انتقالنا إلى محلة البتاويين
استبشرنا بانتقالنا عام 1936 إلى دارنا الجديدة التي بناها والدي من مهر أمي بعد أن باع حصتها في بيت جدي بسبب شق شارع الملك غازي الجديد. انتقلنا إلى دارنا الجديدة التي خططها الوالد وأشرف على بنائها بنفسه أمام بستان مامو في محلة البتاويين، وسمي شارعنا فيما بعد بشارع الرافدين وكانت أختي أسبرونس كلما دخلت الدار تذكر رقمها لنستطيع تذكر العنوان للعودة إليه بمساعدة “أولاد الحلال” إذا تاه أحدنا في محلتنا الجديدة وتقول باعتداد لتمكنها من القراءة: “رقم الدار، بستان مامو، 6 د / 13 / 1″، ثم تقرأ ما كتب على تاج الباب: “سـنة 1936″، وكانت دارنا من أوائل الدور التي بنيت في بستان مامو بالبتاويين، تحتوي على 5 غرف كبيرة وغرفتين صغيرتين فوق المرافق وغرفة الكيل (المخزن) سكنت في إحداهما جدتي بعد أن تأرملت، وتتوسط الدار حديقة داخلية كبيرة. وفي أيام العزّ هذه كان أبو علوان بائع الحليب الذي كان يسكن في كوخه الطيني أمام بيتنا ويعمل أيضا “بستانجيا” عندنا، يأتي ببقراته إلى دورنا ليحلب البقرة أمامنا، فقد كان الباعة يحملون بضاعتهم إلينا، إلى أن شـيدت أمانة العاصمة سوقها الحديث الذي بني أمامه كنيس “صلاة مئير طويق” فأصبحنا نذهب إلى السوق. وكانت زوجته أم علوان تساعد والدتي في بعض أمور المطبخ والتي كانت والدتي “المدامة” مدرسة اللغة الفرنسية سابقا و”التندعي بيها” (فخورة معجبة بنفسها) “تستنكف” العمل في المطبخ وحتى الدخول إليه. وكانت باهيزة أم محمد زوجة أبو علوان الثانية خبّازة العائلة. وكانت الوالدة تأخذني إلى تنور باهيزة قرب كوخ أبو علوان وزريبة بقرتيه لنشتري الخبز. وعندما كانت باهيزة ترانا مقبلين من بعيد كان وجهها المستدير “كالقمر ابو ارباطعش” يضيء بابتسامة رائعة. كانت صديقة حميمة لوالدتي أكثر من أم علوان، وكان الوالدة ترشدهما في تربية الأولاد ومعالجة أمراض الأطفال وتزودهما بما يزيد من الملابس والطعام عن الحاجة، وترسل لهما في الأعياد الحلوى والبخشيش. فإذا رأتنا صاحت باهيزة: “صلوات على النبي صلوات! سامي بيك وأمه المدامة جايين خطّار عدنا!” ثم تردف قائلة: “صلوات على هل عيون السود، صلوات! والله لأخبزلك حنونة (قرص صغير يخبز للأطفال خاصة) تلوگ الحلگك”. وتأخذني بين ذراعيها لأري كيف “تستوى الحنونة” ورائحة الخبز الناضج تعبق من ثيابها فأشعر بالحب والعطف يغمرانني وأنا بين ذراعيها، فأهنأ من حرارتين، حرارة التنور (الفرن) وحرارة كلمات الترحاب بنا وما تبديه من حب وحنان نحوي وأنا بين ذراعيها وهي تقبل وجنتيّ. ثم تناولني الحنونة اللاذعة بحرارتها ورائحتها العطرة وهي تقول بحب وعطف: هاي الحنونه لعيون سامي”، فأشعر بأني طفل مدلل لوالدتين تحبانني وتعطفان عليّ.
وكانت هناك امرأة أخرى معجبة “بالعيون السود”، جارتنا راشيل ام حسقيل مدرسة أختي كلادس، فما أن تراني ألعب خارج الدار حتى تطلب من كلادس: “ابدالك لزمينو قداغيد أبوسو” (فداك، امسكيه لأني أريد تقبيله). لا أدري لماذا كنت أحب قبلات باهيزة الرقيقة برائحة الخبز الحار في ثيابها السوداء الصوفية وغطاء الرأس الأسود المعقود على رأسها، ولماذا يصيبني القرف من عطر “القلونيا” الذي كان يفوح من الست راشيل بثيابها الأوروبية. هل كان بسبب اعتدادها بنفسها كمعلمة تحصل على كل شيء بالأوامر، كما كان يفعل والدي؟ هل بسبب قبلتها الرطبة المغتصبة الجسورة تأخذها غصبا بدون “حنّـونة” ودون ترحاب يفيض من القلب. كانت تناديني “سامي تال (تعال) دبوسك!” فأرفض فتطلب من أختي كلادس “أبدالك صيدينو دبوسو”، وتنصاع أختي كلادس لأوامر معلمتها، وتمطرني الست راشيل بالقبلات الرطبة، فأفلت من يديها، حتى ضجرتُ وصحتُ بها ذات يوم غاضبا وأنا امسح مكان القبلة: “ولك إنتِ متستحين تتحاغشين بالغجيل؟” (ويلك ألا تخجلين من التحرش بالرجال؟)، ضحكت الست راشيل ضحكة عالية، “هذا اشلون ولد وكيح (جسور)، ابن أربع سنين وشيّف نفسو غجال (رجل) !”. ثم تروى لزوجها وللأصدقاء ما قلته لها وهم “يغوصون” من الضحك وتصبح هذه النكتة مدار حديث الرجال والنساء في حَـيّـنا لمدة أسابيع. ومنذ ذلك الحين صار كل من يراها من المعارف، يقول لها ضاحكا: “ويلك! ألا تخجلين من التحرش بالرجال؟”، وهكذا تأدبت وتابت الست راشيل من تقبيل “أبو عيون السود”، بعد أن كانت تظن أن لها الحق في القيام بكل ما ترغب فيه عن طريق الأوامر وبدون مقابل، لا لشيء سوى لأنها معلمة. عندما سمعت عمتي مريم وقد جاء لزيارتنا من العمارة، ما قال “أبو عيون السود” للست راشيل، قالت: “إي، عيونو السامي حلوة، عندو عيون مال عِـغْبِـي (الإعرابي / البدوي)”. وعندما سمع أخي البكر ما قالته العمة، صاح: “أي والله! لَكَنْ (إذن) من اليوم انسميك أبو عيون العِغْبِـي”، وقال لأصدقائه فرحا: “من اليوم وغادي انسمينو السامي أبو عيون العِغْبِـي!” ومنذ هذه الحادثة بدأ الشقاق بيني وبين أخي البكر، فقد أفسد علي دائما فرحة ترحاب الفتيات والنساء بالعيون السود. وبقي يعدد “أصيات” (جمع صيت) (ألقاب) “الشرف” التي منحها لي حتى بعد أن سافرنا إلى لندن للدراسة لنيل لقب الدكتوراه من جامعة لندن. ثم أدركت فيما بعد بأن هذه عادة عراقية يتمتع بها الكبار بإغاظة الصغار وتحقيرهم لكي يشعروا بسطوتهم وجبروتهم على من هو أصغر منهم. واليوم يطبق العراقيون هذه العادة على الأقليات الأخرى، يطبقها السنة على الشيعة وبالعكس والعرب على الأكراد للغض من مكانتهم والتفتيش عن المثالب والعيوب في الآخرين ويزرعون الشقاق الذي ورثوه من سياسة الغزاة: “فـَرّقْ تَسُـدْ”.
هذه الصداقات الحميمة في البتاويين استمرت سنوات قليلة. وصرنا نحن أطفال اليهود نتكلم اللهجة الإسلامية بطلاقة مما اكسبنا ثقة بالنفس وشعورا بالمساواة. كان عزرا اليهودي الساكن في شارع في ظهر شارعنا رمزا لهذه المساواة. يلبس الدشداشة ويشد وسطه بحزام مثل صغار أولاد العرب من الطبقة العاملة وكان يلعب “الدعبل” و”الچعاب” و”الطره بلبل” مع كبار الأولاد المسلمين ويتبادل معهم السباب والضرب دون مراعاة لأحد. كان إذا “زاغله” (خدعه) أحدهم، يضربه على قفاه ويسبه بقوله: “ولك أخّ الكـ..ـة تزاغلني!”، فلا يرد عليه خصمه بمسبة بل يعتذر. مـّّر أحد “المعدان” من سكان “ورا السـدّة” وشاهد ما لا يستطيع عقله استيعابه، يهودي واسمه عزرا يضرب أولاد المسلمين ويشتمهم دون أن يردوا عليه ويعلموه درسا في آداب الصحبة وحسن المعاشرة مع المسلمين. ثارت نخونه البدوية وصاح متحرشا بعزرا: “ولك! انته شـسمك؟” فَـهِـم عزرا بأن هذا الغريب عن “العگـد” (المحلة) يتحرش به ويريد اختلاق سبب لضربه وتأديبه. رمى عزرا الكعاب من يده بغضب وانتصب واقفا ورفع يديه وأبرز صدره ونطح به خصمه وصاح به غاضبا: “ولك آني إسمي <عـِذْرا>!” فترنح الخصم لهذه النطحة المفاجئة وتراجع قليلا وخاصة عندما رأى أنه لا يوجد من بين المسلمين من “يَتفزّعْ لَهْ” وأجاب مفتشا عن طريق للتخلص من هذه الورطة التي زج نفسه بها، فقال: “ها زين، بس أگول! (طيب، أردت الاستفسار فقط!) وذهب لشأنه قانعا من الغنيمة بالهزيمة. ولا يعلم هذا القانع بالهزيمة أي مغنم غنم. فلو واصل هذا “الخايب” “العركة”، لتلت نطحة الصدر “براسية” (نطحة رأس أو كلّة) هائلة ولا نطحة زيدان لاعب كرة القدم في منتخب فريق فرنسا، ولسقط على إثرها مضرجا بدمه فلا يخرج من مستشفى “المجيدية” بأقل من أربع “قطبات” في جبينه.
كان لعزرا هذا خمسة أخوة وكل واحد منهم “مگطّع ديس أمّه”، و”يودي الشيطان للشط ويرجعه عطشان”. كان الباعة و”الحماميل” (العتالون) والجيران يتقون شـرّهم. كانوا يطيرون اكبر طيارات أم الشناشيل، يرسلونها بالخيوط المعززة بالصمغ ومسحوق الزجاج لكي يمنعوا الآخرين عن اصطيادها لأن خيطها الزجاجي يقطع خيوط الطيارات التي تتحرش بها وليصطادوا الطيارات الكبيرة الأخرى وخاصة “أم الصناطير” التي كانت تصفر متهادية بهيبة وجلال في تحليقها دون أن يبالوا من يطيرها، مسلم أو يهودي أو مسيحي، و”الما يعجبه خلّي يطخ راسه بالحايط”. فإذا اقتربت طيارتهم ذات الذيل الواحد القلابة بخيطها ذي المسحوق الزجاجي، قلبوها على خيط “أم الصناطير” أو “أم الشناشيل” وجذبوه، فينقطع الخيط وتسقط، فيدوّي عگدهم والعگود (المحلات) المجاورة بصيحات الاستحسان والتعجب من مهارة هؤلاء الأولاد “العركاويين” الذين يشترون الشر بفلوس، ويعدو الأطفال والشبان بصخب وجنون وراء الطيارة الساقطة ليأخذوها غنيمة باردة لهم.
كان “عذرا” هذا وإخوته يجيبون على كل من ينادي على بضاعته من الباعة المتجولين بمسبة مقذعة ذات قافية طنانة متعارف عليها بين العتالين. كان يهبط ذات يوم درجات بيته إلى الشارع فسمع بائع اللبن وهو ينادي على بضاعته “اللبن” المحمولة بحقيبة الصفيح “بشكاسات” (اقداح) جميلة من الفرفوري الفاخر المصفوفة على رفوفها بداخل الحقيبة: “لبن! لبن!” فأجابه عزرا دون وعي منه وبصورة تلقائية: “كـ..ـا..ـت أمك إتْـگـَلـُبـَنْ!”. ما أن انتهى عزرا من قافيته الرنانة حتى وجد فمه قريبا من أذن بائع اللبن الغريب عن المحلة وقد امتقع وجهه وعرت جسمه رعدة الغضب العنيف وأمسك بيد عزرا اليهودي: “ولك انت إلْ مَنْ دَتْسِبّه” (ويلك، من تسب)، صاح عزرا بأعلى صوته ليسمع أخوته ويأتون لتخليصه من هذه الورطة الغير متوقعة: “والله مو إلك! عبالي (ظننت) هذا إعلوي أبو اللبن مالتنا وآني وياه ميانة (وأنا ومعه صديقين دون كلفة بيننا)”. وعندما رأى بائع اللبن أخوة عزرا المحاطين به وعلى وجوههم تصميم خوض معركة لا يسلم منها ولا تسلم “شكسات” اللبن، “داس على نفسه” (تمالك نفسه) وقبل العذر مرغما: “ترى لا تسوّيها بعد!” وما أن أبتعد البائع حتى بدأت “جوقة العفاط” وراءه وهي تتنافس بأطول “زيگ”، بحيث لو سمعها شيخان “العربنچي” من محلة “الميدان” كان سيخجل من عفطاته التي ستبدو فاترة أمام هذه الجوقة المتحمسة. وشيخان العربنچي هذا هو الذي تبارى مع وزير الدفاع الجنرال جعفر العسكري وغلبه في مباراتهما في العفاط. فما بالك بعفطات “عـذرا” هذا وإخوته التي كادت تصل إلى باب الشرقي والى سينما غازي.