الرئيسية » شخصيات كوردية » الشهيد دارا توفيق كما يصفه من عرفوه- ذكريات عطرة عن رجل اثيري نادر غرد خارج سرب سلطة الاعلام الدكتاتوري

الشهيد دارا توفيق كما يصفه من عرفوه- ذكريات عطرة عن رجل اثيري نادر غرد خارج سرب سلطة الاعلام الدكتاتوري

ملف اعده/ احمد لفته علي
وشيرين البدري

التاريخ يكتبه الرجال الافذاذ بدمائهم وافعالهم، لتبقى سيرهم انموذجا للاتين من الاجيال اللاحقة،فمن اولئك الافذاذ الشخصية السياسية والثقافية والصحفية المرموقة دارا توفيق تفتحت عيناه على الفكر التقدمي اليساري وتخرج من مدرسة الزعيم الخالد الملا مصطفى البارزاني، شخصية رائعة كروائع الطبيعة الكوردستانية الخلابة الجميلة، وروائع جبال كوردستان العالية، لتبقى انشودة في فهم التاريخ للشعب الكوردي الاصيل الذي لاقى كل صنوف القهر والاستبداد والعنف والارهاب والشوفينية طوال عقود طويلة من الزمن.
وكان لا بد لرجال الكورد الابطال من مواصلة المسيرة النضالية الشاقة لتستقيم عندهم الحياة بموازاة الشهادة، ظاهرة الشهادة التي اقرها العرف الانساني والشرائع السماوية عندما تكون الشهادة ضد القهر والظلم والذل والاضطهاد على الهوية القومية..
دارا توفيق استوت عنده الحياة والشهادة وجدارة الموت من اجل قضية نبيلة دفاعا عن العراق الكبير.. ودفاعا عن الشعب الكوردي ضد كل صنوف الشوفينية والظلم والقهر وعدم الاعتراف بالاخر، وعدم الاعتراف بالخصوصية المتميزة للكورد كشعب لا يختلف عن سائر شعوب الارض قاطبة…
لنقرأ في هذا الاستطلاع الذي اجرته (التآخي) مع نخبة من الوجوه الصحفية والثقافية المرموقة حول الشهيد الراحل (الغائب الحاضر) دارا توفيق رئيس تحرير جريدة التآخي للمدة من (1970-1974) مع الاساتذة: الدكتور بدرخان السندي وعبد المنعم الاعسم ومحمد الملا عبد الكريم المدرس وحسب الله يحيى وفرهاد عوني.
د.بدرخان السندي: كان متمرساً في الصحافة ويبحث عن النخب
تعود بي الذكرى الى اول يوم تعرفت فيه الى الشهيد دارا توفيق كان ذلك ابان المؤتمر الثامن للحزب الديمقراطي الكوردستاني في ناوبردان 1970 وكان قد اطلع على ما يبدو على كتابي (طبيعة المجتمع الكوردي في ادبه) وعلى بعض مما كنت قد كتبته في التآخي قبل تسنمه مسؤولية رئاسة تحرير التآخي.. ودعاني الى ان اكتب اكثر وفي مناسبة اخرى في بغداد دعاني للعمل في جريدته وفعلا انتقلت من اربيل- حيث كنت مدرسا- الى بغداد والتحقت بجريدة التآخي بعنوان رئيس قسم التحقيقات الصحفية كما انيطت بي مهمة تحرير صفحة اتحاد الادباء الكورد.
ومن الزملاء المحررين الذين عملوا معي في قسم التحقيقات ومازلت اذكرهم: عبد المنعم الاعسم (صحفي يسكن لندن حاليا) عادل الهاشمي (الناقد الفني المعروف) ياسين عمر ياسين، توفي بحادث مؤسف، اسماعيل.. (اغتيل)، عبد ا للامي.
وجدت في الاستاذ المرحوم دارا توفيق اسمى ايات الدعة والهدوء والكياسة والاخلاق الرفيعة والرغبة في الاستماع الى اراء المحررين ومقترحاتهم، والحق اقول انه كان في منتهى الثقافة السياسية والقدرة على التفاوض.
كان رجلا لايعرف التعب.. هذه حقيقة لمستها فيه فقد كانت مسؤولياته جسيمة انذاك ولم يكن متفرغا (للتآخي) فحسب بل كان عضوا في الجانب الكوردي المفاوض خلال السنوات الاربع التي تلت اتفاقية الحادي عشر من اذار وكثيرا ما كان يحضر الاجتماعات المطولة في لجنة السلام او في لجان عليا اخرى ليعود ليلا الى الجريدة فضلا عن البرقيات التي كانت تصله من القيادة اي من مقر البارزاني الخالد بوجوب حضوره فكان يهرع حالا بسيارته الـ(رينو) مع سائقه لنجده في اليوم الثاني قد عاد من كه لاله وعلامات الارهاق بادية على وجهه يغطيها بابتسامة دائمة…
اما من الناحية المهنية الصرفة فيظهر ان دارا توفيق كانت له خبرة لابأس بها في مجال الصحافة ربما اكتسبها من خلال نشاطه السياسي في منظمة الشبيبة العالمية ابان كان طالبا يدرس الهندسة في لندن وعلى اية حال فهذه هي اتجاهاته كرئيس تحرير.
1- كان لايرغب بالاطالة والاسترسال ويرى ان المقال الناجح في الجريدة اليومية هو لمن التزم بـ(خير الكلام ما قل ودل) ولذا كثيرا ما كنا نجد مثل هذه العبارة تتصدر المقالات التي كان يطلع عليها (يختصر الى الربع) او (يختصر الى النصف).
2- كان لايكتب الافتتاحية بنفسه ربما لعدم تمكنه التام من اللغة العربية ولكنه يعطي رؤوس الاقلام الرئيسة فيها الى احد المعتمدين في (التآخي) واذكر انه كان كثيرا ما يكلف الاستاذ محمد الملا عبد الكريم بكتابتها كما كان يكلف المحامي رسمي العامل (رحمه الله) ونجدت صفوة فتحي والسيد احمد جزراوي سكرتير تحرير الجريدة وقد كلفني مرات عدة بذلك ايضا.
3- كان يؤكد على مشكلات الناس ومعاناتهم في التحقيقات الصحفية ويميل الى التحقيقات الجريئة والاعمدة الجريئة ايضا مثل: مسمار وشعب يريد، ولكنه كان لايستسيغ الاعمدة التي تعرب عن الذات وليس عن الموضوع اي الاعمدة (الاستعراضية) لمآثر صاحب العمود وتسخير العمود الى دعاية شخصية. هذا ما كان يتصدى له دارا توفيق ويشعر بالاشمئزاز ازاء ذلك كما كان لايستسيغ الكتابات ذات الطابع الوجداني وهو شخصية براكماتية بحق.
4- كان يبحث عن (النخب) في الكتابة فعمل معنا في تحرير التآخي كل من نجدت صفوة فتحي وهو سياسي ومثقف كبير ووزير مفوض سابقا في الاتحاد السوفيتي وعبدالغني الملاح (كاتب ومؤرخ) وجعفر ياسين (اقتصادي) وكاتب سياسي، وبشير مصطفى الشاعر وحليم الاعرجي الصحفي والمؤرخ فضلا عن الكتاب من خارج الجريدة.
5- كان ميالا الى تحديث المواد الادبية والفنية حتى اذكر انه سألني مرة عما اذا كنت اعرف شخصا بامكانه ان يكتب عن المسرح الحديث وخص (بريخت) كمثال فرشحت له المرحوم (ناصر يوسف) وفعلا ارسل ناصر يوسف مواد في هذا المجال ولكنه اي ناصر لم يكن مواظبا على الكتابة رغم ثقافته العالية.
لقد واكب دارا توفيق كرئيس تحرير مسألة تأميم النفط باهتمام شديد وقد فهمنا منه انذاك سر اهتمامه فقد كان يرى من الموضوع سلاحا ذا حدين (خير للعراق وشر للعراق) في آن واحد فهو ثروة وطنية ولكن الالة العسكرية التي كانت تهدد ثورة شعبنا الكوردي واحتمال انتعاشها بانتعاش الاقتصاد العراقي كان ما يقلقه.. لقد كان دارا توفيق يرغب في ان يكمل الطلبة الكورد دراساتهم العليا وعندما اخبرته برغبتي في ذلك سعى لي حثيثا في السفارة السوفيتية وحصلت على قبول اولي انا وزوجتي ولكن كان طفلنا الوحيد انذاك السبب في عدم ذهابنا اذ اخبرتنا السفارة اننا لايمكن ان نصطحبه معنا فهم غير مسؤولين عنه ويتعاملون معي ومع زوجتي كطالبين مستقلين لاغير. ولكن بعد ان اعلنت البعثات في عام 1974 من قبل وزارة التعليم العالي سعى رحمه الله ايضا لدى وزارة التعليم العالي لتأمين بعض المقاعد او تأمين قبول بعض الطلبة الكورد وقد حصل ذلك وان كان عددنا ضئيلاً جدا قياسا بقبول 600 طالب بعثة في تلك السنة ..اذكر من الطلبة الكورد المقبولين محمود زامدار الذي لم يذهب وآثر البقاء وبعضهم ذهب ولم يعد..!!
كان رحمه الله مخلصا جادا في خدمة قضية شعبه الكوردي.. وربما الخطأ الوحيد الذي اقترفه انه عاد الى بغداد بعد النكسة اذ أمن جانب الحكم الدكتاتوري الذي دبر له عملية اغتياله التي لم تعرف تفاصيلها على حد علمي الى اليوم.
فرهاد عوني: قدم لي الشهيد دارا توفيق اكبر واثمن نصيحة
واستكمالا للموضوع ارتأينا الالتقاء مع الاستاذ فرهاد عوني نقيب صحفيي كوردستان..
*سألناه: كيف تعرفتم الى الشهيد دارا توفيق؟
قال: قدم عمر دزه ئي في فترة الثورة الكوردية في الاعوام 1963 بعدها او قبلها بقليل، حيث فاجأنا عمر بصيحة مقرونة بتلفظ اسم دارا بتعريف مختصر لنا قائلا: دارا توفيق مهندس مدني من السليمانية ومناضل معروف فتم الترحيب به كثيرا وكان سيماه توحي لاول وهلة باللطافة والبساطة والبسمة لم تكن تفارقه مما جعلنا نهتم به كثيرا ولم تمض نصف ساعة على مجيئه حتى تبرعت بالذهاب الى المطبخ العام في المقر لجلب الغذاء له وهو صحن شوربة عدس مع رأس بصل اضافي وارغفة من خبر التنور.
وبعد الانتهاء من تناول الطعام بدأ يتحدث عن مهمته خلال المدة الماضية اي بعد استئناف القتال مع الحكم الجديد حيث كان مكلفا على رأس فريق بجمع مقادير من الحنطة في مناطق مختلفة من الاراضي المحررة دعما للثورة الكوردية التي كانت تواجه اقسى حملة عسكرية بعد حزيران عام 1963.. استمر كاكه دارا معنا اسبوعا كاملا وتبدل جو غرفتنا بوجوده اذ كان يحدثنا باستمرار عن الحياة في اوربا وعن حياته السياسية اذ دخل معرتكا في ريعان شبابه عندما كان طالبا في المرحلة الاعدادية في مدينة السليمانية حيث ولد فيها عام 1932م رغم كونه كان من عائلة ميسورة واستمر معه النشاط السياسي بفاعلية اكثر عندما انتقل الى بغداد العاصمة ملتحقا بجامعة بغداد وفي القسم المدني بكلية الهندسة وسببت له نشاطاته الديناميكية في مجال السياسة والثقافة عقوبة الفصل لمدة سنتين وعلى اثرها سافر الى انكلترا عام 1953م لتكلمة دراسة الهندسة في احدى جامعاتها واصبح مهندسا عام 1957م وخلال وجوده هناك في انكلترا لم يترك العمل السياسي بل ازداد نشاطه بفضل المناخ السياسي الليبرالي والديمقراطي فكان من المسهمين النشطين في التحضير للمؤتمر الاول لجمعية الطلبة الكورد في اوربا والذي انعقد في مدينة فيز باون الالمانية بتاريخ 10/8/1956 مع زملائه المؤسسين عصمت شريف قائلي، نور الدين زازا، سعدي حمدي امين دزه يي، تحسين هوراماني، ظاهر حسين، نهاد ماجد مصطفى).
مسهما في تشكيل تلك المنظمة الطلابية الكوردية المناضلة التي كانت سفيرة للكورد وكوردستان ذات يوم.
قبل ان تمتد اليها ايدي التخريب والانشقاق، واحتل دارا مكانة مرموقة في سكرتارية اتحاد الشبيبة الديمقراطي العالمي مؤثرا في قراراتها على الدوام لصالح قضية شعبه بفعل خلفيته السياسية والمرونة العالية التي كان يبديها في عمله..
*هل لكم ان تشرح لنا باختصار تأثير الراحل عليكم ونصائحه لكم بالذات خلال رحلتكم الحياتية النضالية في اضاءة دروب الحرية للشعب الكوردي المناضل وما هي انطباعاتكم عنه؟
-نعم في قرية عيساوي وبعد مرور اسبوع كامل ودعنا دارا متجها هذه المرة صوب عمل جديد مختلف كليا عن مهمته السابقة بعد ان عرف المهتمون بمصير الثورة معدن ومزايا كاكه دارا وتركنا بعد ان قدم لي اكبر واثمن نصيحة في حياتي..
وهي الاستمرار في الدراسة مهما كلف الثمن ونصحني بالابتعاد عن اللجوء لخلق التبريرات الوهمية وترك لي الجزءين الاول والثاني من رواية (الفولاذ سقيناه) وكراسا ملونا انيقا مطبوعا عليه بعض رباعيات عمر الخيام باللغات الفارسية والعربية والانكليزية وقد احتفظت بها الى ان امتدت اليه ايدي رجال السلطة عام 1974م في بغداد ونهبت داري مع دور الاخرين من اعضاء البارتي كوننا كنا قد التحقنا بالثورة عام 1974م.
وهكذا ترك عندي دارا انطباعا جيدا للغاية لم تستطع الايام والشهور والسنون محو ما سجلت في ذاكرتي عنه واصبحت نصيحته لي بالاستمرار في الدراسة خير حافز لاكمال دراستي الثانوية في كويسنجق حيث كانت نتيجتي في الامتحان الوزاري مؤهلة لقبولي في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية في جامعة بغداد للعام الدراسي 1966-1967 وفي الفترة التي كان الانشقاق قد اثر سلبيا على صفوف الحركة التحررية الكوردية في ثورة ايلول بقيادة البارزاني الخالد،.. وفي تلك الايام كنا نزور مبنى جريدة (التآخي) الكائن في العيواضية والذي اصبح ملتقى للجميع (مثقفين، سياسيين، طلاباً، حزبيين، مستقلين ومن عرب وكورد) وتحول الى مركز جذب للقوى الديمقراطية باعتبار ان جريدة (التآخي كانت تمثل الجانب الثاني من المعادلة السياسية في العراق حيث كان المناخ السياسي ملائما نوعا ما في فترة حكم الفريق عبد الرحمن عارف وفي احدى امسيات خريف عام 1967 التقيت دارا ثانية في دار التآخي ووجدته شابا انيقا ووسيما ومختلفا تماما عما رأيته عندما تعرفت عليه في شتاء عام 1963 في قرية عيساوي، فعرفني في الحال وسره كثيرا كوني طالبا في الجامعة ودعاني للبقاء معه بعد الانتهاء من زيارة الشهيد صالح اليوسف واعضاء هيئة التحرير وحال خروجه امسك بيدي وخرجنا من مبنى الجريدة واتجهنا الى الشارع العام صوب محلة رأس الحواش وكان حديثنا مركزا على الوضع السياسي العام في كوردستان..
وقيم نشاطاتنا في صفوف اتحاد طلبة كوردستان فافادتني ملاحظاته في ذلك المجال كثيرا ووعدني باللقاء ثانية وثالثة كلما سنحت الظروف.
*هل لكم ان تروي لنا اخر زيارة لكم للفقيد وما الذي دار بينكم لحين ظروف اختفائه؟
-تواعدت على اللقاء مع الفقيد ليلا بعد ان اوصلني بسيارته الى مكان اقامتي في اخر زيارة لي في شهر تشرين الاول عام 1980 حيث تناولنا الطعام في المطعم الايطالي شعرت عندما انفردت بنفسي عصر ذلك اليوم بان كاكه دارا في محنة ومحنته كانت في كونه كان يشعر بالقلق وقلقه لم يكن اتيا من الفراغ وعندما حاولت معه ونحن نحتل ركنا في مطعم الاناء الذهبي الذي توجهنا اليه في تلك الليلة بدل بيته معرفة سر ذلك الشعور بالقلق لديه وخاصة وهو ما يزال مديراً عاما للمنشأة العامة للنقل النهري ولم يكن يوجد شيء ظاهر للعيان يؤكد تلك الهواجس عرف ان اصراري لمعرفة سبب وجود ذلك القلق نابع من تقديري واعتزازي وحبي له ولم يحاول اخفاء الامور عني وقال بلهجته المحببة قبل عامين صدر امر تعييني بمنصب مدير عام الشؤون الكوردية في مكتب المنظمات الشعبية، فلم اتجاوب مع ذلك التعيين وقد قلت للوسطاء الخيريين بانني لا اصلح لذلك المنصب في الوقت الحاضر وصرف النظر عن الموضوع وقبل عام ايضا اخبرت بواسطة احدهم بان القيادة العراقية ترغب بتسنمي مسؤولية رئاسة مجلس ادارة جريدة العراق فضلا عن رئاسة التحرير ورفضت ذلك في حينه وتكرر ذات الطلب قبل فترة قريبة عن طريق احدهم ايضا فاعتذرت ثانية عن القبول.
ولقد استدعيت مع عدد من المديرين العامين في المؤسسات التابعة لوزارة النقل والمواصلات لحضور اجتماع مع شخصية مهمة في الدولة وحين كنا في الانتظار سجلت اسماؤنا حسب الاحرف الابجدية وقد كان اسمي في الترتيب الاول وبعد مرور نصف ساعة اخبرنا بان الاجتماع قد أوجل الى موعد اخر وبعد اسبوع واحد تم عقد ذلك الاجتماع مع المجموعة المذكورة باستثنائي انا.
وهذا يدل على شيء وكما اخبرتك عند زيارتك لي في مكتبي ظهر اليوم بأنني اشعر بان في هواتفي الخاصة اجهزة منصوبة لمراقبتي وتأكدت من هذه الحقيقة بنفسي ولقد حاولت مرة اخرى التخفيف عنه وقلت بما معناه ان العراق شعبنا وحكومته مشغولة بالحرب مع ايران وليس في المعقول اهمال هذه المسألة المصيرية من قبل الدولة واشغال انفسهم بامور لا تقدم ولا تؤخر في الموضوع. وحاول كاكه دارا الظهور بموقف اللامبالاة في النهاية.
لكني لم التق كاكه دارا مرة اخرى والسبب في ذلك يعود الى اختفائه من الوجود او بالاحرى الى اخفائه.
وقصة الاخفاء جرت كما يأتي: في الساعة السابعة والنصف من صباح يوم 5/11/1980 استعد كاكه دارا للذهاب الى دائرته (المنشأة العامة للنقل النهري ببغداد) حيث كان مديرا عاما لها وبدأ بتشغيل سيارته لغرض الاحماء (السيارة كانت من نوع فولفو صالون حكومي بيضاء اللون تحمل الرقم 551) وصعد الى السيارة برفقة ابنته الصغرى لغرض ايصالها الى مدرستها القريبة من منزله الواقع شرق النصب الجديد للجندي المجهول في جانب الكرخ وبعد ايصال ابنته الطالبة الى المدرسة توجه الى دائرته وكما هو معلوم.. ولم يعد كاكه دارا ظهرا الى البيت ولكن دائرته سجلت انقطاعه عن الدوام الرسمي بتاريخ 5/11/1980.
محمد الملا عبد الكريم: كان يعبر عن الحركة التحررية الكوردية بجلاء ووضوح والتزام تام
تعرفت على الشهيد المرحوم دارا توفيق، لاول مرة في بغداد بعد ثورة الرابع عشرمن تموز المجيدة.
كان دارا يومذاك، ضمن الكادر المتقدم لاتحاد الشبيبة الديمقراطي العالمي، ممثلا عن الشبيبة الديمقراطية العراقية واتحادها العام وكان قد عاد الى العراق، لا ادري، ضمن مهمة من مهمات الاتحاد العالمي في العراق، او لزيارة اهله واصدقائه ووطنه بعد الثورة, فكما هو معلوم كان دارا معروفا ضمن الهيئة التنفيذية للاتحاد الشبابي العالمي، سواء بالنسبة للدوائر الامنية نظرا لما كان يبرز فيه من مجالات نضال الاتحاد هنا وهناك، في مقر الاتحاد العام، ام بالنسبة للوسط السياسي الديمقراطي العراقي ولذلك فقد كان يتعذر عليه ان يعود الى العراق ايام العهد الملكي المرتبط باكثر من وشيجة بالاستعمار العالمي في عودته تلك تعرفت الى دارا تعرفاً اوليا بسيطا، وكنت حديث عهد ببغداد، وكنت اصطحبت صديق العمر (الدكتور اليوم) عز الدين مصطفى رسول الذي كان من اصدقاء دارا منذ ايام الصبا وبواكير سنوات النضال الوطني، اصحبه احيانا في الذهاب الى هنا وهناك في بغداد، ومن خلال تلك الصحبة اتعرف الى الكثير من اصدقائه من المناضلين والمثقفين الوطنيين في العاصمة واطلع على معالم المدينة المتحررة ومواقعها، فهو – أي عز الدين- كان قد قضى سنوات عديدة من قبل في بغداد طالبا في الجامعة ومحررا في بعض الصحف الديمقراطية، كما كان قد تعرف قبل في السجن الى العديد من وجوه الثقافة الديمقراطية والسياسية الوطنية والتقدمية فكان لي خير مرشد لفهم بغداد والاطلاع على مجالات حياتها المتنوعة..
لم يتح لي بعد تلك الفترة ان التقي دارا، مرة اخرى، اذ كان قد عاد الى اوربا، ولم يعد ثانية الى العراق، او لم اره انا، ان كان قد عاد ثانية الا في اواخر الستينيات، وبعد ان كنت قد خرجت من السجن.
في تلك الفترة كان دارا قد ترك مجال العمل الشبابي الديمقراطي، وكان قد انضم الى صفوف الحركة التحررية الكوردية بقيادة البارزاني العظيم، غير ان انتماءه هذا لم يكن علنا، فقد كانت الحركة الكوردية تقاتل، يومذاك السلطة العراقية سواء كان في عهد عبد الرحمن عارف، أم بعد الانقلاب البعثي الثاني، وكان الوجه العلني لعمل دارا وحياته مجال العمل الحر، وكان قد اتخذ له مكتبا في نهاية شارع الجمهورية قرب النفق الحالي في عمارة (علي) حيث يزور هناك اصدقاءه ومعارفه ومنهم المناضلون في الحقلين الوطني العراقي والقومي الكوردي.
كان تعرفي الواقعي اليه منذ ان تولى رئاسة تحرير هذه الجريدة ولحين سفري الى الاتحاد السوفيتي في الربع الاخير من العام 1973.
حينذاك كنت اعمل في مجلة (برايه تي) الشهيرة، ومحررا مسؤولا عن صفحة الادب الكوردي في هذه الجريدة.
فلما تولى كاكه دارا رئاسة التحرير سحبني من (برايه تي) التي انتقلت بعد فترة وجيزة الى السليمانية كجريدة يومية او اسبوعية، لا اتذكر بالضبط، واتخذ مني محررا لمقالاته الافتتاحية.
كان دارا سياسيا محنكا، بحق يستطيع ان يحدد بدقة مايريد ان يتضمن المقال الذي يكتبه، وان يتحاشى ايراد أي جملة ربما لا تكون دقيقة بالقدر المطلوب في اداء مايبغي اداءه، ولذلك كان يعبر عن رأي قيادة الحركة التحررية الكوردية بجلاء ووضوح والتزام تام، ويشرح سياستها وتوجهاتها نحو المواضيع التي يطرحها في الجريدة، وكان دقيقا وموضوعيا ومتزنا في ردوده على الخصوم والمخالفين والمعترضين ويفند الحجج التي يوردونها ضد سياسات الحركة ومواقعها.
ونظرة فاحصة على مقالات (التآخي)، في الجدل الفكري والسياسي الساخن الذي دار بينها وبين جريدة (الثورة) شاهد صدق في هذا المضمار وقد طبعت هذه المقالات في حينه في كتاب، كما طبعت مقالات (الثورة)، هي الاخرى، في كتاب كذلك.
ولكن الاستاذ دارا لم يكن متمكنا بالمقدار المطلوب من اللغة العربية (قواعد وكتابة)، ولذلك فقد كان يفتقر الى من يسد له هذه الثغرة في حياته الصحفية.
ومن هنا، فقد اختارني منذ الايام الاولى لتوليه مسؤولية تحرير جريدة (التآخي)، لما كان يعهده في من تمكن من ناحية اللغة العربية ومن مقدرة مهنية في الكتابة الصحفية، واخيرا في الامانة السياسية للاهداف المثلى للحركة الوطنية العراقية وحركة التحرر الوطني الكوردية فكان هو يكتب رؤوس اقلام في اسطر معدودة ويحيلها الي، وانا في غرفة الى جانب غرفته، اينما كانت تقع ادارة (التآخي)، سواء في شارع الرشيد (بناية مطبعة التايمس، حيث تطبع الجريدة ). ام في السعدون. فكنت اصيغ المقال متضمنا المفاهيم التي اوردها هو في رؤوس اقلامه او سطوره المقتضبة، واقدمه اليه فيقرأه بدقة وامعان، فيجري شطبا وتعديلا او اضافة اينما رأى حاجة الى ذلك.
ولم يصادف ابدا ان لاحظ انني خرجت عن اطار فكرته التي يريد التعبير عنها.
ولست اقول هذا مبالغة في شأني، كما كنت اعمل ضمن طاقمه، مغتنما فرصة ان دارا لم يعد بيننا فقد غادر دنيانا المليئة بالمظالم هذه ولقي ربه، وانما لان ما اقوله هو الحقيقة المطلوب قولها بصدق نعم، صادف مرة واحدة وفي شأن تحقيق صحفي كتبته بصفتي الشخصية عن مهرجان الشباب والطلاب العالمي الذي حضرته في برلين مندوبا عن هذه الجريدة، فقد اعتبر جملا معينة فيه ذات طابع منحاز، ان صح التعبير، لألمانيا الديمقراطية، خارج اطار الحياد الذي تلتزم به الحركة التحررية الكوردية، ولم اكن قصدت بتلك الجمل ذلك المفهوم الذي تبادر الى ذهن الاستاذ دارا باي حال، وانما كنت ذكرت حقائق ثابتة رأيتها بام عيني ومع ذلك فقد حذفت تلكم الجمل نزولا عند رغبته او عند فهمه لما كتبت بتعبير ادق.
هذه هي المرة الوحيدة التي اعترض فيها الاستاذ دارا على جملة كتبتها ولم تكن لها ثانية قط.
بقيت في مركزي في الجريدة الى الشهر التاسع من العام 1973. عندما سافرت بزمالة دراسية الى الاتحاد السوفيتي لتعلم اللغة وقد منحتني اياها الحكومة السوفيتية تلبية لطلب تحريري من الاستاذ دارا، وكنت اواصل الكتابة لـ(التآخي) من موسكو الى ماقبل مغادرة كاكه دارا بغداد الى كوردستان في اوائل 1974 وانتهاء فترة العلاقة بين الحركة الكوردية والنظام البعثي.
وبعد عودتي من موسكو في ربيع 1975 وجدت الكثير من الملتحقين بالثورة من بغداد وقد عادوا اليها من جديد بعد اتفاق الشاه وصدام على تنازل العراق لايران عن المناطق الحدودية المتنازع عليها بينهما، بمباركة من بومدين من جهة وهنري كيسنجر من جهة اخرى.
وكان الاستاذ دارا والدكتور كمال مظهر احمد والاستاذ محمد رسول هاوار وكثيرون غيرهم، بين العائدين الى بغداد.
ولمناسبة عودة هؤلاء الاصدقاء اقمت لهم جلسة عشاء في احدى الاماسي في دارنا بحي الامانة في بغداد.
وفي تلك الامسية دارت بيننا مناقشات مستفيضة عما جرى في كوردستان، وكانت اراؤنا مختلفة، فبينما كان الاخوان يصرون على اعادة السبب فيه الى مؤامرة دولية كان من الضروري تجنب الاصطدام بها مما كان يؤدي الى الحاق المزيد من الاذى بشعبنا الكوردي، كنت ارى انه وان كان من الصحيح وجود مؤامرة دولية ذات اطراف متعددة لتصفية حركة الشعب الكوردي، الا ان ما حدث كان في الاساس نتيجة لسلسلة اخطاء قاتلة ارتكبتها الحركة في تصديها لادارة الوضع الجديد الناشئ في كوردستان منذ التوقيع على اتفاقية اذار، وكنت ارى انه كان من الضروري بدلا من القاء السلاح موقتا بعد العمل المنكر الذي اقدم عليه نظام صدام حسين بالخضوع لابتزاز الشاه والتوقف عن الدعم اللوجستي وغيره الذي كان يقدمه للحركة الكوردية نكاية بصدام، كان من الضروري الرد على المؤامرة بتحشيد نخب مقاتلة فعالة من بين اشد افراد البيشمركه مراسا وحماسا والاستمرار بالثورة والتصدي لسياسة طغمة الشاه وصدام في آن واحد، وكنت ارى ان استمرار مقاومة كهذه من شأنه اذكاء المزيد من الحماس الوطني في نفوس مناضلي الشعب الكوردي وزعزعة الجبهة المؤلفة ضد الشعب الكوردي واهم حلقاتها كان ما سمي (الجبهة الوطنية والقومية التقدمية).
وعندما يقف مقاتلو شعبنا الكوردي جبهة متراصة ضد اعداء الكورد في ايران والعراق يكون من الصعب على حزب كالحزب الشيوعي العراقي مثلا البقاء في جبهة يقف اهم اطرافها الى جانب طغمة الشاه العميلة يقاتل الشعب الكوردي، مما يؤثر بالضرورة على موقف الاتحاد السوفيتي وبلدان اوروبا الشرقية الواقفة معه في معسكر واحد ويضطرهما الى اتخاذ موقف اخر يعزز وضع المقاومة الكوردية وكل هذا مما يشعل نار الحماس الوطني في عموم ارجاء كوردستان، وهذا بدوره يؤدي الى حدوث تغيرات في الموقف الدولي لغير صالح نظام صدام حسين عندما يتضح ان القوى الرجعية في المنطقة كلها ضد المقاومة الكوردية والشعب الكوردي.
التقيت الاستاذ دارا توفيق عدة مرات بعد عودته الى بغداد، في المجمع العلمي الكوردي، وهو مدير عام في شركة النقل النهري قبل ان تختطفه العصابات الصدامية وتمحي اخر اثر له في الوجود وتترك في نفوس جميع معارفه واصدقائه غصة لا تنتهي ابدا ولا يمكن لاي ممن عرفه ان ينساها.
وعن موقف كاكه دارا وهو مدير عام للنقل النهري، ممن تحت ادارته من الموظفين والعمال، حدثتني زوجتي السيدة شيرين فرج، وكانت موظفة هناك، قائلة انه كان محبوبا الى حد كبير لدى موظفي وعمال الشركة.
وعندما كان يقابله احدهم لعرض مظلمة له امامه، كان ينهض لاستقباله ويصافحه واقفا على قدميه، ويطلب منه الجلوس والتحدث عما يريد.
وعند قدومه الى الدائرة صباحا، كان يسلم على العاملات والفراشات الموجودات في ممرات الدائرة ويستفسر عن احوالهن وقد تألم هؤلاء كثيرا لفقدانه، فكانوا يذكرونه بكل خير الى مدة طويلة بعد غيابه الابدي.
وهناك في حياة المرحوم دارا توفيق الصحفي موقفان شاركته فيهما في الليلة التي تلت يوم المؤامرة الصدامية على حياة البارزاني في (ناوبروان) باستخدام (رجال دين) مفخخين عرب من السنة والشيعة لقتله، وليلة تأميم النفط، لا اتذكر ايتهما كانت الاولى وايتهما كانت الثانية. لقد بقينا في الليلة التالية ليوم المؤامرة معا حتى الصباح في المطبعة مع عدد محدود جدا من عمال المطبعة بعد صرف البقية الباقية من ادارييها باستثناء مديرها الموثوق للغاية الطيب الذكر (احمد شبيب)، لتنضيد حروف الحبر ووضعها مكان حروف خبر اخر عادي في صدر الجريدة وتبديل الكليشة الرئيسة المصنوعة لعدد الجريدة ليوم غد بغية سد الطريق على تسرب أي خبرعما في الجريدة لئلا يحول الامن العام دون توزيعها صباحا بسلام.
وعند التوزيع ارسلت كميات المحافظات اولا وبعدها بدأ التوزيع بالنسبة الى بغداد بدءا بالاطراف ومن ثم المركز.
اما في ليلة التأميم فقد بقي كاكه دارا في المطبعة الى الربع الاخير من الليل وبقينا انا ومدير المطبعة وشقيقي صلاح الدين المدرس الذي كان مصححا في الجريدة حتى الصباح لضمان عدم وقوع اي تلاعب من قبل اناس مدسوسين قد يوجدون في المطبعة، في المواد المنشورة عن التأميم نظرا لما كان البعثيون يثيرونه من لغط حول موقف الحركة الكوردية من هذا الموضوع بالارتباط بشركات النفط ودولها وبلدانها.
هذان الموقفان يدلان بعمق على مدى ارتباط دارا باداء واجبه كصحفي في اقصى درجة من الحزم والحرص واليقظة الثورية والمهنية.
واخر ما اتذكره من مواقف الشهيد واريد ان اذكره هنا هو ان وفدا من الحزب الشيوعي البريطاني كان في بغداد في العام 1973 واعتقد انه اتى الى العراق بدعوة من حزب البعث.
فقد اقام الشهيد دارا حفل عشاء ضخما على شرف الوفد في نادي الصيد دعا اليه حشدا من الساسة الوطنيين والديمقراطيين ومنهم عدد من قادة الحزب الشيوعي العراقي اتذكر من بينهم المرحوم زكي خيري.
وقد دعاني كاكه دارا ايضا لحضور الحفل وطلب مني الجلوس الى جانبه لبعض الوقت. وكان يترجم لي باختصار بعض ما كان يدور بينه وبين اعضاء الوفد، ومن جملة ما قاله لهم، وقد كان ايام دراسته الهندسية في الجامعات البريطانية على صلة وثيقة بالحزب الشيوعي البريطاني، اننا اذ نتناول الطعام والشراب في هذه القاعة الليلة، فان هناك تحت اقدامنا في الطابق السفلي من هذه القاعة شيوعيين وديمقراطيين يتعذبون على ايدي جلاديهم البعثيين.
ذكر لي كاكه دارا انه قال هذا الكلام لاعضاء الوفد وانهم كانوا يهزون رؤوسهم استهجانا واستنكارا لما كان يجري..
المجد والخلود والذكر الطيب للشهيد دارا توفيق وسائر شهداء الحركة الوطنية والديمقراطية العراقية والكوردستانية وكل شهداء النضال التحرري في العالم.
حسب الله يحيى: دارا توفيق …….مناضل باسل وشخصية فذة
في الذاكرة وشم يحفر في القلب والعقل والحواس …اسمه دارا توفيق
رجل قد من اخلاص عميق ليس للكورد حسب وانما للانسانية جميعاً ..وتقدم كتاباته حقيقته …كما لو انها بصماته ولون دمه وتفاصيل وعيه .
دارا توفيق ..عضو المكتب السياسي , واللجنة المركزية للحزب الديمقراطي الكوردستاني ورئيس تحرير ” التآخي ” ..يرسل في طلبي وانا المراسل البسيط الذي يخطو خطواته الاولى نهاية الستينيات في الصحافة , ويعمل معلماً ومديراً في مدرسة كويلان الابتدائية ..في منطقة جبلية نائية على الزاب الكبير ..لاتصلها المواصلات ولاتقصدها الا سيارة واحدة كل اسبوع تجيء بمسؤول هو في الغالب المشرف التربوي ،او تقل شيخ القرية الذي يكن له القرويون محبة نادرة لم آلفها من قبل ..ومن ثم اتواصل مع ( التآخي ) مراسلاً .
وحدث مرة أن صدر امر بالقاء القبض عليَ من قبل محافظ اربيل …فاقفلت المدرسة واعددت نفسي للتخفي ، ذلك انني اعتدت مايعنيه الاعتقال من تغييب وعذاب .
لم اكن اعرف سبب القاء القبض …لكنني افلت فالسبب سياسي فيما أعلمه عن نفسي .. لكن نداء الاستاذ الجليل دارا توفيق جاء يستدعيني للحضور الى بغداد هذه المرة … كيف ، ولماذا ؟
توجهت الى بغداد ووقفت امام الرجل الذي استقبلني بحفاوة بالغة وسألني :
– هل انت متأكد من المعلومات التي اوردتها في التحقيق الذي نشرناه لك في التآخي عن محافظة اربيل ؟
قلت بثقة عالية :
– متأكد من كل حرف ومن كل رقم ورد فيه …
قال ..سيصلك استدعاء للمحاكمة في شقلاوة وامر بالتوقيف…
لاعليك من ذلك كله .فقط ابلغني وساقف بدلا عنك في المحكمة المذكورة .
فانا رئيس التحرير وانا المسؤول عن مانشر ..لاتخش شيئاً .وفعلاً وصل الاستدعاء والقاء القبض في يوم واحد الى المدرسة …..ولم اكن هناك فجاءني به واحد من اهل القرية الذين أأتمنهم ..واعلمت السيد دارا توفيق بالامر ..وبعد ايام ابلغني انه ذهب هناك بدلا عني ووقف امام القاضي وشرح حقيقة ودقة ماكتب ..حتى اقتنعت المحكمة ببراءتي ..
كانت الحالة نادرة ان يتقدم قيادي بارز بالدفاع عن مراسل صحفي في قرية ..وهذا مالم تمر به أية صحيفة عراقية من قبل ..وبذلك ضرب مثلا عن تواضعه ونبله وشرف المهنة التي ينتمي اليها .
وعندما اسودت الدنيا ، وفشلت اتفاقية اذار التي ارادت السلطة ان تهيمن فيها على الكورد …وبعد ان كنت مسؤولاً عن الصفحة الثقافية وصفحة الثقافة الكوردية والصفحة الاخيرة …بعد ان نقلت الى بغداد من قبل (التآخي) استدعاني رئيس التحرير ووضع ثقته الكاملة بي .
– قال كاكا حسب .. نحن سنسافر ونثق بك في اصدار التآخي بالموقف نفسه والسياسة التي رسمناها لها نحن نحترمك ونضع ثقتنا بك، تصرف ووجدت نفسي وحيداً في قيادة تحرير التآخي ..
اعرف تأريخ ذلك اليوم ..لكنني حرصت ان لاتخرج ( التآخي ) من المطبعة الكائنة في السنك / بغداد الا وهي كما عهدها قراؤها …الجريدة الكوردية الوطنية التقدمية .وتواصلت معها …..حتى جاءت قوات من الامن واستدعتني للتحقيق وتسلمت الجريدة بقوة السلاح …
وعندما رفضت العمل تم استدعائي بالقوة …حتى اذا تسلم الامن التحرير والمطبعة …وجاءوا بملاك جديد وامروني بمغادرة الجريدة فوراً ..
وامتد الغضب العبثي ..وورد الى سمعي ان السيد دارا توفيق قد تم تعيينه مديراً لبلدية الكوت …فتوجهت اليه مع عائلتي لتفقد اوضاعه وفاءً واعتزازاً بشخصية نادرة …
رحب بي كثيراً واكد لي انني الشخص الوحيد الذي زاره من اسرة التآخي ..وبقي مشدوداً اليّ حتى عودتي الى بغداد .
هذه ذكريات عابرة عن رجل اثيري ، ..من طراز سياسي نادر وانساني عميق يمتلئ وعياً وحباً وقيماً ..الا أن غيابه الذي ظل مجهولاً حتى الان ..جعلني في حالة يأس واحباط جراء قناعتي ان الطغيان لايمكن ان يبقى على طراز الرجال الندرة امثال دارا توفيق ..الذي شكل النموذج النضالي للكورد وللانسانية بوصفه عقلاً حياً وقلباً نابضاً بالحب والعطاء .
عبد المنعم الاعسم: وجه لم يـبرح ذاكرتي
قبل ان التقيه، لاول مرة في يوم من ايام الشهر شباط العام 1970 كنت قد سمعت عنه بعضا من الانطباعات المتناثرة المجمعة على ذكائه وقدرته الفذة على التأثير في مستمعيه، ثم قرأت عنه وله الكثير، فلم اجد اختلافا في ما سمعت وقرأت، الا في شيء واحد هو تلك الرقة الاليفة التي تفيض من نظرته ومن كلماته، وربما من مصدر لا اعرفه.. قد يكون من ايقاع اسمه: دارا توفيق.
في ذلك اليوم البغدادي البارد، العاصف الممطر، كان موعدي ايضا مع اول خطوة في احتراف العمل الصحفي، منتقلا من تحت مقهى شعبي (حيث كان ابناء جيلي من الكتاب يتخذون من المقاهي مكاتب لهم) الى طاولة محرر واسعة، وكانت (التآخي) صحيفة الحزب الديمقراطي الكوردستاني الناطقة بالعربية العتبة الاولى في تلك الرحلة، وكان لرئيس التحرير دارا توفيق فضل لن انساه في احتواء وجلي وارتباكي وانا اشرع بتسلم مسؤولية الصفحة الاخيرة للصحيفة التي شاءت المرحلة ان تكون في ذلك الوقت، الصوت الوحيد الذي يحلق خارج سرب اعلام سلطة انقلاب 17 تموز 1968 وخارج القبضة الحديدية للفاشية البعثية الصاعدة.
اتذكر ان دارا توفيق قال لي انذاك: (انك تكتب في التآخي منذ اشهر وقد تابعت بنفسي نشاطك.. اننا نعرض عليك العمل ضمن فريق التحرير.. انا واثق انك ستنجح) ثم ابتسم لي بطريقة ودية اشاعت في الجو دفئا سرعان ما اعتبرته بمثابة تعهد على الوفاء لرسالة الصحافة الجليلة.
قبل ان انتقل من كاتب الى محرر كلفتني (التآخي) في كتابة تحقيق صحفي عن معسكر للطلاب الكورد اقيم في قرى مدينة جمجمال.. انذاك شد على يدي فلك الدين كاكه يي وتمنى لي النجاح، فرجعت بعد ثلاثة ايام من المعايشة بسلسلة تحقيقات مصورة لم تكن لتخيب ظن زميلي الذي كنت اتابع بشغف عموده اليومي الرشيق في الصحيفة.
لا اعرف عدد مرات التي التقيت بها دارا توفيق طوال حوالي ثلاث سنوات من عملي في (التآخي) لكني احسب انها كانت يومية فرط الاهتمام الاستثنائي الذي كان يوليه للصفحة الاخيرة، وكان لا يتوانى، في اكثر من مرة، عن تأشير عيوب واخطاء ونواقص وضعف الصفحة، لكنه كان يختتم دائما ملاحظاته بالقول (كاك عبد المنعم لا تزعل) وقد يلجأ الى تطييب خاطري باخر نكتة سمعها او بالطلب مني برواية نكتة متداولة عن قادة النظام الجديد، أو باعجاب ابداه صحفيون مرموقون بعملي.
في ذلك الوقت كان حكم البعث يتخلى شيئا فشيئا عن مهادنته للشعب، ويتجه الى تقليص الحريات وبدأت تظهر له اسنان جارحة، فيما قام بسلسلة اغتيالات ضد شخصيات ديمقراطية، وكانت حوصلته تضيق بما تنشره (التآخي وخاصة ما يتصل بمعاناة الشعب المعيشية اليومية، وليس من دون مغزى ان يتعرض محررو الصحيفة الى تضييقات ومراقبة وتهديدات تكاد تكون يومية، وكان دارا توفيق يسألني بين فترة واخرى عما اذا كنت اتعرض الى مخاشنة السلطة فاخفف من قلقه، بالقول ان (عندي واسطة) فيعود يسألني احيانا (شلون الواسطة هالايام) فينزلق الحديث الى ما يجري من احداث في الشارع ومن شائعات في الكواليس.
وحين اقدم جهاز الامن على تدبير محاولة اغتيال فاشلة لزعيم الثورة الكوردية الملا مصطفى البارزاني بواسطة وفد ديني يحمل متفجرات في 29 ايلول 1972 كان دار توفيق قد استبق التحقيق بالاشارة الى ان (السيد النائب عملها) وقد سمعتها منه وبقيت ترن في اذني كسر دفين قبل ان ينقطع عن الدوام في بناية الصحيفة ليكون في (مكان ما) (ضمن فريق سياسي) يتكفل الرد على كانت تنشره صحيفة (الثورة) الناطقة باسم الحزب الحاكم من اكاذيب تفيض بالشوفينية، وشاءت المساجلات ان ترفع من رصيد وتوزيع ومصداقية (التآخي) الى ذرى جديدة في ظروف بدأت الفاشية الجديدة تعد المسرح لحرب جديدة على الشعب الكوردي، وعلى الهامش الهش من الحريات والانشطة النقابية والثقافية.
عدا عن ذلك، كان دارا توفيق نبيلا بامتياز.. انه من ذلك الطراز الفريد من السياسيين الذين لا يفرقون بين السياسة والنبل، ومن ذلك الطراز النادر من الصحفيين الذين يؤمنون بان الصحافة ارتقاء بقيم النبل في المقام الاول، وفي هذه النقطة جاد روحه تاركا لنا حكمة ثمينة عن جدارة الموت من اجل قضية نبيلة.
واخيرا يجب ان نذكر مثلما قال الاستاذ فلك الدين كاكه يي: (وكان دارا توفيق شخصية مسالمة ومثقفا كبيرا ورئيسا سابقا لصحيفة (التآخي) وعضوا قياديا للحزب الديمقراطي الكوردستاني وعضوا بارزا في جمعيات ومجالس السلم والصداقة في العالم ففي زمن اختطافه لم يكن دارا يمارس اي نشاط سياسي معارض وكان يعيش بين افراد عائلته ببغداد ولا شيء غير ذلك)
وكي لا ينسى الرجال الافذاذ من امثال دارا توفيق وغيره من الرجال العظام من شهداء كوردستان من المناضلين حبذا لوجرت تسمية مدرسة او شارع او محلة او متنزه باسمه او اقامة نصب تذكاري في مدينة السليمانية مسقط رأس دارا او غيرها من المدن الكوردية له ليبقى شاخصا حيا تذكاريا للاجيال القادمة..
لان هؤلاء الشهداء الاحياء هم اعلام الحرية ورموز الديمقراطية ولترفرف اسماؤهم وذكرياتهم في قلوب محبيه واصدقائه ومعارفه وفي سماوات العراق وجبال كوردستان وفي الضواحي والاحياء والافياء.. وتذكيرا لعوائل الشهداء.. بان دماء الاحباء لم تذهب سدى.. ولتهنأ الاجيال اللاحقة بان افراحهم ومسراتهم وسعادتهم وامالهم ومستقبلهم المشرق الوضاء.. ما جاءت الا بعد ان روى الشهداء بدمائهم وجماجمهم في فرش الارض بالورود والرياحين.. لتمشي عليها فلذات اكبادهم بالامان والرفاه والازدهار في كل ميادين الحياة..

المصدر: التآخي العدد 4881 في 18/10/2006