الرئيسية » شخصيات كوردية » مشاهير الكورد في التاريخ الإسلامي (الحلقة الثامنة عشرة) الشاعر الفيلسوف جميل صدقي الزَّهاوي

مشاهير الكورد في التاريخ الإسلامي (الحلقة الثامنة عشرة) الشاعر الفيلسوف جميل صدقي الزَّهاوي

الشعر والفلسفة
الشعر والفلسفة ميدانان متجاوران، وفنّان متكاملان، وما من فيلسوف كبير إلا وله بالشعر اهتمام، وما من شاعر مبدع إلا وله إلى الفلسفة نزوع، كذلك كان الفيلسوف الإغريقي أفلاطون، والفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه، والشاعر العربي أبو العلاء المعرّي، وأمير شعراء الكورد قديماً أحمد خاني، والشاعر الهندي طاغور.
وها نحن نقف عند شاعر كردي آخر جمع بين الشعر والفلسفة والعلم، فكان شاعراً وعالماً وفيلسوفاً كما وصفه كراتشوفسكي، بلى، إنه جمع بين الإحساس الجمالي المرهف، والتأمل الفكري العميق، فكان شاعراً أصيلاً بقدر ما كان فيلسوفاً جليلاً، وكان أديباً قديراً بقدر ما كان عالماً فَطِناً، إنه جميل صدقي الزَّهاوي.
فماذا عن حياته ونشأته وثقافته؟
وماذا عن شعره وآرائه الفلسفية واهتماماته العلمية؟!
بل قبل ذلك .. ماذا عن (زَهاو) التي نسب إليها؟

زَهاو في عمق التاريخ
زَهاو ( هكذا ضبطها الزركلي) مدينة كردية قديمة، ذكر ياقوت الحموي أن الفلكي الجغرافي اليوناني الشهير بطليموس (عاش تقريباً بين سنتي 100 – 165 ق.م)، صاحب كتاب المجسطي (ومعناه: المجيد)، أورد اسمها في أحد كتبه، وهي تقع في المنطقة الغربية من كوردستان الشرقية التابعة لإيران، بين مدينتي (قصر شيرين) و(كرمنشاه)، بالقرب من الحدود العراقية، وتتبع ولاية (كرمنشاه) الكوردية في إيران، وهي تسمّى (زَهاب) و(دَرتَنْك) أيضاً، وكانت تسمى قديماً (ألوان) نسبة إلى نهر (ألوند)، وسماها العرب المسلمون خلال الفتوحات باسم (حُلْوان)، وشاع ذكرها بهذا الاسم في المصادر الإسلامية، سواء أكانت تاريخية أم جغرافية.
وكما هي عادة ياقوت الحمَوي في خلط الحابل بالنابل، وإلباس الحقائق ثوب الخرافات أحياناً، وحرصه – هو وبعض الجغرافيين والمؤرخين المسلمين القدامى – على اتخاذ اللغة العربية قاعدة لتفسير معاني الأسماء، وإرجاع أسماء الأشخاص والأماكن من ثَم إلى أصول عربية، فقد أرجع اسم (حُلْوان) أيضاً إلى أصل عربي، وربطه بشخص يسمى (حُلْوان بن الحاف بن قُضاعة)، فقال:
” … وحُلوان في عدة مواضع: حلوان العراق، وهي في آخر حدود السواد مما يلي الجبال من بغداد، وقيل: إنها سميت بحُلوان بن عِمران بن الحاف بن قُضاعة، كان بعض الملوك أقطعه إياها، فسمّيت به “.
ثم أضاف ياقوت نقلاً عن جغرافي آخر يدعى أبا زيد:
” … فإنها مدينة كبيرة عامرة ليس بأرض العراق بعد الكوفة والبصرة وواسط وبغداد وسُرَّ مَن رأى [سامرّاء] أكبر منها، وأكثر ثمارها التين، وهي بقرب الجبل، وليس للعراق مدينة بقرب الجبل غيرها، وربما يسقط بها الثلج، وأما أعلى جبلها فإن الثلج يسقط بها دائماً، وهي وَبِئة رَدِيّة الماء وكبريتيته، … وبها رمّان ليس في الدنيا مثله، وتينٌ في غاية الجودة، ويسمونه لجودته (شاه أَنْجِير) أي ملك التين، وحواليها عدة عيون كبريتية ينتفع بها من عدة أدواء “.
وقد فتح العرب المسلمون مدينة حلوان (زَهاو) حينما اجتاحوا العراق، وكان سعد بن أبي وقّاص، قائد فتوح العراق، كلّف عبد الله بن جَرِير البَجَلي بفتحها، فحاصرها، وفتحها صلحاً، وكفّ عن أهلها فلم يقتلهم، وآمنهم على ديارهم وأموالهم؛ وكان فتحها سنة (19 هـ) تسع عشرة للهجرة.
وقال ياقوت:
” ويُنسب إلى حُلوان هذه خلق كثير من أهل العلم، منهم: أبو محمد الحسن بن علي الخلاّل الحلواني… روى عنه البخاري ومسلم في صحيحيهما، توفي سنة 242 هـ “.
ويبدو أن حلوان (زَهاو) كانت كثيرة الأشجار، طيبة الثمار، تجمع بين ثمار المناطق المعتدلة، وثمار المناطق الحارة، فإضافة إلى الرمان والتين اشتهرت بنخلتين فيها كانتا عاليتين جداً، تُريان من بعيد، وقد أكثر الشعراء من ذكرهما في أشعارهم، وذكر ياقوت أن أول من ذكرهما في شعره هو مُطيع بن إياس اللَّيثي، إذ قال:
أسعداني يا نخلَتَيْ حُلْـوانِ وابكياني من ريب هذا الزمانِ
ولَعَمْري، لو ذقتما ألمَ الفر قة أبكاكمــــا الذي أبكاني
(انظر: ياقوت الحموي: معجم البلدان، ج 2، ص 335).

نشأته وثقافته
هو جميل صدقي بن محمد فيضي بن الملا أحمد بابان الزَّهاوي، ينتسب إلى قبيلة (بابان) الكوردية، في جنوبي كوردستان، ولهذه القبيلة شأن كبير في التاريخ الكوردي الحديث، إذ قاد أمراؤها أكثر من ثورة كوردية ضد الحكم العثماني في بدايات القرن التاسع عشر، ولعل أقدمها هي ثورة قادها عبد الرحمن باشا الباباني بين سنتي (1804 – 1813 م).
واشتهرت أسرة شاعرنا بـ ( بالزَّهاوي ) نسبة إلى مدينة زَهاو (حُلْوان)، وكانت الأسر الكوردية الشهيرة تقود الثورات ضد الصفويين تارة، وضد العثمانيين تارة أخرى، ويضطر بعض أبنائها، نتيجة فشل ثوراتهم، للانتقال إلى داخل كوردستان من المنطقة الواقعة ضمن النفوذ الصفوي إلى المنطقة الواقعة ضمن النفوذ العثماني، وكان الانتقال بعض الأحيان لأسباب اجتماعية كما هو الأمر بشأن جد الشاعر.
أما والد الشاعر فهو العلامة محمد فيضي مفتي العراق، واسم أمه (فِيرُوز)، وكان جده لأبيه قد هاجر إلى مدينة (زهاو) وتزوج بسيدة زهاوية، ولدت محمد فيضي والد شاعرنا، لذا اشتهر الوالد بلقب (الزهاوي).
وقد ولد الزهاوي – حسبما ذكر هو نفسه – في بغداد سنة ( 1279هـ / 1863م )، وتلقى العلم بداية في الكتاتيب، ثم قرأ على والده مبادئ الصرف والنحو والمنطق والبلاغة، إضافة على ديوان المتنبي، وتفسير البيضاوي، وشرح (المواقف) للنِّفَّري)، كما أن والده كان يتقن الفارسية، ويحب شعر عمر الخيّام والفِرْدَوسي، فأتقن الزهاوي إلى جانب لغته الكوردية الأم، اللغة العربية والتركية والفارسية، قراءة وكتابة، وحاول في كبره أن يتعلم الإنكليزية لكن مشاغله الثقافية حالت دون ذلك.
ثم استكمل الزهاوي دراسته في مدارس بغداد وتركيا، ولا سيما العلوم العصرية، وأعجب بالروايات المترجمة إلى العربية والتركية، وتوسع في دراسة الفلسفة، وخاصة حينما كان يعلّمها في الآستانة (إستانبول)، كما أنه توسع في دراسة القانون، عندما عيّنته الحكومة عضواً في محكمة الاستئناف. وقد قال:
” ولم أَمِل في حياتي كلها إلا إلى الأدب والفلسفة “.
وقال أيضاً:
” لو لم أكن شاعراً أو فيلسوفاً لاخترت أن أكون محامياً “.
وزوّجه أهله، وهو في الخامسة والعشرين، من فتاة اسمها (زكية هانم)، وكانت تركية الأصل فاضلة، فأضفت السعادة على حياته، بما تميّزت به من جمال، ورجاحة عقل، وحسن خلق.

شخصيته وخصاله
اتصف الزهاوي بذكاء لمّاح، فبرع في مجالي الشعر والفكر، واشتهر أمره في العراق، وكبر شأنه بعد سفره إلى الآستانة بدعوة من السلطان، فمر في طريقه بمصر، وتعرف نخبة من مشاهير العلماء والأدباء هناك. وكان شديد التأثر بالجمال، وقد خفق قلبه للحب أكثر من مرة، سواء أكان قبل الزواج أم بعده، كما كان معروفاً بالنشاط في شبابه، قال:
” جوانب الشباب المرحة هي في ركوب الأخطار لنيل الأوطار، وقد كنت في شبابي من أقوى الشبان، وأسرعهم في العَدْو، وأبطئهم في المُكْث تحت الماء إذا تسابقنا فيه، وأكثرهم نشاطاً “.
وقال أيضاً:
” كنت في شبابي زعيماً على أترابي، وكانوا يحترمونني، ويتجنبون مخالفتي، وكنت قوياً في منطقي وعضلاتي وأعصابي، وولعت بركوب الخيل، فكنت أسابق بكرامها غيري من غواتها “.
وقال طه الراوي يصف شخصية الزهاوي:
” كان- رحمه الله – عصبي المزاج، سريع الغضب، سريع الرضا، بعيداً عن الحقد والضغينة، ولوعاً بلفت الأنظار إليه راضية كانت أو غير راضية، كثير التطلع إلى معرفة آراء الناس فيه… وكان شغوفاً بالحرية إلى حد بعيد، ويطالب بإطلاقها إلى الحد الأقصى: حرية التفكير، حرية الاعتقاد، حرية القول، حرية النشر، … ولشدة ولوعه بالحرية ناضل كثيراً عن حرية المرأة الشرقية، وكان جريئاً في إبداء آرائه، وإن ناقضت آراء الآخرين، وجلبت عليه نقمة المخالفين، وقلما انتصر لرأي ورجع عنه، أو أعلن فكرة وتخلّى عنها “.
” وكان جَلداً على العمل، يطالع كثيراً ويكتب كثيراً، حتى إن الإنسان ليأخذه العجب عندما يرى نشاط فكره، ونتاج قلمه، مع انتكاث بنيته واختلال لصحته، وكان يحفظ لأصحابه حقوق الصحبة، حتى بعد الوفاة،… كان يحب النكتة، ويعشق النادرة، وله في ذلك غرائب وعجائب”.
ويحمد للزهاوي أنه:
– تحدى طغيان السلطان عبد الحميد الثاني في عدد من قصائده، ووقف إلى جانب المناهضين لذلك الطغيان، ورثا من أمر السلطان بإعدامهم.
– دافع عن العراقيين خاصة، وعن العرب عامة، في (مجلس المبعوثان) العثماني حينما كان عضواً فيه.
– وقوفه إلى جانب الثوار العراقيين في ثورة (1920 م) ضد الحكم الإنكليزي، رغم استياء المندوب السامي البريطاني.
– رفضه طلب الملك فيصل أن يكون شاعر البلاط بعد إعلان الحكم الملكي في العراق سنة (1921 م).
وكان الزهـاوي مولعاً بثلاثة أشياء، هي: التدخين الذي كان يسرف فيه بقدر زهده في الطعام. والقراءة والكتابة شعراً ونثراً. والجلوس بمقهى في شارع خالد بن الوليد وسط حلقة من تلاميذه والمتأدبين وجلهم من الشبان، فإذا جلس وبدأ يتحدث فلا يقاطعه أحد، ويظل يروي كثيراً من نوادر الآداب العربية والتركية والفارسية، وغير ذلك من ذكرياته عن الحكم التركي، ونوادر الولاة، كل ذلك محلّى بالنكات الظريفة والفكاهات الأدبية، وبأسلوب فذّ، وإلقاء شائق، وببراعة في التنويع تدعو إلى العجب.
وكان الزهاوي قد أصيب بمرض عضال وهو في الخامسة والعشرين، فتداوى، وما أن نجا من الداء حتى شلّت أصابع رجله اليسرى، وقد أصيب بالفالج وتصلب الشرايين، وأمراض أخر، في أواخر عمره، فلم يكن يستطيع السير وحده طويلاً.

جواسيس السلطان
لما حطّ الزهاوي رحاله في الآستانة عاصمة الدولة العثمانية أخذ الجواسيس يتتبّعون خطاه، وعلم السلطان عبد الحميد أن أصحاب الجرائد يترددون عليه، فأوجس منه خيفة، وأراد الزهاوي أن يرجع إلى بغداد، لكن السلطان أمره أن يلتحق بالبعثة الإصلاحية التي كان أوفدها إلى اليمن، فذهب إليها واعظاً عاماً، ورجع بعد سنة إلى الآستانة، فأنعم السلطان عليه بالوسام المجيدي الثالث، وبرتبة البلاد الخمس تقديراً لخدماته، وعاد الجواسيس إلى سيرتهم الأولى بتتبّعه ومراقبته، فضاق بهم ذرعاً، وقال قصيدة يذمّ فيها سياسة السلطان، جاء فيها:
أيأمر ظــلُّ الله في أرضه بما نهى الله عنه والرسولُ المبجّلُ؟!
فيُفقِر ذا مــال ، ويَنفي مبرَّأً ويَسجن مظلوماً، ويَسبي ويقـتلُ
تمهّل قليلاً، لا تُغـظ أمــةً إذا تَحرّكَ فيــها الغيظُ لا تتمهّــلُ
وأيديكَ إن طالت فلا تَغترر بها فإن يدَ الأيـــام منهـنّ أطولُ
وكانت هذه القصيدة سبباً لسجنه مع الثائر العربي عبد الحميد الزهراوي، والشاعر التركي صفا بگ، ثم نفيه إلى بلاده العراق.
وسافر الزهاوي إلى الآستانة مرة ثالثة في السنة الأولى من الانقلاب العثماني، فعُيّن سنة (1906م) أستاذاً للفلسفة الإسلامية في أكبر مدارسها، ومدرّساً للآداب العربية في فرع الآداب من جامعة ( دار الفنون ).

دفاع عن المرأة
مرض الزهاوي وهو في الآستانة، فرجع إلى بغداد بعد اشتداد المرض عليه، فعُيّن مدرساً للمجلة في مدرسة الحقوق، وظل يواصل مراسلة مجلات المقتطف والمؤيد بالقصائد والمقالات، وأحدثت رسالته ( المرأة والدفاع عنها ) ضجة كبرى في العالم العربي الإسلامي، فهاج الناس لها وماجوا في بغداد واحتجوا سنة (1908 م) إلى ناظم باشا والي بغداد، يطلبون عزله من وظيفته، وكانت الضجّة التي أحدثها بدعوته هذه شبيهة جداً بتلك التي أحدثها قاسم أمين قبله في مصر.
وهذه ظاهرة جديرة بالتأمل والتحليل.
فلماذا يكون مثقفان كرديان هما أول من نادى بتحرير المرأة في الشرق الإسلامي؟ وتحديداً في وقت كانت فيه هذه الدعوات محرّمة تماماً، وتعرّض صاحبها لكل أنواع الاضطهاد والقدح والتشهير؟!
ونتيجة لهياج الناس أقاله الوالي، واشتد سخط الجمهور عليه، ولا ريب أن بعض القائمين على المؤسسات الدينية، ومن معهم من أعمدة الفكر المتخلف، هم الذين أثاروا الجمهور ضد الشاعر، كما هي عادتهم في ملاحقة كل ذي فكر حر، فاضطر إلى ملازمة داره خوفاً من الاغتيال، ونصره الدكتور شبلي شميّل والأديب وليّ الدين يكن في مقالات نشراها في صحيفة المُقَطَّم المصرية وغيرها، ورد عليه كثير من الشعراء، وأعيد في عهد الوالي جمال باشا إلى تدريس المجلة في مدرسة الحقوق، وأحسب أن المقصود بـ (المجلة) هنا هو الدستور العثماني.

في ميدان السياسة
وخاض الزهاوي ميدان السياسة، فانتخب الزهاوي نائباً عن لواء المنتفق بالعراق، فذهب إلى الآستانة، وأُقفل المجلس بعد أشهر فعاد إلى بغداد، وما لبث أن انتخب نائباً عن بغداد، ودافع في البرلمان عن حقوق العرب في مواقف عديدة، وكان في عهد الاحتلال البريطاني يقيم في بغداد يراقب الأوضاع السياسية.
ثمّ عُيّن عضواً في مجلس الأعيان العراقي، ولعل أفكاره الحرة الجريئة قد أثارت عليه كثيرين من أبناء العراق، وأضرّت به، فلم يُعَد انتخابه لعضوية مجلس الأعيان، ومنذ ذلك اليوم حنق الزهاوي على الحكومة والسياسة، وكان كثيراً ما يعلن سخطه في مجالسه الخاصة.

شعره وآراء النقاد
قال الزهاوي الشعر العربي والفارسي وهــو صبي، وأجاده فيهما بعد أن تخطّى الثلاثين من عمره، وتجلت عبقريته الشعرية بعد أن رجع من الآستانة إلى بغداد منفياً، فإنه طفق ينظم القصائد الشائقة، ويذيعها بتوقيع مستعار في كل من صحيفة المُقتطَف والمُقَطَّم والمؤيَّد بمصر، وظل ينظم الشهر أكثره بموضوع فلسفي أو اجتماعي مستنهضاً به الأمة، يريد إيقاظها من رقدتها، وأحدثت قصائده انقلاباً في الأدب، فدخل في طراز جديد لم يعهد قبله، وأخـذ القراء والأدباء يحذون حـذوه في نظم المعاني المستحدثة، وأبدع الإبداع كله في سنواته الأخيرة.
ويجمع شعر الزهاوي بين التقليد والتجديد، ولا عجب في ذلك، فقد عاش في مرحلة تاريخية كانت تنتمي بجذورها إلى التراث القديم، وتستشرف في الوقت نفسه ما يجود به العصر الحديث من علوم ومعارف جديدة.
والزهاوي فيلسوف بالمعنى القديم للفلسفة، أي حب الحكمة، وقد نهج نهج المعرّي في المزج بين الشعر والفلسفة، وقد قال المعري:
كذب الظنُّ، لا إمامَ سوى العقـ ـــلِ، مشيراً في صبحه والمساءِ
وقال الزهاوي في المعنى نفسه:
على العقل في كل الأمـور المعوَّلُ ولولاه لم ينحـلَّ للمرء مُشكِلُ
وما العقلُ في الإنسان إلا ابنُ رأيه تَولّدَ فيه آخـــراً وهو أوّلُ
وللعقل أنوارٌ بها يهتـــدي الفتى وأبهِجْ بأنوارٍ لها العقـل يرسلُ
بل صرّح الزهاوي بتقديم (المعقول) على (المنقول)، فقال:
قال: اترك المعقول، لا تعملْ به حتى يؤيِّد حكــمَه المنقولُ
قلت: اترك المنقول، لا تعمل به حتى يؤيِّد حكــمَه المعقولُ
ولم يقتصر شعر الزهاوي على الفلسفة، بل نجد فيه كثيراً من الآراء العلمية الحديثة، فها هو ذا يقول، مؤكداً صحة نظرية داروين في النشور والارتقاء:
كلُّ ظنّي أن الحياة على الأر ض بَدتْ من تفاعل الكيمـياءِ
ولدتْها من الجمـاد، فجاءت تتخطّى مراتبَ الارتقـــاءِ
ثم إن الحيــوانَ بعد دهور صار إنسـاناً ماشـياً باستواءِ
وقضت سُنّة الوراثة فــيه أن تكون الأبنـــاءُ كالآباءِ
وقد أبدى عدد غير قليل من الأدباء والنقاد والدارسين إعجابهم بشعر الزهاوي؛ قال كراتشوفسكي (دائرة المعارف الإسلامية، المجد العاشر، ص 446 – 450 ):
” وأكثر أشعار الزهاوي جيّاش بالقوة والحياة، نظم بلغة سهلة مشرقة، على أن هذه القوة وهذه الحياة لم تحرما هذه الأشعار أن تكون في كثير من الأحيان حافلة بالمشاعر العميقة “.
وقال الأستاذ أحمد حسن الزيات في (وحي الرسالة، مطبعة الرسالة، الطبعة 4 1952، المجلد الأول، ص 366- 375):
” والزهاوي شاعر من شعراء الفكرة، له البصيرة النافذة والفطنة الناقدة، … وإن الفكرة والفلسفة هي المادة الأصيلة في شعر الزهاوي، وليس الشعر كله فكرة، وإنما هو فضلاً عنها صورة يرسمها الخيال “.
وقال إبراهيم المازني: (صحيفة البلاغ، العدد 4109، 27 فبراير / شباط، 1936، ص 1):
” والحق أن الزهاوي كان أعجوبة، وطراز وحده، وحسبك من أعاجيبه أن ذهنه رياضي أو علمي بفطرته، ولكنه اشتهر بالشعر أكثر مما اشتهر بسواه “.
وكتب طه حسين حينما علم بوفاته: (صحيفة البلاغ، العدد السابق، ص 1):
” إنني محزون لهذا النبأ الذي نعى إلينا الزهاوي، فلم يكن- رحمه الله- شاعر العربية فحسب، ولا شاعر العراق، بل شاعر مصر وغيرها من الأقطار،… فقد كان مربياً لهذا الجيل الشعري؛ إذ كان شاعر العقل، وكان معري هذا العصر “.
وقد حدث تنافس شديد بين كل من الزهاوي والرصافي، وبطبيعة الحال لا يرقى شعر الزهاوي إلى مستوى شعر الرصافي في الإشراق والجزالة والنصاعة، فكان الناس يعنون بما كان الرصافي ينشده أكثر من اهتمامهم بشعر الزهاوي، فكان الزهاوي ينزعج من ذلك إلى درجة الحسد، فكان يتهم الرصافي بالسرقات الشعرية، وبالأخطاء النحوية والعروضية، وأنه يجهل العلوم العصرية.
كما انتقد الزهاوي (ديوان الشوقيات) عندما صدر سنة (1928 م)، قائلاً:
” لا يخرج شعر شوقي بگ في الأكثر عن أفكار متناقضة، لا صلة لها بالطبيعة والحقيقة “.

مؤلفــاته
للزهاوي مؤلفات كثيرة نثراً وشعراً.
ومن مؤلفاته النثرية:
– كتاب الكائنات: طبع سنة (1896 م)، وهو كتاب علمي، تناول فيه الزهاوي مفاهيم الزمان والمكان، والقوة والمادة، والحياة والجاذبية، وناموس الارتقاء من الجماد إلى الحيوان.
– الخيل وسباقها: نشر سنة (1896 م) تناول فيه صفات الخيل، وإعدادها وتمرينها للسباقات.
– الجاذبية وتعليلها: طبع سنة (1910 م)، وهو كتاب علمي المضمون كما هو واضح من العنوان، تناول فيه الكاتب العلاقة بين المادة والجاذبية.
– رباعيات الخيام: ترجمها عن الفارسية نثراً، ونشرها سنة (1928 م).
– رواية ليلى وسمير: ألفها لتمثّّل في بغداد سنة (1927 م).
هذا إضافة إلى عدد من المقالات والأبحاث والمحاضرات، نشرت في عدد من المجلات، ومن تلك المقالات ما هو خاص باللغة العربية وقواعدها، وبعلوم الطبيعة، وبالدفاع عن المرأة، وبالفيزياء. كما أن له مجموعة رسائل ُشرت في (مجلة الكاتب) المصرية، وله مناظرة دارت بينه وبين الكاتب المصري الكبير عباس محمود العقاد.
ومن آثاره الشعرية:
– الكَلِم المنظوم: نشر سنة (1911 هـ).
– رباعيات الزهاوي: نشرت سنة (1824 م).
– ديوان الزهاوي: نشر سنة (1924 م).
– ثورة الجحيم: قصيدة طويلة عدد أبياتها (433) بيتاً، نشرها سنة (1931 م).
هزيمة بطل!
المثقفون في كل عصر طبقات.
فثمة مثقف هو مجرد جامع للثقافة.
وثمة مثقف هو ناقل للثقافة.
وثمة مثقف هو متمثّل للثقافة.
وثمة مثقف يتمثل الثقافة، ويتخذها أداة للتغيير الشامل.
والحق أن الزهاوي كان ينتمي إلى هذه الفئة الأخيرة من المثقفين، إنه كان صاحب فلسفة في الحياة وفي الوجود بشكل عام، كما أنه كان صاحب رؤية على الصعيد الاجتماعي والوطني، وكان أدبه وفكره ميدانين للتعبير عن فلسفته ورؤيته، وبما أنه كان طامحاً إلى الارتقاء بالمجتمع فقد اضطر إلى خوض معركته ضد فئتين هما اللتان تقفان- على مدار التاريخ- ضد كل تحديث وتجديد؛ أقصد سدنة الثقافات الظلامية المتخلفة، وحرّاس التوجهات السياسية الاستبدادية.
وصحيح أن الزهاوي اضطر إلى التراجع حفاظاً على حياته، بل لعله تجرّع مرارة الهزيمة أيضاً، لكن هزيمته هي هزيمة البطل الذي لم يجبن، وما أكثر الأبطال الذين ناضلوا، لكن هُزموا! ويكفيه أنه قال كلمته الجريئة في أوقات تاريخية صعبة، ولم يستطع أن يعيش أخرس الفكر والقلب واللسان، وانتقل إلى رحمته تعالى ببغداد سنة (1936 م) قرير العين هانيها.

المراجع
1. جميل صدقي الزهاوي: ديوانه، دار العودة، بيروت، الطبعة الثانية، 1979 م.
2. خير الدين الزركلي: الأعلام، دار العلم للملايين، بيروت، الطبعة التاسعة، 1990.
3. الدكتور داود سلوم: أثر الفكر الغربي في الشاعر جميل صدقي الزهاوي، المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، معهد البحوث والدراسات العربية، 1984 م.
4. عبد الرزاق الهلالي: الزهاوي الشاعر الفيلسوف والكاتب الفكر، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1976 م.
5. عبد الرزاق الهلالي: الزهاوي في معاركه الأدبية والفكرية، وزارة الثقافة والإعلام، العراق، 1982 م.
6. هلال ناجي: الديوان المفقود للزهاوي، دار البستاني للنشر والتوزيع، القاهرة، 1999 م.

وإلى اللقاء في الحلقة التاسعة عشرة.

د. أحمد الخليل في 15 – 6 – 2006