ثمة سبل شتى لإسباغ الشرعية على القتل، نظمت له طقوس جماعية، وأدوات تجمع العلم بالفن، بالتنوع.
ابتدعت الحضارات وسائل شتى: السيف للقطع، الفأس للنطع والمقصلة للبتر وحبل المشنقة للخنق، وهي أدوات حرب وأسر قديمة قدم الكائن البشري. وهي تستهدف رأس الكائن، كوى تفكيره وأحاسيسه، ونافذته على العالم. وينبغي إغلاق كل هذه النوافذ دفعة واحدة. لعل أبشع أدوات الموت هي الحرق (للساحرات والهراطقة)، أو دفن المرء حياً كما فعل بعض الخلفاء بالخصوم، أو الرمي من أكمة صخرية. ثمة طقوس اخرى تُرمى فيها الاضحية البشرية الى الضواري المفترسات (حلبة صراع الرومان) ابتدع الفرنسيون المقصلة، ابتدعها مخترع كان يرمي زعماً الى اختزال الألم الانساني. وابتدع الاميركان الكرسي الكهربائي، فحولوا اختراع اديسون المنير الى جهاز شواء بشري، تتفجر فيه الدماء من مسامات المعدوم على الكرسي. ثم ابتدعوا الزرق بالأبر، أو الانتشاء المميت بالغاز السام. لكن طقس الفناء المنظم هذا، الجماعي بالتعريف، كان دوماً بحاجة الى نظارة. وحيثما ثمة نظارة، ثمة فرجة، ثمة إمتاع، مشهدية منظمة. فها هنا أضحية بشرية معدة للفناء، وها هنا أحياء يحتفون، على الارجح، بأنهم لا يشهدون موتهم الخاص، بل نهاية كائن آخر.
تجتذب هذه الطقوس الدهماء، وتذكي فيها كل الغرائز الدنيا.
تبدو واقعة إعدام الرئيس العراقي المخلوع بسيطة، مثل أية واقعة اخرى، رغم حشد المشاعر الجياشة التي أطلقتها، فرحاً بنهايته، أو أسىً عليها.
تبدو لي “الواقعة” شائكة، بل مركبة، تشبه الإله الاغريقي جانوس، صاحب الوجوه الاربعة، حارس الابواب والاتجاهات، سيد الاقنعة، الناظر في كل حدب وصوب. بدا المشهد تراجيديا وكوميدياً في آن. فالجلادون، أي منفذو الشنق، ظهروا بأقنعة سوداء، على غرار حامل الفأس الكلاسيكي الذي يظهر في أفلام هوليوود، عاري الصدر، مفتول العضل، يضع رأٍس الضحية (مليكا أو مليكة، نبيلاً أو نبيلة) على النطع، ويعتذر من الضحية، ثم يهوي بالفأس بلا رأفة.
هذا الجلاد يبدو باعتذاره رجل كياسة ولطف، وما اعتذاره إلا كنايه عن هذا الادب. ثمة “أسطورة” شائعة في السعودية ان عوائل المحكومين بالاعدام تدفع للسيّاف أعطية كي يشحذ النصل ليبتر ببراعته عنق ابنهم دون كبير إيلام. تشي هذه “الحكمة” بحنو الاهل. أما في العراق فثمة “حكمة” اخرى تشي بحنو الدولة على الجلاد.
يُقال في العراق ان منفذ الاعدام (الجلاد) المكلف بوضع الانشوطة حول الرقبة. ثم سحب عتلة بوابة الجحيم، يكابد مشقة المهنة ويبلغ من الرقة مبلغاً بحيث أن المحكمة تدفع له مخصصات “ربع” (بطحة) عرق لكي يكرعها ويخدر حواسه أمام هول ما هو صانع! لا أدري من اخترع هذه الاسطورة، غير ان أبناء جيلي سمعوها مرارا. لعل هذا التخيل يحوي بذرة حقيقية: احترام جلال الموت حتى عند الجلاد. ولعل مبتكر الحكاية أراد القول ان القتل بشع، حتى لو كان مشروعاً. فالحضارة البشرية تسعى، منذ أن بدأت تسن الشرائع، الى الخروج من عالم الحيوان، وان يكن بوسائل حيوانية، حتى الآن.
في مشهد الاعدام العراقي، كما سجلته العدسات، بدا المنفذون المقنعون يمارسون الطقس بحرفية عالية، بل بانتشاء. أما النظارة، وهم كثر، فقد كان أغلبهم هناك للفرجة، والتشفي، وهنا ايضاً نجد على غرار أفلام هوليوود، واقنعة وغوغاء، صياحاً وبذاءات، سيان ان تصرخ الدهماء: الموت للملك، أو أن تهلل وتكبّر! فالدراما واحدة.
في الحشد، كان الرئيس ـ الاضحية هو النجم. بدا، لحظة دخوله ردهة الاعدام، شاحباً، فبشرته سمراء، زيتية اللون، لكنها بدت بلون الطباشير. أما عيناه فزائغتان، تفتقران الى التركيز في النظر. تلك كانت لحظة رهبة، موجعة ولا ريب.
اعتاد الرئيس أن يرسل أضاحيه الى المشنقة من مكتبه الرئاسي، بإمضاء. ولعله فعل ذلك مئات المرات، دون أن يدلف قاعة إعدام قط. ها هو اليوم يدخل أول مرة لآخر مرة. بدا أنيقاً بمعطفه الكشميري، الداكن، وتمالك رباطة جأشه: بعد هنيهات ارتباك كفت عيناه عن التقلب، وراح يشخص بناظريه الى نقطة وهمية في الفراغ، في وقفة استعداد عسكري، في تهيؤ لاستقبال تلك القفزة المميتة.
كان مدركاً، على ما يبدو، ان عدسات الكاميرا، التي عشقها واحتكرها، مصوبة، وينبغي أن يكتب النهاية على طريقته. لحظة لفوا على رقبته وشاحاً أسود قبل وضع الانشوطة، أشحت وجهي عن الشاشة. تعطلت كوامن فضولي بغتة، بعد أن تعطلت كراهيتي له أصلا، منذ القبض عليه، واستحالت نوعاً من ازدراء خاص لا اسم له.
تفقد إجراءات التنفيذ مغزاها بل جوهرها القانوني، حيث تتحول الى هياج دهماء منفلت.
يبدو طقس الموت الشرعي، في نظر مبتكريه، دراما اغريقية جوهرها “التطهير” فالفكرة في الاساس (كما قال هيغل) هي ان العقوبة “حق المجرم”، فهي، بكلماته ايضاً، اعتراف بآدميته، وإقرار بأنه داس على حدود هذه الآدمية. وترسم الحضارة، عادةً، حدود هذا التجاوز وسبل ردعه. وبهذا المعنى فالطقس، على قساوته، برهان على أن قسوة مماثلة قد وقعت، وان التطهير بات ملزماً للممثل والنظارة على حد سواء.
ويشهد طقس النهاية هذا، عادة، ممثلون عن القضاء، اعترافاً بأن الشرائع المدونة هي أساس هذا التبرير وغايته. بل ان أسر الضحايا تدعى أسوة بأصدقاء المدان، في مسعى مزدوج، لإشباع رغبة الثأر وهي شكل قديم للعدالة غير المقننة، وتوديع الاهل. ولا نجد هذا التوازن الاخلاقي إلا في أفلام الغرب، وتقاليده. نحن لنا خصوصيتنا. وهذه الخصوصية تكمن في طمس كل مقاصد القانون، وإطلاق النوازع السفلى. بتعبير آخر نحن نحبذ استمرار القسوة، من الجلاد الى الضحية، من الدكتاتور الى الدهماء، ومن الدهماء الى دكتاتور جديد.
يرقد الرئيس المخلوع الآن في تلك الحفرة الابدية، حيث اللامبالاة المطلقة بسوءات الكائن البشري، أو مزاياه. ها هو ذا يدشن المآل الذي اختاره لكل خصومه. وان التأمل في هذا المصير يبدو لا نهائياً في تشعباته.
فوجوه الرئيس لا عد لها.
ثمة الرئيس القروي القادم من قرية العوجة، وثمة الرئيس القاتل الذي يطلق النار على الزعيم عبد الكريم قاسم، وثمة الرئيس السفاح الذي يأمر بإبادة قرى كاملة بالغازات، وثمة الرئيس “المناضل” في الحزب السري، وثمة الرئيس القبلي، وثمة الرئيس المحارب، والرئيس العروبي، وثمة الرئيس المخلوع، وثمة الرئيس المدان.
لقد وثق هذه وغيرها من الادوار في معرض خاص، حوى صوره الفوتوغرافية بلباس عسكري، وآخر مدني، بسدارة عراقية وعقال عربي، أو “غترة” راع، أو شروال (سروال) كردي، أو قبعة صياد ألماني، أو معطف فرو روسي.
يصور الصديق فاضل العزاوي، في إحدى قصائده، دكتاتوراً شغوفاً بالتماثيل الالف التي صنعت له، فيزورها خلسة، ويجلو عنها الغبار، ويمحضها حبه وبركاته، ولما وجد أن هذه التماثيل تحظى برعاية وحب أكبر مما يصيبه، وخزته أشواك الحسد. ولعله حطمها، لينفرد هو دونها بالاضواء.
في كل هذه التلاوين ثمة شيء ثابت: لقد رسم الرئيس المخلوع ـ الميت، ملامح الدولة والمجتمع على صورته، بقوة الكرباج، وبالذهب الرنان. من قبيلته استمد قطيعاً من الجلادين، لا يختلف في أخلاقه كثيراً عن الدهماء الفجة التي طاردته باللعنات لحــظة إعــدامه، ومن الفورة النفطية ملأ خزائن المال، ونثرها يميناً وشمالاً.
سيرة المجتمع والدولة في العراق، تشبه سيرة رئيسها العجوز ولكن بالمقلوب.
بدأ الرئيس طفولته قروياً مخلوعاً، يركن الى دفء القرابة في بيت خاله رغم أن النسب الامومي مذل تماماً في عالم الذكور البطريركي.
في يفاعته تشرب أفكار القومية النازية الالمانية من خاله، خير الله طلفاح، نائب الضابط الاحتياط، والمذيع الذي يلقي خطابات نارية نازية، سمجة، ومملة، من إذاعة بغداد في الاربعينيات. وفي شبابه انجذب الى البعث، حزباً قومياً، بمسحة ليبرالية.
وفي رجولته أخذ يميل الى اليسار، وراح يرنو الى ستالين والستالينية، فكرة “الاشتراكية” الممركزة التي تحميها دولة عاتية وزعيم معبود.
لكن الدولة العراقية اتخذت، في المحطات الرئيسية، مساراً مقلوباً: ابتدأت بنزعة اشتراكية ـ ستالينية، لتبتز اليسار العراقي وتغنم تراثه، وتحولت الى قومية معتدلة، وانتهت قبلية، قروية، محافظة. ختم هذا التطور على الدولة والمجتمع بخاتمه. فالدولة فقدت كل مقوماتها المدنية، وتهاوت المؤسسات الواحدة تلو الاخرى. أما المجتمع فإن تمزقاته أعادته القهقرى الى دفء القرابة، لائذاً بالجوامع، باحثاً عن حساء الاحسان، ذاهلاً عن وجوده الانساني.
ان كــان ثمــة إرث لهذه الحــقبة، فهو التدمير المنظــم لكــل ما هــو مدنــي. وما الغرائز الدنيا التي أحاطــت بصــانع هذا الارث لحظة إقصائه عن الوجود سوى نتاج هذا التدمير.
كان ينبغي لمحاكمة الرئيس المخلوع، والحكم عليه، وتنفيذ هذا الحكم ان يجري مجرى مدنياً. وبخلافه فإننا نعود القهقرى نتدحرج مثل حجارة، بلا ذاكرة، بلا أفق.
التآخي