اوسط يم من الرمال والضوء والنقاء… بين ارض حبلى باسرار الايام والسنين ورجال رحلوا وآخرين دفنوا مع السكون المريب والفراغ الرحيب.
بيداء مكتنزة بالشواهد التي نقشت عليها صفحات من الماضي وافعال تثير الأسى والشجن.
عاش في هذه الأقاصي من صحراء السماوة رجال ونساء واطفال أضحى كل منهم شاهداً على زمان عاد ثانيةً ليجسد قصة شعب قارع الدكتاتور.
جدران مهدمة وقبور لم تتلاش. وأرواح اضفت قدسية على المكان. فقد راحت تحت الرمال في الليالي الحالكة اجساد طاهرة وارواح نقية برصاص القتلة والمأجورين، شواهد لآلاف الضحايا الكرد. وبيوت شيدت من الحجر لتقطنها عوائل من الدجيل.
ليس بين هذا المكان والآخر سوى عبرة ترقرقت في المآقي وقلب غرق من فرط الحزن على شعب عاش خلف القضبان ثم يقتل بين كثبان الرمال والأكام.
حين وصلنا إلى ناحية بصية 340 كم جنوب غربي السماوة في البادية الجنوبية. أنتابتنا الحيرة بم نبدأ وما نريد الأطلاع عليه. فقد غدت تلك الارض في عقد الثمانينيات ساحة مفتوحة لإعدام الابرياء من العوائل الكردية المنفية من كردستان العراق لتعتقل وتقتل في جنوبه ولم يكن شاهداً عليها غير الله وبقايا اجساد متهالكة اضفت طهراً على نقاء البيداء.
يقول السيد جبار حنون (رئيس عرفاء متقاعد من الشرطة المحلية في ناحية بصية) شاهد عيان على تلك الجرائم ابان النظام السابق – ان الدور التي جلب إليها أهالي الدجيل والمبنية من الحجر شيدت في بداية السبعينيات من قبل محافظ المثنى لأسكان البدو الرحل ومحاولة لأستقرارهم في المنطقة وعدم عبورهم إلى السعودية. غير انهم لم يستقروا فيها طويلاً بسبب رغبتهم بالتنقل المستمر من مكان إلى آخر. وظلت مهجورة مدة طويلة.
عند وصولنا اليها بعد مضي نصف ساعة من السير في العراق المتعرجة بالسيارة التي أقلتنا، وجدناها دوراً تساقطت سقوفها وجدرانها وسرقت حجارتها جراء تدميرها من قبل الطائرات الامريكية ابان حرب الخليج الثانية عام 1991.
ويستذكر السيد جبار حنون انه جاء إلى هذه الدور يوم كان في شرطة بصية ثلاث مرات أو اكثر واستدعائه من قبل ضابط المخابرات سيد مهند العوادي للتحقيق في بعض المشاكل التي كانت تحدث بين اهالي الدجيل وحلها حيث كانوا يعيشون تحت ضغط نفسي قاهر وسط هذه الصحراء.
كما ان رجال المخابرات التي تحيط المكان كانوا يمنعون أي انسان من الوصول إليهم ولمسافة نصف كم من البيوت.
وبعد مضي اكثر من ساعة في هذا المكان توجهنا إلى منطقة الشيحيات 50 كم غربي ناحية بصية وفي الطريق قال جبار: ان العوائل الكردية كانت تحطب الاشجار لايقاد النار والاستفادة منها في الطبخ وكانت ضمن النساء نسرين برواري وزيرة البلديات والاشغال العامة عندما كان عمرها 14 سنة وهي مع امها و6 من اخوتها في بيت يتكون من غرفتين ومطبخ وهول ومنار بالكهرباء وهناك آبار أرتوازية حفرت في المنطقة.
وقد جيء بالاكراد إلى دور الشيحيات في شباط 1982 من سجن الفضيلية العائد إلى مديرية الأمن العامة في بغداد لحجزهم وكان عدد العوائل 80 عائلة كردية مؤلفة من 390 فرداً وكان منهم أرسلان بايز عضو المكتب السياسي لحزب الاتحاد الوطني الكردستاني وعائلة فريدون عبد القادر عضو الجمعية الوطنية حالياً وعائلة نعيم علي عضو المكتب السياسي للحزب الديمقراطي وآخرون غيرهم. وقد خرجوا من الشيحيات عام 1986.
اما بالنسبة للأكراد البرزانيين فقد جاءوا بهم في شهر شباط من عام 1982 ايضاً وبعد ثلاثة اشهر تم اعدامهم بالكامل على بعد 80 كم من المعتقل في منطقة العفايف والتي تقع شرقي ناحية بصية بمسافة 15 كم .
ويؤكد المواطن جبار حنون ان الحكومة آنذاك وفي نهاية عقد الثمانينيات جاءت بمجموعة من السيارات أو الحافلات مظللة صفراء اللون يبلغ عددها 8 – 10 حافلات إلى الناحية وطلب مني احد حماية ضابط المخابرات سيد مهند العوادي. حبالاً لسحب السيارات، حيث أدعوا أن احداها تعطلت. وفتحت الدكان الذي أملكه وعندها رأوا (فتايل جولة) قالوا نريد هذه (الفتايل) وهي خيوط من القطن تستعمل لايقاد (الجولة) بدلاً من الحبال.. فقلت لهم انها لا تصلح لسحب السيارة فقال احدهم (أنت ما عليك)، وأخذوها ومضوا، ثم دخلوا إلى دكان (أم جواهر) وأخذوا (طول) قماش ابيض منها، وبعد ساعتين جاءوا بالسيارات محملة بالأكراد ومن مختلف الاعمار.
شاهدت رجلاً كبيراً محني الظهر وبيده سجادة صلاة نزل من السيارة وقد كان يروم الصلاة.. فصرخ به احد رجال المخابرات وأدخله إلى السيارة.
وكان عدد هؤلاء الاكراد يبلغ بحدود (2225) اعدموا جميعاً فيما بعد. وعندما جاء وزير حقوق الانسان في العام الماضي حفروا في المنطقة وانتشلوا (501) جثة وقد شاهدت (الفتايل) في ايدي قسم منهم وعندها علمت لماذا أخذها مني رجل الامن… واضاف بحسرة يا ليتني لم افتح الدكان لحظتها…
المصدر : موقع صوت العراق