2006.11.28
لم يطلق الفيلسوف جورج سانتيانا مقولته جُزافاً عندما أكد على وجود أعادة الماضي وعدم نسيانه (( بأن من ينسى الماضي محكوم عليه بتكرارهذا الماضي )).وعلى ضوء إستجلاء تلك الحقيقة وسرد الحقائق وتقييم محاكمة سعيد قزازمن الناحية القانونية والقضائية، بأعتباره كان شخصية بارزة ونزيهة، وذا تاريخ مشرق وصاحب المواقف الصلبة. كتب القاضي زهير كاظم عبود هذه الأوراق الناصعة في أستذكار الرجل ليس لأن سعيد قزازكان بطلا قومياً يمكن الإحتفاء به، ولا خائناً عرض الوطن للذل والتقطيع. وهو كما كان في تلك الفترة الحرجة من تاريخ العراق المعاصر، واضحاً وصريحاً ومؤثراً بأحداث العراق السياسية ومتأثراً بها. لذا جاءت لمحاته كدعوة مخلصة لإعادة السرد التاريخي للعراق بشكل مجرد خال من العواطف والأنحياز. وفي ضوء تلك الحقائق والتحليلات المجردة من الأهواء وبعيدا عن تأثيرالمحيط السياسي على تدقيق تلك الأوراق، وتسجيل الملاحظات القانونية لصالح براءة المضنون. وتحت تراكم القضايا التي لا تمت بها من صلة غير روابط إدارية ووظيفية. نحن الذي نصحح التاريخ الذي ترك دون تشذيب، وبعيون محايدة وبعد سكون العاصفة الحماسية لفكرة ما. ولصالح تحبيذ جهة ما ولسواد جمالية شخصية ما نقفز في بعض الأوقات على الواقع ونتماهى على حقيقة الأحداث. في تسجيلنا لصفحات ذلك الكم الهائل من الأجحاف بحق من خلدوا بضميرهم الحي وهم اليوم في مستقر الخلود.أنهم ربما لم يعرفوا المهادنة على حساب المبدأ الذي آمنوا به ولم يسايروا مع تلك الظروف العصيبة التي أحاطتهم في أيام محنتهم عَشيّة إضطهادهم الفكري والجسدي في زوايا الاعتقال. كي يطلبوا السِماح والترّجي منهم كي يتنفسوا منفس المذلة. مثل تلك القلوب الصّلدة تأبّت حتى على شريكة حياته أن تلتمس بعاطفتها الرقيقة من سجّان زوجها في طلب الغفران. وكيف بالتاريخ القاسي يمكنه أن يطوي صفحاته على مواقف ذلك الرجل الذي لم يتردد حتى الى آخر لحظة من ساعات محنته أن يهادن . وبدلا من ذلك ظّل يسفّه الأباطيل بالأدلة و يحاجج هرم المحكمة حجة وراء حجة. نحن هنا لسنا في موقف الدفاع عن كنه وذاتية الرجل وهويته، نحن بصدد نفض الغبار المتراكم عن حقيقة بعض الشخصيات العراقية بعربه وكورده وتركمانه كيف كانوا في موقع مسؤوليتهم الوظيفية وكيف كانوا يحكمون الأمور بميزان عدالتهم. وكيف كانوا مخلصين في أداء وظائفهم. ثلّةٌ من هؤلاء سيخلدهم التاريخ.ويكونوا من بعد رحيلهم مصدر تساءل وإستفسار على مر العقود والعصور. ومنهم مَنْ يتبعه اللعنة كلما مَرّ ذكره طارئاً أو عارضا دون الوقوف على محطات سيرهم الذّاتية كشخصيات أو رموز. ومنهم من يتحسر المرء على رحيله وعلى إجحاف حقه تحت مسميات وشعارات كانت في حين إدانته أو محاكمته بها تكفي بأن لا يجد المحكوم رَقْدةً هَنيّةً لرفاته من بعده، أو يُشخّصَ مزاراً لمحبيه. والتاريخ القاسي الغابر خيرُشاهدِ على تلكم الرموز الوطنية والدينية عبر مراحل التطور العقلي والمعرفي للإنسان المجبول على العَجَل والمُكابدة والمحكوم ساعة غضبه وانفعاله بأجواء تلك اللحظة التي تظلم أمامه الدّنيا وتضيق بين جوانحه فسحة االعفو وأمتداد الأمل. ويجب أن لا ننسى السّمة الإنسانية في الحكم على بعض القضايا التي أصبحت بحكم الخلودتكاد تكون نادرة قلّما تجدها متراعية فيها الدّقة والإنصاف، وأخذها بعين النظر سواء أمام سلطة القاضي المختص التقديرية أو رئيس المحكمة المنوط به الملف الشائك بكثرة تعقيداتها الجوهرية في القضية المطروحة للمداولة وتأرجح الحيادية في حالة طغيان التهريج واللغط والشعارات والتدخل في ترهيب المتهم. كما تم ملاحظته أثناء محاكمة سعيد قزاز أيام وقوفه أمام محكمة المهداوي. مدافعاً وبصلابة عن نفسه وعن قرارته الإدارية دون أن يعتريه الخَور والوَهنُ مِنْ رَهْبة المحكمة. ومِن كهربة المكان والمحيطفي تلك الأيامالمريرة.وعبر أربعة فصول من كتابه الموسوم لمحات عن سعيد قزاز يواجه القاضي زهير كاظم التاريخ الماضي الغابر والملف المركون بإهمال مترصِد والمتعلق بأنزه وزير داخلية عراقي عرفته الدوائر الأدارية منذ تأسيس تلك الوزارة التي تتالت عليها نماذج قلّما تَجود البَداهة والعقلية الإدارية مثل الراحل سعيد قزاز.نبدأ بِذَر محتوى ذلك الكتاب عَرْضاً بالفهرست المثبت في الصفحة ما قبل الأخيرة.من المقدمة الرشيقة التي عبّرت عن حُسن إستخدام القاضي والباحث زهير كاظم في سلاسة جمالية الكلمة والفهم العميق للمصطلح القانوني والنزاهة من وراء ذلك الدافع الأساسي الذي دفع به كي يكتب عن سيرة سعيد قزاز،متسلسلاً في ذلك رغم المعاناة التي كادت أن تقف عثرة في طريق إنجازه لذلك البحث الموجز مؤكدا أيضاً على أن – التاريخ يقوم على جملة حقائق ومن حقائق هذا البحث بأننا لا نستطيع التغلغل في أعماق الرجل فقد واجهتنا صعوبات جمة-. وبصدد تلك المقدمة يقول بأنن أنقطعت صلة الرجل بالحاضر من خلال ماضيه فكان أشبه ما يكون بالأسطورة أو البريق الذي يبهر فجأة. فأنت لا تتوقع ظهوره كذلك موضوع البحث فسعيد قزاز رجل كالجزيرة محاط من كل الأتجاهات. وفي مدخل الفصل الأول من الكتاب يعرفنا بإيجاز على بطاقة سعيد قزاز الشخصية هو محمد سعيد بن مراز مجيد بن الحاج احمد قزاز حسب جداول الحكومة العراقية عام 1904 في مدينة السليمانية توفي والده وهو طفل رضيع ودرس المدرسة الإعدادية وتخرج منها ،تزوج من السيدة زكية توفيق قزاز وأثمر زواجه عن بنت أسمها ﯧري وكانوا ينادونها پري خان ومعنى إسم بنت سعيد قزاز الحورية ولم يخلف غيرها. ويقول الباحث بصدد تقلده الوظيفة لأول مرة بأنه – تعين بالوظيفة وعمره عشرون سنة وتسعة عشر يوما وتم إعدامه وعمره خمسة وخمسين عاما وشهران وتسعة عشر يوما بعد أن أمضى مدة ثلاثة وثلاثين عاماً في الوظيفة العامة أي انه كان قد تعين موظفا في الحكومة العراقية في 20/1/1924.
سعيد قزاز وجهٌ صارمٌ وكفاءةٌ نادرةٌ في الإدارة
من خلال مشاهدتنا لبعض الصورالفوتوغرافية التي ألتقطت لسعيد قزاز، أثناء تقلده للوظائف الإدارية المرموقة. وجهٌ يتجمع في التقاطيع المتوترة أبتساماتٌ خجولة ،بل ربما مدفونة خلف سحاب التفكير المضني الدائب في كيفية بسط الأمن وتدبير هيكلية المسؤولية الجسيمة المنوط به. لذا فليس من الغرابة أن يلاحظ المرء وبسهوله الصرامة والجدية المفرطة القريبة الى التهجم، من سيمياء الأبتسامة الفارغة التي تترائ بمحيا دهاة السياسة. وتحت تأثير أضواء الكاميرات أو أثناء حضورهم في المؤتمرات الصحفية. سعيد قزاز وكما الملاحظ مليا في صورة غلاف كتاب القاضي زهير كاظم أنه في تلك الصورة يستجلي المجهول ويتأمل المستقبل من خلال تلك النافذة المضببة المطلة على الأحداث والمشاكل التي ورثتها الدولة العراقية الفتية، من آثام الولاة العثمانيين الذين حكموا البلاد. وفي يقظته الدائمة وكما يبدو من توتره وتوجسه وعمق نظرته بأن القادم آت بقظه وقضيضه. ومن يستطيع في ذلك العراق العائم على بحار من المشاكل والقنابل الموقوتة بدهاء لعبة المخططين الأنكليز قبل عقود من أحتلال العراق. وكيف له أن يتنبأ ملامح مستقبل نوره في نهاية نفق طويل وكل مشكلة موروثة تقارب المستحيل وحلها تتطلب طلاسم كمن يريد طرد شرور العفريت. سعيد قزاز والمعروف عنه ووفق بيانات السجلات إلإدارية بالكفاءة والتمييز والدقة في القرارات. وحُبّ تنفيذ الواجب من غير رهبة او أعتبارِ للحياة أو التفكير في المصالح الشخصية. يروي القاضي زهير وعلى لسان أحد المحامين في مدينة الموصل والذي طلب منه عدم ذكر إسمه بأن الرجل كان يعمل بصفة مراقب عمل في وزارة الأشغال يوم كان سعيد قزاز متصرفا للواء الموصل ليعيل نفسه لإكمال دراسته وصادف أن أبلغه مسؤول الأشغال أنهم أستغنوا عن خدماته بأمر المتصرف. فما كان منه الاّ أن توجه نحو دائرة المتصرف وأستطاع مقابلته وعندما شرح له ظروفه أبدى السيد سعيد قزاز إستغرابه لأنه أرسل شخصين لمساعدتهما بالعمل لا المساهمة بفصل المواطن. وما كان منه إلاّ أتصل بدائرة الأشغال ليعيده الى عمله حالاً.ورجل بقامة سعيد قزاز كان الموت يهابه وهو الذي يوازي الموت من كثرة عشقة الرحيل الى الملكوت. هذا الذي أستطاعَ أنْ يُكذّب المدعي العام أثناء محاكمته وأمام المحكمة التي ضعف أمامها الكثير من المتهمين طلباً للرأفة أوأنتظاراً لمرحمة رجال الثورة،عندما أتهمه بالهروب من الثورة بملابس النساء ليعلن بأن المدعي العام كاذبٌ فهو لم يلبس ملابس النساء ليهرب من الموت صبيحة الثورة)). ويروي لنا الباحث في لمحاته قصة التسجيل الصوتي لمحاكمة سعيد قزاز وسماعه لها بعد أكثر من ثمان وثلاثون سنة على إذاعتها عبر إذاعة بغداد وعلى الهواء مباشرة.إذيقول(( تلمستُ شخصية هذا الرجل من خلال جرأته وشجاعته وصدق الكلمة التي يطلقها دون وجل وعدم أكتراث لما سيوّلده هذا الموقف عليه من نتائج. حقاً كان الرجل لا يخاف الموت وإضافة لهذا فقد كان مليئاً بالإيمان وبالقدر وبما كتبه الله عز وجل عليه ولم يدخل اليأس أو الخوف الى قلبه وإنه يفوض أمره الى الله )).وينقل لنا الاستاذ زهير جانباً آخرأ من التسجيل الصوتي التاريخي لتلك المحاكمة مستغرباً لسماعه الى ضحكات المتفرجين داخل صالة المحكمة حينما يذكر سعيد قزاز بأنه كان وزيراً فعالاً يعمل بوحي من ربه وعقل في رأسه وقلب في صدره، كانت الضحكات تعبر عن سذاجة المتفرجين، لأن سعيد قزاز لم يطلق أية كلمة تستحق السخرية، كان فعلاً وزيراً فعالاً بشهادة التاريخ وكان يعمل بتصميم من إرادته وبإتفاق كل من عاصروه وعرفوه وأتخذوا مواقف متناقضة معه بأنه كان نزيهاً ونظيفاً وصارماً ترك المناصب الإدارية وخدمة الدولة البالغة ثلاثة وثلاثين عاماً دون إرثِ يستحق الذكر سوى سيرته الناصعة وسمعته الأكثر لمعاناً وشجاعته التي لم ينكرها أحد حتى في أحلك ظروف الإنسان أو في آخر لحظات العمر)).
شهادة الدكتور كمال السامرائي حول سعيد قزاز في كتابه حديث الثمانين
يعرض علينا القاضي زهير في مستهل الفصل الأول نفسه شهادة أحد أشهر الأطباء العراقيين وهو الدكتور كمال السامرائي حول زهد وتقشف العيش في بيت سعيد قزاز وعلى ضوء زيارته لداره في إحدى أيام شهر اكتوبر عام 1957. (( كلمني تلفونياً وزير الداخلية ليدعوني الى تناول الغداء في داره بمنطقة العلوية، وهذه الدار من مخلفات الأنكليز ومعمولة من اللبن والطين غير أنها مريحة صيفاً وشتاء وحين وصلتها بحدود الساعة الواحدة ظهراً كان قد سبقني اليها كل من صديقي بهاء عوني والدكتور اسماعيل ناجي، ثم توافد آخرون من بينهم رؤوف الجادرجي وسامي فتاح ويحيى قاسم، ودهشت حين دخل الصالون أبو عامل علي حيدر سليمان ولم أكن أعرف أنه في بغداد وأن هذه الدعوة على شرفه. وكنت أترقب قدومه الى بغداد لأقابله بمثل ما قابلني به في بون بالمانيا يوم كان سفير العراق فيها قبل ما يقرب من عام. فتصافحنا وتعانقنا وصار مجلسه الى جانب مجلسي في الصالة. وسرعان ما شعرتُ بعدم أرتياح من الكرسي الذي قعدتُ بين ذراعيه، وصرت أراوح في جلستي بين وضعِ ووضعِ لأعرفَ منهما ما يريحني. فقد كنت أحس بوخز من الكرسي في مقعدي، وقد أنتبه سعيد قزاز الى ذلك وهو يعرف ما في هذا الكرسي من عيوب القدم وسوء الصنعة فقام من مكانه وأتجه نحوي وأخذ بيدي وهو يقول لي: هذا الكرسي أعرفه قديم ونوابضه قد مزقت غطاءه بأطرافها المدبب،وقادني الى كرسي آخر وعاد وجلس على الكرسي الذي كنتُ أجلس عليه الى جانب علي حيدر سليمان وهويقول لي: أنا أكثر منك َ سمنةً، وإني أعتدت الأذى منه كما أعتاد حمل ثقلي عليه بعد أن يئسَ من أثارتي على التذمرمنه.وبالمناسبة ذكر الدكتور نوعية غداء ذلك اليوم بأنه كان مكوناً من القره خرمان والبرغل بالرمان وكلاهما من الأكلات الكوردية اللذيذة)). وكم كان طعام الوليمة بسيطاً وبعيداً عن إرهاق ميزانية الدولة والوزارة،وعلى عكس ولائم وزراء هذه الأيام. ولقد روى المحامى على الشيخ من أهالي تلعفرللباحث من ضمن ذكرياته عن سعيد قزاز،(( بأن أحد زملائه من مفوضي المرور في منطقة الميدان قام بفتح باب سيارة الوزير سعيد قزاز عند توقفها قرب ديوان وزارة الداخلية في منطقة القشلة وحين همَّ الوزير بالنزول نبّه المفوظ الى عدم تكرار ما قام به من عمل لأن هذا يدخل ضمن واجباته الوظيفية أولاً وأنه موظفٌ لدى الدولة حاله حال الوزير وعليه والكلام لسعيد قزاز أن يحترم وظيفته ولا يطأطأ رأسه سوى لخالقه العظيم وأن لا يتنازل لأحد ليحل محله في عمله. كان يبرهن بالملموس أن الكرامةَ فوقَ كلّ الإعتبارات فإذا ماتت كرامة الرجل ( الإنسان) أو تدنت فلن يتبقى من الإنسان سوى جسد مجوّف. وهكذا كان سعيد قزاز يدافع عن كرامته بكل قوة ويدافع عن كرامة الآخرين بنفس القوة)). في أية مدرسة تربوية ومعهد للاخلاق الفاضلة يا ُترى تربى هذا الإنسان الذي لم يدنسه بريق الذهب، ولم يغيّره المنصب الرفيع، طيلة وجوده في وظيفته الأدارية ولسان ضميره ينصحه بأن ألا كل نعمةلامحال زائل،والذكرالطيب والعشرة الحسنة،السجل النقّي ستكون مآل من سيؤرقه مظالم أفئدة لم تنصفها موازين الحكم والعدل في حينه. سعيد قزاز تلك القوة التي أزاحت بمسارات الحق عنجهية العتاة، والخارجين على القانون. ورسمت بمسطرة المساواة حقوق كل إنسان وعلى ضوء مقولة متى ما إستعبدتم النّاس ولقد ولدتهم أمهاتهم أحرار. وفي ديوان مظالم الداخلية آنذاك بوسع كل راصد محايد وللتاريخ ملاحظة العديد من القصص والشواهد من ملفاتها المكدسة كي تكون مناهج عمل للعقول الأدارية التي تبغي معرفة بناء المجتمع المدني. وخطواته الأولى قد بدأت الآن من تطبيقات سعيد قزاز كرجل بٍناءِ وكمحارب للفساد الأداري،وكمُقننِ لخبز الإعاشة لأفواه الفقراء. وأستعير بصدد فضل سعيد قزاز في إستحداث الأفران الشعبية الشبه المجانية سطور من مقال الأستاذ الفاضل فؤاد حمدي ((صادق على قرار إعدام المرحوم سعيد القزاز وزير الداخلية السابق، دون أية جريرة اقترفتها يداه، بل لمجرد لرغبة الشيوعيين وتطبيباً لخاطرهم، فلقد ذرف أهل كركوك الدّمع الغزير على إعدام سعيد قزاز في وقته،عرفاناً لخدماته المشكورة للبلد. وعلى رأسها استحداثه أفران الإعاشة في المدينة وتوفير الخبز الرخيص للناس في سنين عجاف. كان ذلك في حدود الأعوام 19471948 ودرئه تفشي مجاعة في البلد. أن التاريخ يعطي كل ذي حق حقه إنْ لم يكن عاجلاً،فآجلاً سواء كان ذلك بالسلب أو بالإيجاب)).
إنني أقف الآن وأرى الموت مني قاب قوسين أو أدنى
ولا ترهبني المشنقة وعندما أصعد عليها سأرى الكثيرين ممن لا يستحقون الحياة تحت أقدامي.
في مسار تلك المقولة المجلجلة للصمت الرهيب،وهي كلمة أطلقته نفسٌ لقدسية العدالة في لحظة تاقت فيها للخلود. وضاقت من بؤس المرتجين كي َيدلفَ من باب السّجانين سماحٌ مشوبٌ بأسترحام القلوب لحظة ضعفها أمام مطمع البقاء. أما سعيد قزاز الذي ضاق ذرعاً من ضغوط الإقارب والخلان كي يَلينَ شيئاً من موقفه المتصلب وأرادوا منه تحديداً في تلك الساعة الملبدة بالمحنة ومن أجل ثمرة فؤاده پري ورفيقة دربه زوجته والتي هَدّتها الشُجون والحَيْرة من أمر تلك النفس الأبيّة في جوانج قديس قد ُتقَرر مصيره قبل قرار المحكمة أنْ يكتب أسترحاماً ولكنْ النّفسُ تأبى ذلك. وتكتب لزوجته عِوَضها عبارة اللاعودة أستعدي أن تكوني أرملة!!. ونترك القاضي الباحث زهير كاظم عبود لينقل لنا بيراعه وقع لحظات محاكمة سعيد قزاز والتي بدأت أمام المحكمة العسكرية العليا الخاصة – محكمة الشعب- يوم السبت 24/ كانون الثاني 1959 الساعة الخامسة مساء وقد تشكلت المحكمة من رئيسها العقيد فاضل عباس المهداوي وعضوية كل من العقيد فتاح سعيد شالي والمقدم شاكر محمود السلام والمقدم حسين خضر الدوري والرئيس الأول ابراهيم عباس اللامي والمدعي العام العقيد الركن ماجد محمد أمين. ويستمر الباحث في سرد وقائع المحاكمة (( وبتحدِ لم تعهده المحكمة وبموقف أثارَ حفيظة أعضاء ورئيس المحكمة مع فارق أمكانية القُدرةَ على التّحدث يقول سعيد قزاز بأنَ موقف المحكمة غير حياديِ بحيث تعرضتُ الى الإهانات لا من رئيس المحكمة والمدعي العام فحسب بل حتى من أفراد لا توجد لهم أية صفة رسمية، الأمر الذي أقنعني أن مصيري قد تقرر قبل البدء بالمحاكمات وما دامت الحياة مكتوبة ومادامَ مصيري معلوماً ومادمتُ لا أهابُ الموتَ والمشنقة فإنني أدلي بهذه الإفادة لكي أوصل صوتي الى خارج هذه القاعة الى إخواني العراقيين لكي أؤكدَ لهم بأنني خدمتهم بإخلاصِ وأمانةِ لمدة تزيد على ثلاثين سنة. ويضيف الباحث بأنَ أي متهم لم يجرؤ الوقوف أمام محكمة المهداوي أنْ يطعنَ في نزاهة هذه المحكمة وبقرارتها سوى سعيد قزاز ليقفَ وهو على أعتاب السّتين من العُمر ليقولَ للمهّداوي لا أهاب الموت ولا المشنقةَ وحينما سأله المهداوي هل أنتَ من القوميين العرب؟ أجاب سعيد قزاز : كلّا أنا كورديٌ عراقيٌ أفتخرُ بعراقيّتي.ولأنه يعرف أنه أمام محكمة بعيدة عن التطبيق القانوني السّليم بالنّظر لكونها عسكرية وخاصة وتخلو من قضاة حقوقيين، يبدأ دفاعه بطلبِ هو حق لكل متهم مهما كانت تهمته. حيث إنَ حق الدفاع مقدس فيطلب بأسم قدسية العدالة أن يُسمحَ له بقراءة الدفاع دون أن يُقاطعَ من قبل أحد الى أن يختتمه، وما أنْ يُقاطعه رئيس المحكمة المهداوي حتى ينبري له ليذكّره بأنه أخذَ منه وعداً بأن لا يُقاطع ولو كان المهداوي بعيداً عن الإنفعال لفكّر مليّاً بأنَ وَعْد رئيس المحكمة قرارٌ وأنَّ عليه أنْ يحترمَ قرارة)). وفي هذه اللحظة الحاسمة من تاريخ محاكمات المشاهير وكما جاء أثناء دفاعه ((ومهما يكن الأمر فإنه وبصلابة الرجل المؤمن الواثق من نفسه يطلق كلمته الصارخة – إنني أقف الآن وأرى الموتَ مني قابَ قوسين أو أدنى ولا ترهبني المشنقة وعندما أصعدُ عليها سأرى الكثيرينَ ِممَن لا يستحقونَ الحياةَ تحتَ أقدامي وأقفُ الآن بينَ يَدي الله عزَّ وجل لأقولَ كلمتي الأخيرة كمسلمٍِ لا أملَ له إلاّ بعدالةِ خالقه العظيم ولا إيمانَ له إلاّ بدينه الإسلامي الحنيف ولوجود مقاربة بين موضوعنا المطروح)). تذكرت هنا مقال الأستاذ الصحفي داوود البصري بعنوان بعثيون ومحاكم؟. والتاريخ يعيد نفسه و نرى الحياةَ دُولَةٌ بين المتنفذين والجبابرة، والأخيار هم مَن بأستار الذاكرة يتلئلئون وبأسرارهم المخبوءة وبأعمالهم الخالدة يبقون ولا يموتون.
(( بين محكمتي العقيد فاضل عباس المهداوي ( 1958 ) التي دخلت التاريخ السياسي العربي المعاصر من أوسع أبوابه و تميزت بشهرة طاغية حتى بين صفوف الذين لم يعاصروها بل سمعوا فيها وقرأوا عنها، ومحكمة الجنايات العراقية التي يرأسها السيد القاضي (رزكار ) (2005 ) ما يقارب النصف قرن من السنين!، تبّدلَ خلالها شكل العالم، وجَرتْ فيها مياهٌ عديدة تحت كل الجسور،وسقطت دولٌ وإمبراطوريات وقامت أخرى! إلاّ أن الثابتَ في جميع المتغيرات والمتحولات كان هوية المتهمين الذين حضروا المحاكمتين! وما أقصده تحديداً هم الشُقاة والقتلة والمُجرمين من البعثيين الذين كانت جرائمهم حاضرة وشاخصة على الدوام في المجتمع والضمير العراقي والعربي، والذين لم تتغير سلوكياتهم ولا سحناتهم ولا نزعاتهم الإجرامية المتأصلة والموروثة!، وبطبيعة الحال فثمتَ فروقٌ هائلة بين المحكمتين من حيث الظروف التاريخية وطبيعة المرحلة وشكل الإتهام فضلاً عن طبيعته! وإنْ كانتا تمّسان الوضع الداخلي في العراق، وُتلقيان الأضواءَ على مراحل حاسمة وقلقة من تاريخ المجتمع العراقي المنقسم والقلق والمتوتر على الدوام!.محكمة ( الشعب ) الخاصة التي كانت برئاسة العقيد الراحل فاضل عباس المهداوي والتي تشكلت بعد إنقلاب 14 تموز/ يوليو 1958 الذي أطاحَ بالعائلة الشرعية المالكة الهاشمية التي كانت في العراق إكتسبت شهرتها التاريخية ليسَ من المحاكمات التي حدثت في رحابها فقط بل من الدعاية المحتدمة التي كان يقودها إعلام نظام الرئيس الراحل (جمال عبد الناصر) وخصوصا إذاعة (صوت العرب) ضدها وضد رئيسها حتى حولوها لمحكمة ( قراقوشية )!! لكنها لم تكن كذلك في التقويم التاريخي المجرد للأمور، بل كانت محكمة عبرت عن لحظات تحول تاريخية نادرة في التاريخ العربي والعراقي، فالمتهمون الذين تشكلت من أجلهم تلك المحكمة وهم رجال النظام الملكي الذي أبيد بقسوة وتهور في ذلك الصيف البغدادي الساخن لا يصح إعتبارهم ووصفهم بالمجرمين من الناحية التاريخية الصرفة!، فهم لم يرتكبوا جرائم الإبادة الجماعية ضد الشعب العراقي والشعوب المجاورة، ولم يخرقوا المعاهدات والإتفاقيات الدولية، ولم يحفروا المقابر الجماعية للشعب وللمعارضين ،ولم يسرقوا ثروات العراق ويوزعونها على المحاسيب والرشوة القومية! وهم بالتالي كانوا يمارسون وظائفهم وفق ضوابط قانونية لم يتعدوها أو يقفزوا فوق القوانين، كل ذنبهم أنهم كانوا ضحايا للحرب الباردة وللصراعات العنيفة بين التيارات القومية واليسارية في تلك المرحلة التاريخية الحرجة، ولو عدنا وقلبنا صفحات التاريخ وأعيدت محاكمات مسؤولي النظام الملكي العراقي فستخرج النتيجة النهائية بالبراءة الشاملة لكل من أدين منهم ، فجريمة وزير الداخلية العراقية الأسبق ( سعيد قزاز) كانت إتهامه بإعدام قادة الحزب الشيوعي العراقي؟؟ والذين لم يصدر عليهم هو الحكم بل كان القضاء العراقي من فعل!! وفي ظروف تاريخية حرجة دوليا وإقليميا، ولعل كلمته وهو يتقبل قرار الموت التعسفي وحكم الإعدام الظالم تعبير عن حقبة تاريخية وإستشراف مستقبلي مدهش حينما قال: ( أنني سأموت وتحت قدمي رجال لا يستحقون الحياة )!!، أما المتهمون الآخرون ومنهم رئيس الأركان السابق (غازي الداغستاني) ورئيس الوزارة الأسبق (فاضل الجمالي)!! وغيرهم فهم لم يرتكبوا أية جرائم وكانت براءتهم الحقيقية تحرج تلك المحكمة والتي لم تنفذ غالبية أحكامها بل أفرج عن البعض ووضعت القضايا الأخرى على الرف، ولكن المثير في محكمة (المهداوي) كانت إستمراريتها لتأخذ في طريقها حتى قيادات الضباط الإنقلابيين الذين أسسوها ليحاكموا النظام الملكي فإذا بالمحكمة تحاكمهم وتصدر الإعدام بحقهم وينفذ فورا!! وهكذا أكل الإنقلاب العسكري أبنائه كما تفعل القطط الجائعة تماما!. وينقل لنا القاضي زهير في لمحاته عن سعيد قزاز بأن(( سعيد قزاز سلّمَ نفسه مختاراً الى السلطات العسكرية على أثر قيام ثورة 14 تموز يوليو1958 حيث أتصلَ تلفونياً بكلٍ من متصرف لواء بغداد ومدير الأستخبارات العسكرية فتمَ إرسال ثلةٌ من الجنود بأمرة ضابط عسكري الى داره حيث ينتظرهم وتم إعتقاله حيث قابلَ الزعيم عبد الكريم قاسم الذي أوعَده بتحقيقٍ نزيهٍ ومحاكمة عادلة وسيتطلب توقيفه مدة قصيرة ثم أقتيدَ الى الهيئة التحقيقية الخاصة بوزارة الدفاع)). لم يكنْ سعيد قزاز حتى آخر لحظات متوجساً من الموت وكانَ يعتبر نفسه بريئاً ولو كان يعرف بأن ملفه الوظيفي ملطخاً بالآصام والسواد لأختفى في ساعته وبلحظات دون أن يهتدي أحد الى مكانه،انه سلمَّ نفسه طواعية لوعد من قبل المرحوم عبد الكريم قاسم بأنه سيجرى معه تحقيق نزيه ومحاكمة عادلة ولكن الأمور والتأثيرات الجانبية أدّت الى تضخيم قضيته وثم مشيئته والأقدارفي مواجهة حبل المشنقه والذي ختم نهاية دفاعه بعد مثوله أمام المحكمة – بأنني لا أطلب الرحمة ولا الغفران من أي بشر كان بل أترك أمري الى الله وأصبر حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين-. ويذكر القاضي زهير بأنَ العقيد فاضل عباس المهداوي كان(( معروفاً بإطلاقه الكلمات الجارحة والنكات ضد من يقف في قفض الإتهام من المتهمين مستغلاً المواقع وعندما حاول النيل من سعيد قزاز أجابه بتحذير: أترجاك بصورة خاصة أن لا تهين كرامتي لأني لا أقبل أحدا أن يهين كرامتي)).
يورد القاضي زهير كاظم في كتابه قرار الحكم والإدانة الصادر من المحكمة العسكرية العليا الخاصة بأنه(( في 4 شباط 1959 الساعة العاشرة والنصف صباحا عادت المحكمة الى الإعقاد لإصدار الأحكام ،وقد أفتتح الرئيس العقيد فاضل عباس المهداوي الجلسة بإسم الله وبإسم الشعب. الرئيس المتهم سعيد قزازر. نودي على المتهم سعيد قزاز مع المتهمين الآخرين فأدخلوا القاعة وأدخلوا قفص الإتهام.وجاء في قرار التجريم وقرار الإحالة احيل المتهم سعيد قزاز الى محكمتنا بموجب أمر الإحالة المرقم 111 والمؤرخ6/11/ 1958 الصادر من القائد العام للقوات المسلحة ليحاكم بموجب الفقرة 3 من المادة 214 من ق ع ب والفقرتين دـه من المادة الثانية من قانون معاقبة المتآمرين وأحتفظت القضية برقم 70/ 1958 . وكما أحيل المتهم المذكور الى محكمتنا بموجب أمر الإحالى المرقم 118 والمؤرخ 21/11/ 1958 الصادر من القائد العام للقوات المسلحة ليحاكم بموجب الفقرة ه من المادة الثانيى من قانون معاقبة المتآمرين وأحتفظت القضية برقم 73/ 1958 ونظراً لترابط القضيتين وعلاقتهما بمتهم واحد فقد قررت المحكمة توحيدها وجعلها برقم 70/ 1958. ويستمر القاضي زهير في نقل وقائع وأجراءات محاكمة الراحل سعيد قزاز. بأن المحكمة أستمعت الى مطالعة هيئة الأدعاء العام ثم سألت المتهم عمّا يقول بصدد الإتهام الموجه إليه فأجابَ أنه بريء.أستمعت المحكمة الى شهادات الشهود، وأستأنست بشهادات 46 شاهداً لم تجدْ المحكمة لديها متسعاً من الوقت للإستماع الى شهاداتهم. ثم أستمعت المحكمة الى إفادة المتهم وناقشته حول التهم المسندة إليه ثم أستمعت الى دفاع وكيل المتهم وقررت ختام المرافعة. ولقد أتهمته المحكمة بناء على شهادات الشهود والمستمسكات وأفادة الراحل بخصوص كل تهمة منها:بخصوص تسهيله وتطبيقه لمراسيم أسقاط الجنسية العراقية.بخصوص تزوير الإنتخابات، بخصوص المظاهرات. وبعد أدانة سعيد قزاز من قبل المحكمة العسكرية الخاصة أصدرت المحكمة في يوم 4/3/ 1959 حكمها بأسم الشعب على الراحل سعيد قزاز بالأعدام شنقاً حتى الموت، وفق الفقرة 3 من المادة 214 من ق ع ب. ولقد صدر القرار بإتفاق الآراء وأفهم علنا.وبتنفيذ ذلك الحكم القاسي ستطوى صفحات شخصية مؤثرة وفاعلة في تاريخ العراق السياسي. ونترك بعد صدور الحكم للقاضي زهير ليبديَ رأيه وتعليقه القانوني حول حيثيات التهمة والإحالة وصدور حكم الأعدام والتكييف القانوني لتلك القضية. ورد في كتابه فصلا كاملا لتلك المناقشة القضائية ونأخذ من تلك المناقشة فقرات وسطور كي يطلعَ عليها القارئ الكريم. (( وحيث أن حُكم المحكمة الخاصة الصادر بتاريخ 4/2/ 1959 تضمنَ في الفقرة أولاً منه الحُكمَ على سعيد قزاز بالإعدام شنقاً حتى الموت ممّا يستوجب إستحصال موافقة القائد العام للقوات المسلحة لتنفيذ قرار الإعدام حيث إنَ هذا القرار قطعّي غير قابل للطعن تمييزاً أمام أية جهة فقد صادقَ عبد الكريم قاسم على تنفيذ قرار الإعدام تحت ضغطٍ شديدٍ من الجَماعات التي كانت تطالب إعدامه، فتم تنفيذ حُكم الموت بالرجل صبيحة يوم 20/ أيلول / 1959 في سجن بغداد المركزي وقد تم شنقه بطريقة غير إنسانيةٍ إذ قامَ المشرفونَ على تنفيذ الإعدام بقطع الحَبْل َبْعَد توتره وقبلَ أنْ يلفظَ سعيد قزاز أنفاسه الأخيرة، ثم أُعيدَ شنقه مرةً أخرى وتمَ نقل جثمانه من قبل ذَويه بعد إستلامه من الطّب العَدلي في بغداد العاصمة حيث دفن بصمتٍ وهو يرقد الآنَ في قبرٍ ضمن مقابر مدينة بغداد قرب منطقة باب المعظم)) . ويستمر في مناقشته القضائية – والمحكمة التي أصدرت قرار الحكم هي محكمةٌ خاصةٌ فلا هيَ محكمةٌ عسكريةٌ ولا هيَ محكمةٌ مدنية وبذلك أضاعت الطريقين، بل تعاملت مع القضية بشكل ٍعادي وعلى هذا الأساس فإن قرار التجريم الصادر من المحكمة يخلو من المنطق الإقناعي وإن الأدلة المتوفرة ضد المتهم سعيد قزاز غير كافية لإدانته وفق أحكام الفقرة 3 من المادة 214 من قانون العقوبات البغدادي لذا فإن الفقرة الأولى من قرار الحكم الصادر بتاريخ 4/ 2 1959 مخالفة للقانون وللأصول وللمنطق وإنها ألصقت بسعيد قزاز تحت تأثير الهتّافين الذين ليسَ لهم أية صفةٍ قانونيةٍ في داخل قاعة المحكمة. وقد أستعملت كلماتٌ بذيئةٌ وتافهةٌ صدرت من المستمعين ضد المتهم داخل قاعة المحكمة، ولم يتم منعهم من ذلك وأفترى بواقعة غير صحيحةٍ ضد سعيد قزاز وتمت مقاطعة دفاعه أكثر من مرة وكانت تشكيلة المحكمة كونها محكمة عسكرية تفتقد للفهمِ القضائي والقانوني المطلوب في الهيئات القضائية، وعلى إعتبار أنَ جميع أعضائها ورئيسها لم يدرسوا القانون ولا أساليب العمل القضائي ولا فن الصياغة القانونية ولم يتعرفوا على نصوص القوانين التي تنظم عمل المحاكم وأصول العمل القضائي، بإستثناء المدعي العام السيد ماجد محمد أمين. مع وجود القضاء العراقي العادل والنزيه لا يوجد ما يبرر تشكيل المحكمة العسكرية الخاصة التي أثبت عملها عدم معرفتها بأبسط القواعد القانونية ، حيث قام رئيس المحكمة بتحليف المتهم سعيد قزاز أكثر من مرة والمتهم لا يمكن تحليفه مطلقاً على عمل أتهم به. وحينما لم تسمع المحكمة لشهادات 46 شاهد بسبب أنها لم تجد متسعاً من الوقت لتستمع الى شهاداتهم في قضية عقوبتها الإعدام ، إضافة الى دفاع وكيل المتهم الذي أنتدبته المحكمة للدفاع عنه – المحامي صلاح الدين محمد الذي يقول بان ان المتهم أستجار به فآجره وأنه أضطر مكرهاً الى الدفاع عن المتهم وأمثاله وأنه لن يطلب البراءة أو الرأفة لسعيد قزاز بإعتباره مؤتمناً على حياته وف نصوص قانون أصول المحاكمات الجزائية وما يمليه عليه الضمير وأخلاق المهنة فلم يكن في موقع محامى الدفاع إنما تقمص مهمة محام الإتهام. إضافة الى النقد الذي وجهته جريدة إتحاد الشعب الناطقة بإسم الحزب الشيوعي العراقي بعددها المرقم 190 في 4/9 / 1959 حول الهتافات داخل المحكمة ونفت علاقة الحزب بها. ورغم ورود جواب من كافة مديريات الشرطة في الألوية العراقية تنفي وجود أوامر أو برقيات من وزير الداخلية سعيد قزاز تقضي بإستعمال الرصاص أو العنف في التصدي للمظاهرات وعلى هذا الأساس فإن الأسس التي أرتكز عليها قرار الحكم الخاص بسعيد قزاز غير قانونية ولا تصلح للإدانة.ويسرد القاضي زهير في سير مناقشته القضائية حول مسألة الحكم المجحف الصادر بحق الراحل سعيد قزاز- ويمكننا القول بأنَ سعيد قزاز تمت إدانته بتهمٍ باطلةٍ مما يقتضي النظرَ بعين الإعتبار لإعادة محاكمته ولإصدار القرار القضائي العادل بما يتناسب مع التهم الحقيقية في القضية مع إننا لا ننفي تحمله جزء من مسؤولية الأفعال حينها ولكن لا يمكن تحميله لوحده أخطاء الحكم الملكي كلها أو الجرائم التي أرتكبت في عهده.ويستأنس ي ضمن مناقشته القضائية بآراء مجموعة من المحامين والحقوقيين و ينقل عن المحامى عبد القادر الدبوني – بأن محكمة المهداوي لم تكن محكمة بالمفهوم القضائي ، والقضية ضد سعيد قزاز كانت على ما عتقد ملفقة ومجسمة ومقصود بها ضرب أركان العهد المباد ، إن قرار التجريم كان واهياً وقرار الحكم كان جائراً ونزاهة المحكمة معدومة والعدالة غائبة عننها كلية منذ البداية حتى الختام. ويقول الأستاذ المحامى محمود الجلبي إن سعيد قزاز تحدى محكمة المهداوي معتزا بنفسه مدافعاً عن كرامته مؤمناً باله وبالمصير. وينقل على لسان الأستاذ الراحل جرجيس فتح الله المحامى – أستطيع أن أعدد لك أسماء نظائر للعبدي كثيرة قلدتهم ثورة 14 تموز مناصب هامة لم تكن مسؤوليتهم عن قتلى المظاهرات بأقل من مسؤولية القزاز بفرض إعتبارها مسؤولية قانونية. ويعلق القاضي في ورقته القضائية القيّمة بالقول- ومما يؤكد تعسف المحكمة وعدم عدالة القرار، عدم إلتفات المحكمة الى جميع أسباب الرأفة ، فالمتهم كان قد خَدمَ الوظيفةَ العامةَ أكثرَ من ثلاثةٍ وثلاثين سنة.إضافة لذلك فهو قد عبَرَ الخمسين من العمر وأنه خدم الوظيفة دون أنْ يقترفَ أيةَ مخالفة قانونيةٍ أوإنضباطية، ومما يجعل العدالة غائبة فإن محامى الدفاع لم يواجه المتهم لتنويره بعضَ الحقائق المثارة في المحكمة وتحوّلَ وكيل الدفاع الى وكيل إتهام ضد المتهم. ونَسِيَ القائمونَ بالمحكمة مبدأ أساسي وهو أنَ المتهم بريءٌ حتى تثبت إدانته الاّ إن المحاكمةَ جرت منذ البداية بشكل غير أصولي وغير حيادي. فالمتهم مدانٌ ولم يستطع أحدٌ إثبات براءته.ولا أعتقد أنه يختلف إثنان في العراق بأن موقف القزاز بما أسفر عنه من نتائج موقفٌ يوصفُ بالشّجاعة والكبرياء، ومن موقعِ الواثق من نفسه. ولا يختلف إثنان بما فيهم المهداوي رئيس المحكمة من أن سعيد قزاز كانَ نزيهاً وعادلاً ويشغل المنصب الذي يستحقه. وإذا كانَ لابُدَّ من تقييمِ عامٍ لما جرى مع سعيد قزاز فلا أزيدَ على أن أقولَ أنه كانَ مَجْنيّاً عليه وليسَ مُتهماً.
سطور من الأيام الأخيرة في حياة سعيد قزاز
يقول القاضي زهير كاظم عبود في الفصل الرابع والأخير في كتابه والمتعلق بالأيام الأخيرة من حياته(( تختلج أعماق المرء أحاسيسٌ وإنفعالاتٌ خاصة حينما يعرف أنَ لحظات نهاية حياته قد أقتربت فقد يتمسك بالحياة ويتحول الى شخصٌ منهار مسكين أو يقوم بطلب الرّحمة والمساعدة من سجّانيه أو ممن لهم سلطة الأمر بإعدامه ويتعامل برقة مع زملاء زنزانته ، أو أنه ينتظر لحظة الخلاص والأمل من أية بارقة أو حلم يتصورها ستحدث بعد لحظات. ومن يتعايش مع هذه اللحظات ينقل بصدق اللحظات أوالأيام الأخيرة من حياة سعيد قزاز، لقد كانَ سعيد قزاز جريئاً وشجاعاً في محكمة المهداوي، وبعد أنْ صَدرَ عليه الحكم بالإعدام كانَ صلباً وشجاعاً ومؤمناً بقدر الله سبحانه وتعالى وإنَ صلابته أحياناً تتخطى المعقول)). ويضيف القاضي بأن سعيد قزاز (( كان مثقفاً يجيد اللغة الإنكليزية وقد شاهده العقيد المتقاعد السيد الصفار وهو يطالع كتاب جواهر لال نهرو لمحات من تاريخ العالم باللغة الإنكليزية وأنه تدرج بالمناصب الإدارية بجدارة من مدير الناحية حتى وصل الى وزير الداخلية. وعندما ألقى المرحوم سعيد قزاز دفاعه في محكمة المهداوي وعند عودته الى السّجن سأله السّيد الصّفار عن أسباب هذا الدفاع الحاد والرّد القوي على رئيس المحكمة فأسر السيد الصفار والحديث للمرحوم قزاز، أثناء ما كانَ في قفص الإتهام في محكمة المهداوي كانَ يشاهد العقيد وصفي طاهر مرافق عبد الكريم قاسم والذي كان قبلها مرافقاً لنوري السعيد يجلس متشفياً في المقصورة المخصصة لجلوس المِلك لمشاهدة سعيد قزاز في قفص الإتهام حيث إنَ محكمة المهداوي تنعقد في بناية البرلمان القديم الملاصق لوزارة الدفاع وإنه أي سعيد قزاز كانَ يقصد بكلمته الشهيرة بأنه لا ترهبه المشنقة وعندما يصعد عليها سيرى الكثيرين ممن لا يستحقون الحياة تحت أقدامه أنه يقصدُ بها وصفي طاهر. وقد تم نقله في زنزانة إنفرادية بعد إلقائه الدفاع وطلبوا منه الإعتذار من هيئة المحكمة الاّ أنه أصرَّ على عدم الإعتذار ثم تمت إعادته الى قاعته الأولى مع زملائه. وعندما أبلغوه بالتنفيذ قام يودع السجناء منتصب القامة بشوشاً يصافح بقوة تنم عن إيمان كبير وقام بالسّلام على جميع زملائه وسجّانيه ، وفي اليوم الثاني حضرت عوائل كثيرة الى باب السجن لتوديع أبناءها وكان من ضمن من حضر لتوديع سعيد قزاز زوجته وأبنته وزوجها وإنه طلب من السجّان رئيس عرفاء ونّاس أن لايسمح لعائلته بالمواجهة ويخبرهم أنه يرفض مواجهتهم الاّ إن السّجان وقعَ في حَيْرةِ وإرتباك وحَرَجْ. فالنساء تبكي واللحظات نهائية وأخيرة وبعد إلحاح السّجناء قامَ السّجان بلإدخال عائلته وكانت إبنة سعيد قزاز تسب وتشتم حكومة عبد الكريم قاسم بينما كانت زوجته تبكي وقد ودّعهم بعيداً عنهم في زاوية الزنزانة وكانَ يتكلمُ معهم بالكوردية وطلب منهم الذهاب بسرعة وتركه يواجه مصيره المحتوم)).ويقول الباحث بصدد تركة الراحل سعيد قزاز (( لم نعرف أن لسعيد قزاز إرثاً عائلياً أو أملاكاً عقارية في السليمانية وحتى في بقية مناطق العراق التي عمل بها وليسَ أكثر دلالة على هذا ما أورده المؤرخ حنا بطاطو في مؤلفه العراق الكتاب الأول حينَ لم يذكر إسم سعيد قزاز من بين الأسماء الواردة في الجداول الخاصة بتملك الأراضي الزراعية لرؤساء الوزارات والوزراء العاملين في العهد الملكي.إضافة الى عدم تركه عقاراً مسجلاً بإسمه ملكاً صرفاً بعد وفاته يمكن أن نعتبره من ممتلكاته العائلية ولهذا نستطيع الزعم بأنه لم يكن مبالياً بإنماء ثروة له سواء عن الطريق المشروع سيّما وإنه عملَ مدة غير قليلة بوظائف إدارية عالية توفر له دخلاًّ جيّداً يمكنه من توفير الكثير مع وجود عائلته الصغيرة أو عن الطريق غير المشروع الذي لم يسلكه أبداً. لم تكن هذه العائلة الصغيرة مرفهة ولم تستفد من مركز رب أسرتها الوزير المزمن بوزارة الداخلية ولم تتمتع بسفرة الى خارج العراق بل لم يذكر أحداً عن ظهور زوجة وإبنة سعيد قزاز ظهوراً لافتاً للنظر في مدينة بغداد حينما عمل كوزيرٍ أو في الألوية العراقية حينما عملَ بصفة متصرفٍ أو موظف إداري مما يزيد المرء حيرةً عدم تمكن هذه العائلة الصغيرة من تملك بيت يتناسب مع مكانة الوزير في حين بقي الوزير مستأجراً لبيوت حكومية قديمة تم إخلائها بحكم القانون بعد ثورة 14 تموز 1958 لتستأجر العائلة دراً مستقلةً من النوع النمطي المألوف. راتب الوزير في العهد الملكي ما يكفي عائلته ويوفر له إمكانية شراء دار أو بناء دار حديثة في ذلك الزمان ولكن ماذا خلّفَ سعيد قزاز لعائلته؟.ويستمر القاضي زهير كاظم في نهاية الفصل الرابع والأخير من كتابه في ذكر الجوانب المخفية والمضيئة من حياة الراحل سعيد قزاز بالقول: الكثير ممن ألتقيتهم أكدوا لي بأنَ سعيد قزاز لم يتخلَ عن قيمه وأخلاقه الكردية الأصيلة وهو ليّنٌ من غير ضعف وشديدٌ من غير عنف.ولم يكن سعيد قزاز إنعزالياً أو يعيش من خلال عُقْدةِ معينةِ فقد كانت علاقاته الأجتماعية تثبتُ عكس ذلك فقد كانَ إ جتماعياً يُحبُ المَرحَ وتجمع الأصدقاء والسّهر معهم أكثر الأحيان إضافة الى إمتلاكه ثقافة لا يستهان بها تدّل على مطالعاته المستمرة ومتابعته لشؤون الأدب والسياسة والصحافة والشّعر والثقافة بشكل عام.ويورد شهادة جديدة تتطابق مع السيرة الذاتية لموضوع البحث وعرضاً أميناً لوقائع صادقة مع التاريخ ما أدلى به الشاعر الكبير محمد مهدي الجواهري ليصف سعيد قزاز بأنه الرجل القوي والعفيف والشديد بمحاسبة المقصرين، العفيف الصّفة التي أفتقدناها في هذا الزمان . الصّفة التي أجمعَ عليها كل من ألتقيت بهم للتحدث عن سيرة سعيد قزاز تعمدتُ أن أسرد ماكتبه من لم يكن مع سعيد قزاز على وفاق أو ممن كانَ يتعارض سياسياً مع مفاهيم وسياسة سعيد قزاز، لكن شهاداتهم جاءت لصالح سعيد قزاز مما يدلل فعلاً أن الحقيقة لا تغيب وإن غابت بتعمدِ أو لظرفِ ما فالى فترة قصرت أم طالت لكنها ستظهر واضحة للعيان.وعلى لسان الأستاذ عبد القادر البريفكاني ينقل في الكتاب بأن السيد مسعود البرزاني كان طفلا صغيرا حينما زار سعيد قزاز متصرف لواء الموصل مع أهله من الكبار حول إخلاء سبيل بعض رجال البارزانيين الذين ثاروا على السلطة وكان السيد مسعود يتمتع بجرأة تفوق عمره لما يتمتع به من نباهة وذكاء غرسها فيه والده الزعيم مصطفى البارزاني رمز الحركة الكردية، فقد أقترب من المنضدة التي كان يجلس خلفها المتصرف وحينَ كان الكبار منشغلون سأله السيد مسعود عن أسباب إعتقال أهله وعن أسباب عدم إخلائهم من السجن؟ فما كان من سعيد قزاز الاّ أن يسحب أحد أدراج مكتبه ليستل منها قلماً من الحبر قدّمه هديةً متواضعة الى السيد مسعود البارزاني الذي فرح بتسلم هدية المتصرف ثم قام السيد سعيد قزاز لمخاطبة مسعود البارزاني من أنه يعرف أن للأكراد حقوقاً لكن العنف والسّلاح والقوة لن نجلب لهم حقوقهم فقط، هذا القلم من سيحل مشاكلهم ويكسبهم قضيتهم، وبقي السيد مسعود البارزاني يحتفظ ربما الى الآن بهذا القلم الجميل. هو يعرف أن لقومه حقوقاً وهو يعرف أيضاً أن هذه الحقوق مغموطة لكنه يؤكد بأن القوة والعصيان والتمرد لن تضع حلاّ لمشكلتهم، هذه وجهة نظره قبلَ أكثر من 40 سنة فالى أي عمقِ يشير سعيد قزاز ليضعَ مفاهيم ينادي بها الزمن بعد هذه السنوات الصعبة. ويضيف في نهاية تقيّيمه لشخصية سعيد قزاز بالرغم من طغيان شخصية الموظف الإداري على شخصيته المجردة إذ أنه كان يتابع ذلك على الرغم من محنة الحكم والسجن.فإنه لم يستطع مسح بعض الصفات الإنسانية التي يتمتع بها فتطغي أحياناً صفاته الإنسانية – الكردية النبيلة – فيقدم الخدمات التي تصل لحد الخرق القانوني ويقدم النصائح لأصدقائه حتى لو كانت هذه النصائح لأعداءه السياسيين فيبرهن بأنه عراقي يرتبط فعلاً بقيم وأعراف هذا البلد. وسعيد قزاز كردي القومية يعتز بإنتسابه لهذه القومية وعلى الرغم من أنه يعتبر من أعلام الكرد في العراق الاّ أنه لم يلقَ ذلك الإهتمام بشخصه وسيرته وذكراه مع أنني وجدتُ كل التقدير والحُب له من جميع الأخوة الأكراد الذينَ إلتقيتُ بهم أثناء كتابة هذه السيرة، وقد تلتفت أحدى مؤسسات الكرد للإهتمام بذلك بما تملك من قُدرةِ وإمكانية وتماسِ بموضوع البحث.وفي الصفحة الأخيرة من كتابه القيّم يؤكد القاضي عبود على مظلومية سعيد قزاز، ليثبت للتاريخ وللضمير الإنساني وللأجيال القادمة بأن العدالة لا تموت وإن غابت لأسباب قاهرة وعند زوال تلك الأسباب والمسببات وستنجلي شمس الحقيقة ولا يمكن لغيوم الضغائن السوداء من حجبها. من خلال مراجعتنا المتأنية للكتاب نستطيع القول بأن القاضي زهير كاظم عبود قد توفق كباحث محايد وكقاض متمرس في كشف الكثير من الجوانب المخفية في قضية محاكمة وتنفيذ حكم الإعدام الصادر من قبل هيئة المحكمة العسكرية العليا. وأنه أنصف بنظرته القانونية المحايدة سعيد قزاز ذلك الوزير الراحل من خلال هذه الجمل التاريخية(( وما دامت الأسس التي قامت في حينها لإصدار الحكم بالموت على سعيد قزاز والتي تم الإرتكاز عليها غير قانونية ولاتصلح للإدانة. تبرز أمامنا مهمة قد تبدو جديدة في واقع العراق السياسي الحديث، الاّ إن هذه المهمة ستكون من مهام رجال القانون والقضاء حينما يعود القانون والدستور والسيادة للعمل في العراق بعد أن زال حكم صدام حسين وطغيانه وإنتهاء عملية إنتهاك القانون والدستور والتفريط بسيادة وكرامة العراق، ستبرز مهمة القضاء الحيادي العادل في إعادة محاكمة بعض من تم تجريمهم من دون أساس قانوني وإصدار القرار القضائي العادل وفق التهم التي تمت محاكمتهم بموجبها وعلى غرارما يحدث في هذا العالم المتمدن حينما تدور دورة الومن ويتم إكتشاف حقائق تتطلب إعادة المحاكمة والمسألة إعتبارية تدخل في صلب حياة العراق. وما بين عام 1959 وعام 2004 فترة عصبة عاشها العراق وقد رحل الكثير من شهود الأحداث عن هذه الدنيا ولكن الحقيقة كما قلنا هي العمود الفقري للتاريخ فقد تغيب بعض الوقت الاّ أنها حتماً ستبرز واضحة وصريحة سيّما وإن الكثيرمن شهود الأحداث قد سجلوا شهاداتهم التي نشرت.ولأن سعيد قزاز لم يكن بطلاً قومياً يمكن الإحتفاء به، ولا خائناً عَرَضَ الوطنَ للذّل والتقطيع فقد كانَ واضحاً وصريحاً ومؤثراً بأحداث العراق السياسية ومتأثراً بها لذا فإنَ بحثنا هذا لا يمكن أن يشكل بادرة لأعادة الإعتبار للرجل لأي سبب كان وإنما دعوة مخلصة لإعادة السّرد التاريخي للعراق بشكل مجرد خالِ من العواطف والإنحياز.والكل مدعو لمد يد العون في هذا السرد خدمة للعراق والتاريخ والحقيقة والأجيال القادمة لنتمكن من قراءة الأحداث وتحليل الشخصيات بقلبِ وضمير مفتوح.
الأنحياز أبداً للحقيقة في كتابة تاريخ السيرة
من حق كل قاريء جيد والذي يهمه إستجلاء الحقائق بعيداً عن منحيات الهوى أوالتمايل نحو المحابات وظهرأي مركب كان. لقد درسونا التاريخ منذ الطفولة، وفي مراحل الدراسة ولكن لم نفهم بوعينا وأدراكنا بقدر إدراك ووعي معلم تاريخنا نفسه. إذا صبّ جام غضبه على شخصية هو يعاديها وويرغمنا في تلك الطفولة البريئة أن نقتفي أثره في كيل اللعن والغضب تارة بطاعة عمياء منّا وتارة أخرى تحتَ تأثير المحيط المكهرب بالمفهوم الخاطيء لسياسة الرأي الآخر. الذي يناهض الفكر السائد سواء كان فكراً شمولياً أو وطنياً أو أية أفكار أخرى راسخة في ذهنية المعتنق.ولدى قراءتنا المتواضعة لكتاب القاضي زهير كاظم عبود المنشور لمحات عن سعيد قزاز المطبوع من قبل وزارة الثقافة حكومة اقليم كردستان في السليمانية ومن ضمن سلسلة مطبوعات المديرية العامة للطباعة والنشر التابعة لها، لقد خرجنا فيها بملاحظات جاءت جلّها بين ثنايا العرض المكثف للكتاب ونُسجل صانية تقديرنا الجمّ لقلمه بأنه أبداً سبّاقٌ لقول الفصل وبيان الحق في سجل من نسيهم التاريخ المجحف كشخصيات كانوا أو أقوام أو أقليات. هذا السبيل الصعب قلما تجد مَنْ يَسْلكه دونَ مَطمعٍ أو مَغْنم وهذا ما لم نجده لدى مؤلف كتاب لمحات والشبك واليزيديين والصائبة. وإنَ كتابته حول تصحيح الحقائق وتقويم الأعوجاج في سير من شوّهوا حقيقة سعيد قزاز كرجل سعى الى تطبيق القانون في حقبة زمنية صعبة وفي موقع وزاري سيادي وكما أشار إليه آنفاً -اذا ما تجردنا من الإنفعال في تشخيص وتقييم سعيد قزاز يمكن أن ننتهي الى كونه نموذجاً للسياسي والإداري التقليدي الذي يطغي عليه إخلاصه للحكم الملكي وما تفرضه عليه بيئته الإجتماعية وما ترسخ في عقله من قيمِ ومفاهيم وأعراف بقي يتمسك بها حتى اللحظات الأخيرة في حياته-. ولا بد أن نشير الى الشيء الذي عكر وللأسف صفو قارئ الكتاب هو كثرة الأخطاء المطبعية في الكتاب ولا يمكن للقارئ أبداً أن يغفر للمطبعة خطئها والتي شوّهت بدون عمد جهود المؤلف ولم ينتبه المشرف على الطبع الى تعبه الجميل من أجل تدوين سيرة سعيد قزاز وفق نهج معلوماتي تاريخي جديدبعد إعتماده على العديد من المصادر التي أغنت موضوع بحثه.و نوّدهنا أن ننوه الباحث بأن إعتماده على المصادر العربية لا تكفي في معرفة كل الحقائق المتعلقة بسيرة سعيد قزاز. وربما هناك العديد من المصادر الأخرى المكتوبة باللغات الأجنبية، وخصوصا باللغة الأنكليزية. أنهم حكموا العراق لمدة تزيد على أربعة عقود، وحتما إن خزانتهم وأرشيفهم تحتفظ بالكثير من تلك الوثائق المهمة التي تتعلق بسيرة سعيد قزاز وأمثاله من رجال العهد الملكي. وأرى أيضاً من المستحسن تثبيت ملحق مختصر في نهاية الكتاب للتعريف بأسماء الوجوه والشخصيات والأماكن التي وردت في ضمن الكتاب.أونشر بعض الصور التي تتعلق بشخصية صاحب السيرة. نسجّل مجدداَ تقديرنا للجهده المبذول من أجل الحقيقة، وكما جاءت في مقدمة الكتاب بأنها هي التي تتكلم عن ذاتها مهما كانت منسية ولا مجالٌ فيها للتأويل.
حكيم نديم الداوودي
المصادر
1 – لمحات عن سعيد قزاز. زهير كاظم عبود .سليمانية وزارة الثقافة المديرية العامة للطباعة والنشر 2004ط .1
2- بعثيون ومحاكم.مقال للكاتب والصحفي داوود البصري المنشور في موقع عرب تايمز.
3-حول رأي الدكتور سيّار الجميل مقال للأستاذ فؤاد حمدي.
موقع الاتجاه الآخر صفحة الهايد بارك. حول رأي للأستاذ د. سيار الجميل
بوك ميديا