تأزم العلاقات بين اليهود والعرب
في مثل هذا الجو المتسامح أيضا كنا نلعب مع أولاد باهيزة، محمد وحسنة ومع دحام ابن أخت باهيزة الذي اعتاد أن يأتي في أيام السبت ليسأل إذا كنا نريد أن “يِعْلِگ لمبة التبيت؟” (يشعل موقد “التبيت” إذا انطفأ. والتبيت هو طعام اليهود يوم السبت المكون من دجاجة محشوة بالتوابل والحمص واللحم، يوضع على نار خفيفة من مساء الجمعة والى ظهر يوم السبت بطول الليل وذلك لأن إشعال النار محرم أيام السبت عند اليهود)، أو لإشعال قنديل السبت ليضيء. وكان هؤلاء الصغار يأتون لمساعدة والدتي وخاصة في يوم السبت بعد ذهاب إستير في بعض الأحيان إلى عائلتها لعطلتها الأسبوعية. كنا نناديهم إذا انطفأ قنديل يوم السبت أو موقد (لمبة) “التبيت” ليشعلوها. ورويدا رويدا أخذ يشوب صداقاتنا شيء من البرودة. شعرنا بها للمرة الأولى عندما انقطع دحام عن المجيء يوم السبت والطرق على الباب: “أعْـلگلكم اللمبة؟” ويخرج غانما. رأيته ذات مرة من النافذة يسير في احد أيام السبت قرب دارنا وينظر إلى بابنا بخوف وحذر، ناديناه: “دحام وينك اشو مدنشوفك، هاي وين لين؟” رفض الاقتراب منا، قلنا له: “دحام! اشصار؟ شكو؟ مو كنت اتحبنا؟”، قال وهو يجتهش بالبكاء والسائل اللزج الأخضر يصعد وينزل من منخاريه، قال بخوف: “إذا أطب عدكم ماتگتلوني (إذا دخلت بيتكم ألا تقتلوني) ما تذبحوني؟” قلنا له بتعجب: “منو گلك نذبحك؟ وليش نذبحك!”، أجاب والدموع في عينيه: “الفتوة! گالوا لي لا تطب ببيوت اليهود، ترى أيذبحوك، گالوا هذوله اليهود يذبحون ولاد الاسلام بالعياد مالهم!”. قالت الطباخة استيغ (استير) من محلة ططران والتي كانت تساعد الوالدة في تدبير البيت: “وي غماد! وي أبيل (الويل والثبور) وأسود على الفتوة القيعلمونو هكيذ تعلوم أسود ومصبوغ، سِـقْـطونوا (افسدوا) الولد الخايب علينا وسمّـمونو العقلو! أش بعد يطلعون (يخترعون التهم) علينا؟ دحّام! لا تخاف، ليهود ميذبحون احد!”. ثم وافق أخيرا على أن “يطب ويعلگ اللمبة” (يدخل الدار ويشعل الموقد). خرج دحام من دارنا وقد أضاءت وجوهه ابتسامة عريضة بعد أن غسلت استير وجهه ويديه بالماء والصابون وملأت أمي جيوبه بالملبس والحلقون والبعابع (الكليچة) وهي توصيه: “سلمنا على خالتك باهيزة أم محمد، اشتقنا لها”.
ثم حدثت حادثة أخرى تصاعدت فيها مشاعر الحذر والخوف من المستقبل. ففي احد أيام السبت التالية خرجتُ مع أخي البكر جاكوب، هذا الذي كان فخر العائلة، فقد أستطاع أن يقرأ كتاب “السيلابير” للغة الفرنسية للصفوف الابتدائية في مدرسة الأليانس وهو في سن الرابعة، وكان يتنافس مع صديقه أيلي خضوري (كدوري) الذي أصبح فيما بعد أستاذا للعلوم السياسية في جامعة لندن، على الأولية في صفهما. خرجنا للتنزه ولرياضتنا الصباحية وهي لقط التمر المتساقط من النخيل في بستان مامو الذي كان ما زال في أوج ازدهاره بسواقيه التي تسقى بالمضخات وأشجار البرتقال والنومي (الليمون) الحلو والحامض تنمو تحت ظلال النخيل الباسقة التي تحنو عليها بسعفاتها الوارفة. خرج علينا ولـد حافي القدمين في سن السابعة بين سـن أخي وسني وصاح: “ولكم يهود! ولد الكلب وين رايحين؟ لأنعل ابوكم يا بو دينكم، أطلعوا من هنا!” انحنى ليلتقط حجرا ليضربنا به، بادرته بحجر على ظهره ففر “يعوي” وهو يكفر بالدين ويهدد. تهيأ أخي للهرب فلما رآه قد فر هاربا قال متعجبا: “هايي أشلون مخفت مِنّو؟ اشلون ما نِهْزَمْت؟” قلت لأخي: “ليش اخاف منوّ؟ نحنا ثنين ونخاف منو وهوى ويحد؟ معينت أشلون أنهزم!” خجل أخي الذي تربى في محلة يهودية في بغداد حيث يصول فيها أولاد المسلمين ويجولون شتما وضربا بأولاد اليهود الذين اعتادوا الفرار واللجوء إلى دورهم اتقاء للشر، وإلا صاح الولد المسلم إذا تجاسر ورد عليه “يهودي جسر وعركاوي” الصاع صاعين: “يا امة محمد أيهودي كفر بديني!” وهكذا يتلقى اليهودي درسا لا ينساه مدى الحياة في آداب الذمة وآداب معاشرة المسلمين والخوف والحذر و”كِفْيانْ الشر” إذا سبه مسلم أو ضربه. ثم قال لي بعد أن أصبحت الاعتداءات على اليهود تتكرر وتزداد عنفا: “لا بد لنا من تعلم المصارعة للدفاع عن أنفسنا”. وفي اليوم التالي جاء بكتاب “المصارعة الحرة” لعباس الديك المصارع العراقي، كان قد أشتراه من مكتبة المثنى. قيل عن عباس الديچ هذا انه فاز في مباراته مع بطل ألمانيا في المصارعة، فقد روى أصدقاؤنا الأساطير عنه وعن قوة وبطولة “عباس الديچ” وفنونه في المصارعة الحرة. تعلمنا من الكتاب “فك قبضة الياقة” بأن نعصر على إبهام قبضة الخصم لشل قوته “وفك الياخة” (ياقة)، والضغط على كف اليد والساعد لشل مقاومته كما يفعل رجال الشرطة أثناء القبض على المجرمين، وتعلمنا ما سميناه “ضرب المخيط” وهي مسكة مؤلمة توضع فيها إصبعين بين أضلاع الخصم لتشل حركته، و”الكـلابند” وهو وضع القدم وراء قدمي الخصم ودفعه إلى الوراء فيصرع على ظهره بسهولة. كانت هذه التدريبات قد عززت ثقتنا بالنفس فلم نعد ”ننهزم لأول مسبة وكفر بدين اليهود”، وصرنا نشترى “الشر بفلوس” لنجرب على الخصوم مسكات “عباس الديج”، حتى قال الوالد: “تغى لا تسيغون مثل العريضى بدرب الاسلام، ليطلعكم ويحد حامض بولة، ويهبشكم!” (لا تصبحوا معاكسين في درب المسلمين، فقد تلاقون مسلما سريع الغضب ويذيقكم الأمرين).
وفي البتاويين لم تكن تهمة “أيهودي كفر بالدين” سارية المفعول. كنا أصدقاء “روح بالروح”، وإذا تخاصمنا مع المسلمين، نتبادل مسبة بمسبة وكفخة بكفخة، أو چلاقة بچلاقة، وتنتهي المشكلة. أما في محلات مثل الست هدية وعباس أفندي والمهدية والفضل والكرخ وغيرها من المحلات التي تسكنها الأغلبية المسلمة، فالويل لليهودي الغريب عن المحلة، فليس له “حرمة دفاع المسلم عنه” التي تمتد إلى “سابع جار”. فإذا جرؤ مثل هذا اليهودي على رد المسبة بمسبة، فسرعان ما يصيح المسلم: “يا امة محمد! أيهودي كفر بديني!”، وتعال يابا خلصنا؟” إذ كثيرا ما تنتهي المسألة “بفشخات” يسيل فيها الدم، ويؤخذ الضحية إلى “القلّغ” أي مركز الشرطة، وهناك “لازم تلَعّـِب إيدك” (تدفع الرشوة) وتسوّي واسطات، لكي تخلص من الورطة التي وقعت فيها. كنا أخوتي وأنا “ولاد ما نقعد على أرض الله دقيقي راحة” كما كان يقول الوالد. ولكي تتخلص الوالدة من “وكاحتنا ولغاوينا” كانت ترسلنا في العطلة الصيفية عند خالي حاييم او عمتي هيلة اللذين كانا يسكنان في محلات سكن تقطنها غالبية مسلمة متعصبة.
أما المرة الأولى الذي وقفت فيها على معاملة المسلمين لليهود في بغداد القديمة فقد كانت عندما أرسلتني والدتي لتتخلص مني إلى بيت عمتي هيلة القاطنة في محلة “عباس أفندي”. وقفت على عتبة الدار فجاء ولد صغير لابسا دشداشة وحافي القدمين وقال لي: إيهودي! شِتْسوّي (ماذا تفعل) واقف هنا؟”، قلت له كما اعتدنا أن نجيب في البتاويين على مثل هذا السؤال: “امشي سرسري! لانعل ابوك يابو الجابك (ومن ولدك)”، وبكل جسارة دخل الولد دار عمتي هيلة وصاح: “هذا إبنكم سبني، لازم أبسطه (أضربه) وأأدْبَه!” قالت له عمتي: “ميخالف ابني مشيها، كل المسبات عليّا!”، أجبتها بغضب: “لا علينو، علينو، أنعل أبونو يابو الجابو!”، صاحت عمتي: ابدالك إبن اخوي ابراهم شالوم، اسكت بقى، ليش هوني البتاويين، فتغيد تبلينا أببلوه؟”. قدمت الملبس للولد وقالت له: “مشيها ابني، ميخالف، هذا جاي من البتاويين، هناك صايرين اليهود عشره ويا الاسلام مو مثل هنا!”.
وفي مناسبة أخرى لمثل هذا الجلاء القسري من بيتنا في البتاويين لترتاح الوالدة من “وكاحتي”، كنت واقفا في ساعات الصباح على عتبة دار خالي حاييم في “الست هدية” أرقب “الجايين والرايحين”، فاذا ببنت صغيرة في العاشرة من العمر جاءت تتحرش بي: “ايهودي گواد، ابن الكلب! أش واگـف تسوي!، تتفرج على النسوان؟!”. ظننت أن هذا “العگد” مثل البتاويين، مسبة بمسبة وتنتهي المشكلة، قلت لها باللهجة الإسلامية التي أتقنتها في مدرسة السعدون: “امشي گرعا (قرعاء)، انعل ابوچ يا بو الخلفچ!” وإذا بها “تصفق الصوت” بأعلى صوتها وتضرب رأسها صارخة: “يا امة محمد! إيهودي يگولّي گرعا!” (يهودي يقول لي قرعاء!) وإذا “بفزعة” تقوم على قدم وساق، وينسل الأولاد والشباب من كل حدب وصوب وهم يصرخون: “ولچ وينا اليهودي، لنلعنلچ دينه ووالْـدِيه!”. أخذت الحجارة والطابوق تنهال والضرب “بالتواثي والمگاوير” تتلاحق على الباب حتى كاد أن يتحطم. أغلقت الباب بسرعة وهرعت بلانش وإيفلين وجاكلين بنات خالي وأقفلوا الباب الذي كان يدوى ويهتـز مع كل طابوقة ترمى عليه فدعمناه بتخت ثقيل، وصعدنا إلى السطح والبنات يبكين ويولولن: “وي غماد! وي ابيل! ابدالك سامي اسويت (ما عملت)! ساعة السودا ولا طلعت بغا (خارجا)! ليش قتخمل (أتظن) هوني مثل البتاويين؟ هوني يذبحوك والله!”. وبعد ساعة هدأ ضرب الحجارة وساد السكون! جاء خالي حاييم وزوجته وموريس ابنهما البكر وأزاحوا أكوام الحجارة المتراكمة وسألوا “أش دعوى؟ أش ساغ؟”، أخبرتهم بحادثة “الگرعا” وسبها لي وصراخها: “يا امة محمد!”. قالت سليمة زوجة خالي: “لكون تطلع لدغب بعد، تغا والله يقتلوك، غدا من الصباح ترجع إلبيتكم، بيش فتغيد تبلينا؟ا”. وبعد أن غربت الشمس وحل الظلام، أردت أن أتنفس هواء نقيا باردا بدل هذا الهواء الحار الخانق في البيت ونظرات الاتهام واللوم تلاحقني. وقفت على العتبة، فإذا بالفتاة تأتي مسرعة مع والدها: “يابا! هذا هو ليهودي الگلي گرعا!” (يا أبي، هذا هو اليهودي الذي قال لي: قرعاء). صاح والدها وقد تهدج صوته من الغضب: “ولك گواد! ولك أنت گلتلها البنتي گـرعا؟” أدركت بالغريزة أنني لو دخلت مسرعا إلى البيت لعلم بأنني المعتدي، وقفت برباطة جأش وقلت له: “لا! مو آني، هذا واحد من الگرايب (الأقرباء) سمعنا اشگال (ماذا قال) للبنت، بسطناه (ضرناه)، ورجعناه البيته!”. اخرج والدها سكينا من عبه وقال لي، اسمع ولك يا خَـلـَگ (خَـلِـق) إيهودي، والله والله! لو انته گايلها گرعا جان ذبحتك هسا!”. أجبته: “لا عمّي! مگلتلك إحنا ضربناه ورجعنا البيته بالعلوية”. وقال والدها: “زين سويتو رجعتو الأبن الكـ..ـة لمهجومه (الى بيته الخرب) كان هسا ذبحته!”، ثم أخذ بيد ابنته “الگرعا” وهي تشك فيما قلته وتتلفت لتتأكد من صدق كلامي، فجرها والدها من ذراعها وذهب. دخلت الدار وأنا أتنفس الصعداء ولا أكاد أصدق بنجاتي. ومنذ ذلك الحين وبعد “الهرجة” التي عملتها عمتي هيلة وسليمة زوجة خالي حاييم، تابت أمي من إرسالي “للتصييف” في بيوت أقربائنا في مناطق تسكنها الأغلبية المسلمة وأرسلنا الوالد بدلها لنتعلم اللغة العبرية بعد أن حرّمت وزارة التربية والتعليم تدريس اللغة العبرية، إلي الكنس اليهودية القريبة من دارنا مثل “كنيس أبو داوود” وهو من أقربائنا وكنيس مسعودة شمطوب، وأخيرا إلى كنيس مئير طويق قرب دارنا بعد أن تمّ بناؤها.