حيث وافقت على مسالة الفيدراليات في الدستور الدائم. إذ بدون ذلك الاحترام ندفع إلى بروز اختلالات كبيرة في ممارسة الديمقراطية. ولكن علينا أن نتذكر بأن قراراً يصدر عن أكثرية غير واعية ومثخنة بالجراح النفسية والعصبية يمكن أن يقود إلى خراب ودمار شاملين أو يقود البلاد إلى جهنم ما لم تتنبه القيادات السياسية الواعية والمجربة إلى المطب المحتمل وتتجنب السقوط فيه.
الفيدرالية حل سليم بالنسبة إلى إقليم كُردستان الذي يحتضن القومية الثانية في البلاد, القومية الكردية إضافة على الكلدان والآشوريين والتركمان. وهي يمكن أن تكون مفيدة للقم العربي من العراق أو أي صيغة أخرى يتم الاتفاق عليها بين العرب من شيعة وسنة. وهو الذي يحتاج إلى عناية في المعالجة.
إن المصالحة الوطنية تستوجب تنازلات متبادلة بين الجماعات الواسعة في المجتمع عندما تقف وجهاً لوجه لتفوت الفرصة على من يريد الصيد بالماء العكر. من هنا جاءت رسالتي إلى السيد عبد العزيز الحكيم متوخياً فيها الدفع باتجاه تأجيل ما يمكن تأجيله لظرف أكثر هدوءاً وأكثر قدرة على التحكم بالأعصاب الثائرة والتدخلات الإقليمية والدولية. ليس صحيحاً الوصول إلى غاية ما, حتى لو كانت نبيلة أو حتى لو كانت الأكثرية معها, إن اقترنت باحتمال المزيد من الضحايا والخراب والحرمان وهجرة المزيد من البشر, كما نحن عليه الآن, بل يمكن تحقيق ذلك في ظرف أفضل وأكثر موضوعية وعقلانية.

نحن بحاجة إلى اتخاذ قرارات صعبة وتحتاج إلى جرأة لتجنيب الشعب العراقي بكل مكوناته المزيد من المآسي, ولكنها ستكون قرارات نافعة وقادرة على معالجة الأمور. إن هاتين المشكلتين اللتين أشرت لهما إنما هما نموذجان لمشكلات أخرى يمكن اتخاذ القرارات بشأنها والاتفاق عليها مع أطراف الخلاف الأخرى.
إن لم يكن هناك من يحاسبنا على الضحايا التي تسقط يومياً حتى في ظل تطبيق الخطة الأمنية, فلا بد من أن نقف أمام ضمائرنا لتوجه عملنا صوب ما ينفع كل العراقيات والعراقيين, وما يعزز روح المواطنة المتساوية والمشتركة في السراء والضراء.

22/2/2007