من الممكن إستثناء بريطانيا من هذه الدراسة لتقارب موقفها مع موقف الولايات المتحدة الأمريكية تجاه القضية الكوردية الذي تكلمت عنه في القسم الثاني عشر من هذه الدراسة. في تناولي لهذا الموضوع ، أُركّز على المصالح التي تربط دول الإتحاد الأوربي بالدول المعادية لشعب كوردستان، و خاصة الدول المحتلة لكوردستان و مدى أهمية كوردستان لدول الإتحاد الأوربي و الخطوات الصرورية التي ينبغي على الكورد القيام بها ببراعة لينجحوا في خلق توازن بين العلاقات الكوردستانية-الأوربية من جهة و العلاقات الأوربية مع الأنظمة المعادية للكورد من جهة أخرى.
لا شك أن دول الإتحاد الأوربي لها مصالح إقتصادية و سياسية و أمنية كبيرة مع الأنظمة العربية و تركيا و إيران. الدول الخليجية النفطية الغنية تُعتبر مصدراً مهماً لتزويد دول الإتحاد بالنفط الخام و سوقاً رائجاً و مهماً لمنتوجاتها و تقوم بإستثمارات كبرى في الغرب، بالإضافة الى العلاقات العلنية أو السرية للدول الخليجية مع إسرائيل و دورها في تحسين العلاقات الإسرائيلية-العربية و إبرام إتفاقيات سلام مع إسرائيل و الإعتراف بها و كذلك أهمية هذه الدول في خلق معادلة متوازنة للقوى في منطقة الشرق الأوسط. مصر أكبر دولة يحكمها نظام عربي لها علاقات دبلوماسية مع إسرائيل و لها نفوذ كبير على الأنظمة العربية الأخرى و بتعداد نفوس سكاني عالي، الذي يبلغ حوالي سبعين مليون نسمة، يؤهله أن تكون بلداً ذا إستهلاك عالٍ للمنتجات الأوربية. كما أن الدول الأوربية تحتاج الى المساعدات العربية في مكافحة الإرهاب العالمي، حيث أن العرب هم المنبع الرئيس للإرهاب، و ذلك سواء عن طريق التعاون الإستخباراتي و الأمني أو عن طريق تغيير برامج التربية و التعليم في هذه الدول، التي تدعو الى العنف و الكراهية و رفض الآخر.
إيران دولة نفطية غنية و كبيرة في المنطقة. بالرغم من نظامها الديني المتشدد، فأن دول الإتحاد الأروبي ترتبط بعلاقات إقتصادية كبيرة معها و تعتمد على نفطها للحصول على جزء من إحتياجاتها من هذه المادة. إيران دولة إقليمية كبيرة في منطقة الشرق الأوسط و لها دور حيوي في إستقرار المنطقة و الحفاظ على توازن القوى فيها. لإيران موقع إستراتيجي مهم في المنطقة، من خلال إطلالها على الخليج و إحتكامها بمضيق هرمز الذي تمر من خلاله شاحنات النفط العملاقة المحملة بنفط الخليج الى دول العالم المختلفة المستهلكة لبترول المنطقة، منها دول الإتحاد الأوربي. كما أن الشيعة في إيران لهم إمتدادات مذهبية في دول الخليج و اليمن و سوريا و لبنان و العراق و أفغانستان و باكستان و الهند. يتجاوز عدد الشيعة في العالم المائتين مليون نسمة و هذا العدد الكبير يُشكّل قوة لا يمكن لدول الإتحاد الأوربي من الإستهانة بها و التقليل من شأنها، خاصة و أن صلات تأريخية و ثقافية قوية تربط أفراد هذه الطائفة بعضها بالبعض الآخر.
تركيا دولة عضوة في الحلف الأطلسي الذي يحتفظ بقواعد عسكرية فيها، و مرشحة للإنضمام الى الإتحاد الأوربي. صحيح أن الأهمية الإستراتيجية لتركيا بالنسبة للغرب قد إنخفضت كثيراً مقارنة بأهميتها في فترة الحرب الباردة، إلا أن تركيا لا زالت مهمة لأوربا و ستبقى كذلك لحين نجاح مشروع الشرق الأوسط الكبير، حينذاك تضطر تركيا أن تصبح جزء من النظام الإقليمي الجديد الذي سيتبلور في المنطقة و بذالك تفقد أهمتيها بشكل كبير . تركيا هي الدولة ذات الأكثرية الإسلامية الوحيدة في المنطقة التي لها علاقات دبلوماسية مع إسرائيل و تربطها بإسرائيل علاقات عسكرية قوية و تجارية كبيرة. الا أن أكثرية الأتراك تعادي إسرائيل كما هو حال العرب. تلعب تركيا دوراً مهماً في التعاون مع الأوربيين في مكافحة الإرهاب العالمي. بالنظر الى العلاقات الجيدة لتركيا مع كل من الإسرائيليين و العرب، فأن بإستطاعتها التوسط بين الفريقين المعاديين. كما أن لتركيا علاقات جيدة و لها نفوذ و تأثير على حكومات الدول ذات الغالبية المسلمة التي إستقلت عن الإتحاد السوفيتي السابق بعد إنهياره، و خاصة الدول التي تنحدر شعوبها من أصول تركية، مثل تركمنستان و أذربيجان. كما أن تركيا دولة كبيرة و مستهلكة، تستورد الكثير من السلع و الأسلحة من دول الإتحاد الأوربي، و خاصة من ألمانيا. لتركيا جاليات كبيرة تعيش في أوربا، و خاصة في ألمانيا، و التي قد يكون لها تأثير أو عامل ضغط على حكومات دول الإتحاد.
هل هناك أمام الكورد فرصة سانحة لإقامة علاقات متطورة مع دول الإتحاد الأوربي و موازنة هذه العلاقة مع المصالح الكبيرة المغرية التي تجذب دول الإتحاد الى الأنظمة المعادية للكورد و تدفعها الى بناء علاقات واسعة معها؟ نعم هناك مجالات كبيرة و خيارات مهمة جداً يمكن للكوردستانيين الأخذ بها و إستغلالها في إقامة علاقات إستراتيجية مع دول الإتحاد.
في منطقة الشرق الأوسط، يكون شعب كوردستان و الشعب الإسرائيلي و الشعوب الأخرى المُضطهَدة التي ترزح تحت نير الإحتلال مثل الآذرييين و البلوش و الشيعة، هي الشعوب المؤهلة لرفع راية الحرية و الديمقراطية و تغيير الأنظمة الشمولية و الدكتاتورية المتخلفة و تحرير شعوبها من الحكومات الإستبدادية و إنقاذها من آفة التخلف و الجهل و المرض و الجوع و من الحروب و الموت و الدمار. تبلغ نفوس الكورد أكثر من أربعين مليون نسمة و أن كوردستان بلد غني بثرواتها الطبيعية من مياه و بترول و معادن. كما أن شعب كوردستان أكثر تنظيماً و تقدماً و ذا نضج سياسي عالٍ، مقارنة بالشعوب الأخرى المحتلة بلدانها، نظراً لنضاله السياسي الطويل، حيث إستطاع أن يؤسس حكومة محلية في إقليمه الجنوبي، بالإضافة الى كونه مجتمعاً منفتحاً و متسامحاً و متجدداً. هذه المميزات تجعل من شعب كوردستان أن يكون في مقدمة القوى المساهمة في دمقرطة مجتمعات الشرق الأوسط و أن يكون طرفاً أساسياً في القيام بهذه العملية التغييرية االكبرى للمنطقة و أن يكون مساهماً مهماً في الجبهة الديمقراطية لمكافحة الإرهاب العالمي الذي يهدد الحضارة البشرية و يعرقل تقدم و رفاهية العالم الغربي.
من هنا يمكننا فهم الدور الحاسم الذي يلعبه شعب كوردستان في رسم خارطة الشرق الأوسط و نشر الديمقراطية فيها و إجتثاث الأفكار الشمولية و الإقصائية و تجفيف منابعها و مصادرها و تغيير البيئة التي ينمو و يترعرع الفكر الإرهابي المتزمت فيها. نشر الديمقراطية في منطقة الشرق الأوسط و إختفاء الإرهاب يوفرّان الأمن و السلم لشعوبها و يخلقان مناخاً ملائماً جداً لتطوير دول الإتحاد الأوربي و تحقيق الرفاهية لشعوبها، حيث تصبح منطقة الشرق الأوسط منطقة ممتازة و أمينة لإستثمار شركاتها و تصدير منتجاتها و الحصول على مصادر الطاقة. كما أن القضاء على الإرهاب يتيح الفرصة لدول الإتحاد لإستثمار مواردها المالية في برامج التنمية و البحوث و التقدم العلمي و الإجتماعي و الإقتصادي و الخدمات و الترفيه عن شعوبها و مواطنيها و المساهمة في مساعدة الشعوب الفقيرة و الدول المتخلفة، بدلاً من إستنزاف ثرواتها في مكافحة الإرهاب و الحفاظ على سلامة مواطنيها و وقايتهم من الإرهابيين.
المشكلة أن الساسة الأوربيين غير متحمسين لمشروع الشرق الأوسط الكبير و حذرين و مترددين في دعمه و ينتقدون الحرب العالمية ضد الإرهاب. هذا الموقف السلبي للأوربيين ربما يعود لكراهيتهم للحرب و التخوف من التورط فيها، حيث أنهم خاضوا حربين عالميتين مدمرتين. كما أن هذا التردد قد يكون ناتجاً من عُقدة الأوربيين من الولايات المتحدة الأمريكية و حسدهم لها في قيادة العالم التي كانوا يقومون بزمامها بأنفسهم بعد إنتهاء الحرب العالمية الأولى. سبب ثالث قد يتأتى من تخوف الأوربيين من سيطرة الأمريكيين على مصادر الطاقة في المنطقة و التحكم بها و إحتكار الشركات الأمريكية في الإستثمار في المنطقة و عدم إفساح المجال للشركات الأوربية للقيام بالإستثمار هناك. كما أن تردد الأوربيين قد يعود أيضاً الى عدم حاجة الأوربيين للحماية الأمريكية بعد إنتهاء خطر المعسكر السوفيتي عليهم بإنهيار الإتحاد السوفيتي السابق و زواله. قد يكون أحد الأسباب المهمة لفقدان حماس الأوربيين للمشروع الأمريكي في الشرق الأوسط و محاربة الإرهاب العالمي هو قُصر نظرهم في تحليل الواقع و النتائج الوخيمة على الشعوب الأوربية التي يتسببها الإرهاب.
في الثاني عشر من حزيران، أي قبل ثلاث أيام، نشرت مجموعة أكسفورد للأبحاث تقريراً تدّعي فيه أن سياسة الولايات المتحدة الأمريكية تؤدي الى زيادة الإرهاب في العالم! يضيف التقرير بأن الحرب الأمريكية ضد الإرهاب تعمل على زيادة العمليات الإرهابية و تؤدي الى إضطرار العديد من الدول الى إهمال التهديدات الجدية التي يواجهها الأمن العالمي، مثل التغييرات الحاصلة في مناخ الكرة الأرضية و الصراع على المواد الخام و مكافحة الفقر و مخاطر زيادة التسلح. يقول التقرير أيضاً بأن هذه المشاكل العالمية هي أهم من مكافحة الإرهاب و أن هذه الإستراتيجية الخاطئة للإدارة الأمريكية تُكلّف مئات الملياردات من الدولار و تؤدي الى زيادة أعداد الإرهابيين. يأخذ التقرير أفغانستان و العراق مثلاً لإثبات صحة ما يذهب اليه القائمون بهذه الدراسة، مشيراً الى أن هذين البلدين الداخلين في حرب الإرهاب أصبحا يعانيان بشكل أكبر من عدم الإستقرار و العنف و أن منظمة القاعدة أصبحت أكثر فعالية. مشكلة الأوربيين أنهم ينظرون الى موضوع مكافحة الإرهاب على المدى الآني و القريب و من الصعوبة عليهم إستيعاب و فهم ثقافة و أيديولوجية الإرهاب و الأهداف الخبيثة و الشريرة التي يحاول الإرهابيون الوصول إليها و النتائج الكارثية التي ستتعرض لها البشرية كلها على المدى المنظور و البعيد إذا تمكن الإرهابيون من تحقيق أحلامهم المريضة و فرض نموذج أيديولوجيتهم و أفكارهم المتخلفة على العالم. صحيح أن معالجة مشاكل البيئة و خطورة نفاد الموارد الطبيعية بسبب إستغلالها بقسوة و الفقر و التسلح و غيرها من المشاكل التي تهدد الحياة على كرتنا الأرضية هي ضرورية جداً، إلا أن الإرهاب فرض نفسه على العالم و يهدف التحكم بمصير البشرية جمعاء و الإستحواذ على مواردها و ثرواتها و فرض أفكاره الشمولية الإقصائية المتخلفة عليها و إعادة البشرية الى عهود الرق و التزمت و التخلف عن طريق مفخخاته و تفجير بهائمه، بعد أن كان في بداية ظهوره يعتمد على قطع الرؤوس بالسيوف و أخذ السبايا و الجزية. إذن، من السذاجة القول بالسماح للإرهاب بالنمو و الإنتشار و نشر سمومه و بالتالي تدمير العالم بحجة الإهتمام بقضايا مهمة أخرى. على هؤلاء أن يفهموا بأنه لا يمكن للبشرية من حل المشاكل المحيطة بها في ظل التهديد الإرهابي للحضارة البشرية، و عليه فأننا مضطرون لمعالجة التحديات التي تواجهنا، مثل مشاكل تلوث البيئة و إرتفاع درجات حرارة الكوكب الأرضي و المجاعة و الأمراض و التسلح، بالتوازي مع الإستمرار في مكافحة الإرهاب العالمي. أعتقد أن الأوربيين، مع مرور الوقت، سيكتشفون الخطر المحدّق الذي يُشكّله الإرهاب و الذي يهدد حياتهم و مستقبلهم و يهدد الحضارة البشرية كلها و سيتحالفون مع الولايات المتحدة الأمريكية في حربها ضد الإرهاب لإنقاذ أنفسهم من آفة الإرهاب و تأمين حياة البشرية و إستمراريتها.
يستطيع شعب كوردستان من توثيق علاقاته مع الدول الأوربية، حيث يقوم بإدارة إقليمه الجنوبي بنفسه، بعقد إتفاقيات كبرى مع شركات هذه الدول في مجال التنقيب عن البترول و إستخراجه و تصفيته تصنيعه و الإستثمار في مجال إستغلال المعادن المتوفرة في كوردستان و إستغلالها في تصنيع البلاد و التعاون في مجال الزراعة و الصناعة المرتبطة بالمنتوجات الزراعية و بناء صناعة متقدمة و شق الطرق و تأسيس مدن و قرى عصرية تلبي طموحات المواطن الكوردستاني و في مجال صناعة سياحية التي يمكن أن تدر على البلاد المليارات من الدولارات سنوياً، بالإضافة الى الإستفادة من خبرات هذه الدول في مجالات الإدارة و التسليح و التدريب و التعليم و البحث العلمي. إن كوردستان بلد غني بثرواتها الطبيعية و البشرية التي تؤهلها من جذب الرأسمال الأوربي إليها و توثيق العلاقات السياسية و الإقتصادية و التجارية و الثقافية معها.
تعميق الديمقراطية و إحترام حقوق الإنسان في كوردستان و بناء المجتمع المدني فيها و جعل المجتمع الكوردستاني جزء من العالم الديمقراطي، ضمانة أكيدة لدفع دول الإتحاد الأوربي الى إلتزام جانب الشعب الكوردستاني و الدفاع عنه و حمايته من أعدائه. كما أن على مؤسسات المجتمع المدني الكوردستاني إقامة علاقات و تبادل الزيارات و كسب الخبرات من النقابات و المنظمات و الجمعيات المهنية و الإنسانية و الدينية و جمعيات حقوق الإنسان و الصليب الأحمر في دول الإتحاد الأوربي لتلقي المساعدات و الخبرات منها و كذلك لتكون هذه المؤسسات الأوربية قوة ضغط على حكومات دولها للدفاع عن شعب كوردستان و حمايته من الأعداء المتربصين به.
يجب تنظيم الجاليات الكوردية المقيمة في دول الإتحاد الأوربي و تكثيف نشاطها لتصبح قوة لا بأس بها للتأثير على القرار السياسي لحكومات هذه الدول، المتعلق بالمسألة الكوردية و علاقات دولها مع الحكومات المعادية لطموحات الشعب الكوردستاني. الجاليات الكوردية بحاجة الى مرجعية قومية تجمع مواطني الأقاليم الكورستانية في كل دولة من دول الإتحاد، بعيدة عن النزعة الحزبية و الإقليمية و وضع برنامج عمل طموح للفعاليات و النشاطات السياسية و الثقافية و العلمية و الإعلامية و الإجتماعية و التثقيفية. كما تستطيع هذه الجاليات من التصويت للأحزاب الأوربية الملتزمة بالدفاع عن حقوق الشعب الكوردستاني و التصويت للمواطنين الكورد الممثلين للأحزاب الأوربية، الذين يدافعون عن حقوق شعبهم الكوردستاني. تستطيع هذه الجاليات من إداء دور ممّيز في تعريف شعوب دول الإتحاد الأوربي بالشعب الكوردستاني و بقضيته العادلة و جمع شمل الكورد في المهجر و العمل على تواصلهم مع شعبهم في كوردستان، و خاصة الأجيال الكوردية المترعرعة في الغرب و تعليمهم اللغة و الثقافة الكوردية. ممثلو الأقليم الجنوبي من كوردستان في السفارات العراقية في دول الإتحاد يمكن أن يلعبوا دوراً كبيراً في تطوير العلاقات الكوردستانية-الأوربية الرسمية و في دعم الجاليات الكوردية في هذه الدول. كما أحب التنويه هنا بأن إقليم الجنوب أصبح له تمثيل رسمي ليس فقط في دول الإتحاد الأوربي، بل في دول العالم، لذلك فأن زمن التحرر الوطني في هذا الجزء من كوردستان قد إنتهى و دخلنا الى مرحلة جديدة من الإدارة الذاتية، لذلك أرى أن تمثيل الكورد في العالم يجب أن يتم عن طريق القنصليات الكوردستانية في الخارج و أن التمثيل الحزبي قد إنتهى دوره و يجب أن يكون للكوردستانيين مرجعية واحدة المتمثلة بالقنصلية الكوردستانية ليكون لهم خطاب سياسي واحد و إداء عمل شفاف و مبرمج.
الرئيسية » مقالات » التحديات التي تواجه شعب كوردستان و خيارات التصدي لها – القسم الثالث عشر-موقف الإتحاد الأوروبي من القضية الكوردية