الرئيسية » شخصيات كوردية » مشاهير الكورد في التاريخ الإسلامي-الحلقة السادسة عشرة -أسرة الحافظ العراقي

مشاهير الكورد في التاريخ الإسلامي-الحلقة السادسة عشرة -أسرة الحافظ العراقي



1. 
الإمام الحافظ العراقي
( 725 ـ 806 هـ )





نحو الجذور
إربيل أو (إربل) مدينة كردية قديمة، وهي الآن عاصمة إقليم كوردستان- العراق (كوردستان الجنوبية)، و( رازيان ) أو ( رازنان ) بلدة من أعمال إربيل، وفيها ولد الحسين بن عبد الرحمن بن أبي بكر بن إبراهيم الكوردي، ثم انتقل وهو صغير إلى مصر مع بعض أقربائه، ولازم هناك الشيخ الشريف تقيّ الدين أحمد بن حجون القناوي الشافعي، وغيره من الصالحين.
والحقيقة أن انتقال بعض مشاهير الكورد من كوردستان إلى مصر، أو نبوغهم هناك، ظاهرة واضحة للعيان، والملاحظ أن إقبال الكورد على مصر بهذه الكثافة بدأ منذ العهد الأيوبي (567 – 648 هـ / 1171 – 1250 م)، فقد كانوا عماد القوة العسكرية والطبقة الإدارية في الدولة الأيوبية، وتبوّأ كثير من أفراد النخبة الكوردية مواقع قيادية، وكان من الطبيعي أن يستقدم هؤلاء أبناء قبائلهم أو معارفهم من كوردستان، ويسندوا إليهم بعض المهام العسكرية والإدارية والعلمية.
ولا يعني انتقال الدولة من الأيوبيين الكورد إلى المماليك الأتراك أفول النفوذ الكوردي دفعة واحدة، فقد اعتمد بعض سلاطين المماليك على النخبة الكوردية، واستمر وفود بعض الأسر الكوردية إلى مصر في العهد العثماني، ولا سيما خلال حكم محمد علي باشا والأسرة الخديوية بشكل عام.
ومن طباع الكورد عامة، والمثقفين منهم خاصة، سرعة التلاؤم مع البيئات الجديدة التي ينتقلون إليها، واندماجهم فيها، وانخراطهم في العمل كمواطنين مخلصين للبلد الذي هاجروا إليه، واستقروا فيه، حتى إن كثيرين منهم ينسون لغتهم، ويبدعون بلغة البلد الذي انتقلوا إليه، وهذا سبب صعوبة تمييز كثيرين من أعلام الكورد.

النشأة والثقافة
وقد تزوج الحسين بن عبد الرحمن في مصر، ورزق بولده عبد الرحيم المشهور بالحافظ العراقي، ولما بلغ عبد الرحيم من العمر ثلاث سنين توفي والده، لكن شاء الله أن يجعل له من العلم نصيبًا وافراً، فكان يحضر إلى الشيخ تقيّ الدين (شيخ والده)، فيبرّه ويكرمه، وحفظ القرآن الكريم وعمره ثماني سنين، واشتغل في العلوم، وكان أول اشتغاله في القراءات والعربية، وربما حفظ في اليوم الواحد أربعمئة سطر، وانهمك في ذلك، فقال له قاضي القضاة عز الدين بن جماعة: إنه علم كثير التعب، قليل الجدوى، وأنت متوقّـد الذهن، فينبغي صرف الهمة إلى غيره. وأشار عليه بالاشتغال في علم الحديث. فأقبل عليه، وقرأه على جملة من أبرز مشاهير شيوخ الحديث في عصره.
وكان على من أراد الرسوخ في العلم حينذاك القيام برحلة طويلة، يرتاد فيها معظم حواضر العالم الإسلامي، وخاصة في العراق وبلاد الشام ومصر، ويلتقي بكبار العلماء، وينهل من أمهات الكتب، وهذا ما فعله عبد الرحيم، فقد قام بالرحلة في طلب العلم إلى بيت المقدس، ومكة، ودمشق، وبعلبك، وحماة، وحمص، وحلب، وصفد، وطرابلس، وغزة، ونابلس، والتقى بكثير من العلماء، وأخذ عنهم، ومنهم شيخ الإسلام تقيّ الدين السُّبْكي.
وقد أحبّ عبد الرحيم علم الحديث، فانهمك فيه، وصرف أوقاته إليه، حتى غلب عليه، وصار مشهوراً به، فتقدم فيه، وانتهت إليه رئاسته في البلاد الإسلامية، مع المعرفة والإتقان، والحفظ بلا ريب ولا مرية، حتى إنه لم يكن له فيه نظير في عصره، وشهد له بالتفرد فيه عدة من حفّاظ عصره، منهم السُّبكي، والعلائي، وعِزّ الدين بن جماعة، وابن كَثِير، والإسنائي، فكانوا يكثرون من الثناء عليه. واشتهر بين الناس باسم (الحافظ العراقي).
هذا وقد جمع الحافظ العراقي بين العديد من فنون العلم، منها القراءات، والفقه وأصوله، والنحو واللغة والغريب، وكان له ذكاء مفرط، وسرعة حافظة؛ قال القاضي عز الدين بن جماعة: ” كل من يـدّعي الحديث في الديار المصرية سواه فهو مدّع “. وكان ابن جماعة نفسه يراجعه فيما يهمه ويشكل عليه.
وقال الحافظ تقيّ الدين بن رافع، وهو بمكة، وقد مرّ به الحافظ العراقي: ” ما في القاهرة محدّث إلا هذا والقاضي عز الدين بن جماعة “. وكان الشيخ جمال الدين الإسنائي يحث الناس على الاشتغال عليه، وعلى كتابة مؤلفاته، وكان ينقل عنه في مصنفاته.
الشخصية والمناقب
كان الحافظ العراقي عالمًا جليلاً، ورجلاً فاضلاً، شهد له معاصروه بكثير من الخصال الحميدة والمناقب النبيلة، وننقل بعض ما جاء حول ذلك في كتب التراجم، فقد قيل فيه:
” الإمام الأوحد، العلامة الحجة، الحَبر الناقـد، عمدة الأنام، حافظ الإسلام، فريد دهره، ووحيد عصره، من فاق بالحفظ والإتقان في زمانه، وشهد له بالتفرّد في فنه أئمة عصره وأوانه “.
وقيل فيه أيضاً:
” كان – رحمه الله تعالى – صالحاً خيّراً، ديّناً ورعاً، عفيفاً صيّناً، متواضعاً حسن النادرة والفكاهة، منجمعاً، ذا أخلاق حسنة، منوّر الشيبة، جميل الصورة، كثير الوقار، قليل الكلام، إلا في محل الضرورة فإنه يكثر الانتصار، تاركاً لما لا يعنيه، طارحاً للتكلف، شديد الاحتراز في الطهارة، بحيث إنه يناله بسببها مشقة شديدة، لا يصدّه عن ذلك مرض ولا غيره “.
كما أن الحافظ العراقي كان:
” شديد التواضع، لا يرى له على أحد فضلاً، كثير الحياء، ليس بينه وبين أحد شَحْـناء، حليماً واسع الصدر، طويل الروح لا يغضب إلا لأمر عظيم، ويزول في الحال، ليس عنده حقد ولا غش ولا حسد لأحد، ولا يواجه أحداً بما يكره ولو آذاه وعاداه، مع صدعه بالحق، وقوة نفسه فيه، لا تأخذه في الله لومة لائم، إذا قام في أمر لا يرده عنه أحد، ولا يقوم شيء دونه، لا يهاب سلطاناً ولا أميراً في قول الحق وإن كان مرّاً، يتشدّد في موضع الشدة، ويلين في موضع اللين “.
ويضاف إلى هذا كله أن الحافظ العراقي كان:
” كثير التلاوة إذا ركب، وافر الحرمة والمهابة، نقيّ العرض، ماشياً على طريقة السلف الصالح من المواظبة على قيام الليل، وصيام الأيام البيض من كل شهر، والستّ من شوال، والجلوس في محلّه بعد صلاة الصبح مع الصمت إلى أن ترتفع الشمس، فيصلّي الضحى، ثم ينصرف إلى الإسماع والإقراء والتدريس والتصنيف “.

من آثاره العلمية
للحافظ العراقي مؤلفات مشهورة في علم الحديث، منها:
– إخبار الأحياء بأخبار الإحياء، في أربع مجلدات، والمقصود بالإحياء هنا كتاب (إحياء علوم الدين) لأبي حامد الغزالي.
– الكشف المبين عن تخريج إحياء علوم الدين.
– تقريب الأسانيد في ترتيب المسانيد، وهو في الأحكام.
– الألفية المسماة بـ( التبصرة والتذكرة ) في علم الحديث.
– التقييد والإصلاح لما أطلق وأغلق من كتاب ابن الصلاح.
– النجم الوهّاج في نظم المنهاج، (يعني في الأصول للبيضاوي).
– الدرر السنيّة في نظم السير الزكيّة (ألف بيت).
– الإنصاف، وهو في المرسل من الأحاديث.
وتوفي ـ رحمه الله تعالى ـ بالقاهرة سنة (806 هـ) وله إحدى وثمانون سنة، وكانت جنازته مشهورة.


2
الحـافظ ابن العـراقي
( 762 ـ 826 هـ)


إن هذه السيرة المجيدة للعالم الجليل الحافظ العراقي كافية لأن تجعل المرء معجباً به خلقاً وعلماً. بيد أن آثاره لم تقتصر على سلوكه الرفيع ومصنّفاته الدينية المفيدة، بل أنجب عالماً جليلاً وحافظاً كبيراً هو ولده أحمد، وجاء عنه في ( ذيل تذكرة الحفاظ): “الإمام العلامة الفريد الحافظ وليّ الدين أبو زُرْعة “.
وقد نهج وليّ الدين نهج والده في طلب العلم بمصر والشام، والأخذ عن مشاهير علماء عصره، فبرع في الفقه وأصوله، وفي علم المعاني والبيان وفهم العربية، “وظهرت نجابته، واشتهرت نباهته، وأجيز وهو شاب بالإفتاء والتدريس، وصار يزداد فضلاً مع ذكائه وتواضعه، وحسن شكله، وشرف نفسه، وسلامة باطنه، فأقبل عليه الناس، وساد بجميع ذلك في حياة والده، واشتهر بالفضل مع الدين المتين “.
وقال عنه القلقشندي في (صبح الأعشى):
” الشيخ الإمام العالم، الحافظ، ولي الدين، شرف العلماء، أوحد الفضلاء، مفتي المسلمين، أبي زرعه أحمد ابن سيدنا العبد الفقير إلى الله تعالى زين الدين، شيخ الإسلام، قاضي المسلمين، أبي الفضل عبد الرحيم، ابن سيدنا العبد الفقير إلى الله تعالى بدر الدين، شرف العلماء، أوحد الفضلاء، مفتي المسلمين، أبي عبد الله الحسين العراقي الشافعي “.
وترك ابن العراقي العديد من المؤلفات، نذكر منها:
ـ المستـفاد من مبهمات المتن والإسناد.
ـ تحفة التحصيل في ذكر رواة المراسيل.
ـ ذيل الكاشف.
ـ تحفة الوارد بترجمة الوالد.
ـ الأربعون الجهادية.
ـ التحرير لما في منهاج الأصول من المنقول والمعقول.
وتوفي – رحمه الله- سنة (826 هـ).



3
زينب بنت الحـافظ العـراقي
( 792 ـ 865 هـ)


ثمرة أخرى من ثمرات الحافظ العراقي، إنها ابنته زينب. وإنها لتذكّرنا بقول المعتمد بن عبّاد ملك إشبيليا:
شيمُ الأُلى أنا منهــمُ والأصلُ تتبعــه الفروع
فقد نهجت زينب نهج أبيها وأخيها أحمد، فتلقت العلم على أيدي كبار علماء عصرها، ذكر النجم الغزي في كتابه (الكواكب السائرة بأعيان المئة العاشرة)، أنها أخذت العلم عن الشيخ الإمام الأوحد العلامة. الحجة العمدة اللهامة شيخ وقته أمين الدين أبو الجود محمد بن أحمد بن عيسى بن النجار الدمياطي، بمصر. وذكرها السيوطي في كتابه (نظم العقيان في أعيان الأعيان) قائلاً:
” زينب بنت شيخ الإسلام حافظ العصر زين الدين أبي الفضل عبد الرحيم بن الحسين العراقي. ولدت في ذي الحجة سنة اثنتين وتسعين وسبعمائة. وسمعت على أبيها والهيثمي وحدّثت، ماتت في سنة خمس وستين وثمانمائة “.
المراجع
1- حاجي خليفة (مصطفى بن عبد الله): كشف الظنون عن أسامي الكتب، دار الكتب العلمية، بيروت، 1992م.
2 – الحافظ العراقي: أمالي الحافظ العراقي، تحقيق أبو عبد الرحمن محمد بن عبد المنعم بن رشاد، مكتبة السنّة، القاهرة.
3 – الحافظ ابن العراقي: الأطراف بأوهام الأطراف، تحقيق كمال يوسف الحوت، دار الجنان، بيروت، 1986م.
4 – خير الدين الزركلي: الأعلام، دار العلم للملايين، بيروت، الطبعة السابعة، 1986.
5 – السخاوي (محمد بن عبد الرحمن): الضوء اللامع لأهل القرن التاسع، دار مكتبة الحياة، بيروت، 1966م.
6 – الشوكاني (محمد بن علي): البدر الطالع بمحاسن من بعد القرن السابع، دار المعرفة للطباعة والنشر، بيروت، 1978م.
7 – ابن العماد الحنبلي: شذرات الذهب في أخبار من ذهب، دار المسيرة، بيروت، 1979م.


وإلى اللقاء في الحلقة السابعة عشرة.
د. أحمد الخليل في 18 – 5 – 2006