الرئيسية » بيستون » من ذكريات كردي فيلي بغدادي

من ذكريات كردي فيلي بغدادي

جريدة صوت الكرد، تشرين الثاني 2002

صحيح ان العراقيين جميعا وبدون استثناء، كانوا يحتفلون بالاعياد والمناسبات الدينية في حقبة الخمسينيات، وبالاخص عيد الاضحى المبارك، ولكن احتفالات البغداديين كان لها طعم شعبـي خالص، ومذاق بغدادي حلو.. واصيل!
الاطفال البغداديون كانوا اكثر بهجة وحبورا في العيد، فالثياب الجديدة والحذاء الجديد و”العيدية” كانت كلها احلاما جديدة تتحقق في .. صبحية العيد! كان هناك اطفال محظوظون جدا تصل المبالغ النقدية التي يحصلون عليها الى “ربع” دينار احيانا، وهو مبلغ اسطوري لا يحصل عليه الا الملوك من الاطفال آنذاك!
في مناطق (باب الشيخ) و(الجعيفر) و(فضوة عرب) و(شيخ عمر) كانت تنتشر مجمعات الالعاب والتسلية للاطفال البغداديين مثل (المراجيح) و(دولاب الهوه) و(استئجار البايسكلات)،.. واحيانا (الحمير الصغيرة)، فيما كانت حديقة ((بارك السعدون)) مرتعا جميلا للمراهقين الاكثر سنا! عندما كان العيد يصادف فصل الصيف، كان مئات الاطفال والمراهقين ينتشرون في الضفاف الساحلية لنهر دجلة، عند (المسناية) و(الجسر العتيك) و(جسر الملكة عالية) الذي ابدل اسمه الى (جسر الجمهورية) وكذلك في سواحل النهر نفسه عند الاعظمية والجسر العائم على الطوافات والذي كان يربط بين جانبـي الاعظمية والكاظمية!
كان استئجار (الكرب النخيلي) و(الضوب) للسباحة عوما في نهر دجلة، لا يكلف الاطفال والمراهقين الكثير،.. ربما (عانه) واحدة، أي أربعة فلوس،.. قبل ان تزداد قيمة العانة، فتصبح خمسة فلوس،.. حيث تتابعت بعدها الزيادات في المآسي والمصائب في طول العراق وعرضه!
كان لنهر دجلة لون آخر، حيث كانت سمرة اجساد الاطفال البغداديين تلوح بين اضواء مياهه الفضية، مثل صفحات من نجوم سمراء!
لم يكن ليدور في خلد الاطفال ان العظيم الجواهري سوف يخلد تلك الصور والمشاهد في أروع قصيدة قالها شاعر عن دجلة، دجلة الخير وأم البساتين!
حييت سفحك عن بعد فحييني يا دجلة الخير، يا أم البساتين
حييت سفحك ظمآنا الوذ به لوذ الحمائم بين الماء والطين
يا دجلة الخير يا نبعا افارقه على الكراهة بين الحين والحين
اني وردت عيون الماء صافية نبعا فنبعا فما كانت لترويني
وانت يا قاربا تلوي الرياح به لي النسائم اطراف الافانين
وددت ذاك الشراع الرخص لو كفني يحاك منه، غداة البين يطويني

واذا كانت الاعياد تصادف المناسبات المذهبية، كان مئات الآلاف يتوجهون الى زيارة العتبات المقدسة في كربلاء والنجف والكاظمية وسيد محمد وسيد ادريس والكوفة، وكانت سراديب المدافن في دار السلام بضواحي النجف الاشرف اكثر اثارة للاطفال.
اما البريق اللامع للابواب الذهبية، والثريات المعلقة في اضرحة الائمة والخشوع المشوب بالرهبة الذي تبعثه قدسية الاضرحة، فكان يطبع في ذاكرة الاطفال وخيالاتهم مسلسلا من القصص والروايات الحزينة عن اولئك النفر من احفاد الرسول محمد عليه الصلاة والسلام الذين ذبحوا او هجروا من ديارهم، او غابوا ابدا في غياهب المجهول!
كان التقاط الصور التذكارية بالكاميرات اليدوية التي وصلت حديثا، شأنا جميلا آخر من شؤون الاحتفال بالاعياد. فالكاميرات الشمسية كانت في طريقها الى الانقراض، وكان الجيل الجديد من الكاميرات الفوتوغرافية، يلتقط صورا اكثر وضوحا وجمالا!

-2-
.. وكانت أزقة بغداد وحاراتها تزدحم بالباعة المتجولين، فيما يتخذ البعض من سكنة الحارة زاوية مرئية منها مصدرا لارزاقهم، فكانوا باعة ثابتي الأمكنة، يطمئن اليهم اهالي الحارة ويأتمنونهم على اطفالهم.
فـ(شعر البنات)، و(العنبر ورد) صنفان من الحلوى الشعبية المحببة لدى الأطفال البغداديين ولاسيما الصنف الثاني الذي كان يتألف بألوانه السكرية (القوس قزحية) فوق الرأس المدورة للعصا التي يلصق بها البائع بضاعته الجميلة! الجيل القديم من (الموطا) كان يسمى: “عالعودة” وهو أسم على مسمى، فيما كان الطراز القديم من (الدوندرمة)، يتوزع بين (الأزبري): الاحمر القاني، والابيض الناصع، والاخضر العشبـي، حيث كان البائع يضع المواد الاساسية للدوندرمة الشعبية في اسطوانه كبيرة ناصعة البياض، ويضع الاسطوانة داخل برميل من القصدير ويملأ جوانبه بالثلج، ثم يدير الاسطوانة دورات رشيقة لا تخلو من التنغيم الموسيقي الجميل، حتى تتجمد الدوندرمة، فيهرع اليها الاطفال بحبور ومسرة، فيملأ لهم البائع اوعية من البسكويت المخروطي البديع الأشكال!
ولم تكن بنات البغداديين الصغيرات محرومات من متعة العيد ومسراته البهيجة.
فقد كن يستغرقن في لعبة “التوكي” و”الصطلة” التي تتكون من خمس دورات باستعمال قطع صغيرة من الحصى، حيث تنتهي بالدورة الخامسة التي اسمها “العروس” حتى العاب البنات البغداديات كانت تتسم بالجمالية الرشيقة، والسعادة الكامنة في مزاج رائق.. ممتاز!
كانت طفولة البغداديين والبغداديات مرتعا خصبا للحكايات المسلية في ليالي الاعياد، وبالاخص الاعياد التي تصادف مواسم الصيف.
فسطوح المنازل في بغداد كانت تفرش في وقت الغروب، او قبله بقليل، بأغطية ولوازم النوم (الدوشط) و (اللحفان) فيما تنصب (الكلة) لكل عائلة حيث كان يصادف وان تسكن اكثر من عائلة في منزل واحد!
و(الكلة) ستار من الخام الابيض تربط اطرافه العلوية بواسطة حلقات من القماش في حبال رقيقة تشكل مربعا كاملا شبيها بغرفة حقيقية.. ولكن من الخام الابيض!
التزوار بين سكنة الحارة الواحدة كان مباحا بشكل مؤتمن ومثير في صباحات وليالي الأعياد.
كانت (البيتونة) فوق سطح المنزل مأوى شيقا للاطفال في العابهم.
و(البيتونة) تشبه الحجرة، كانت توضع فيها أغطية ولوازم النوم في الصباح ثم يخرجونها بعد الغروب، قطعة قطعة ويفرشونها للنوم.
وكانت مكانا نموذجيا لاختباء الاطفال عندما يمارسون لعبة (العسكر والحرامية) او(الجمدان) وهي من العاب التخفي ايضا!
ولابد ان البغداديين القدامى يتذكرون (البادكير) وهو فتحة في بناء المنزل فوق السطح، ويعتبر “مكيفا” طبيعيا، بدائيا، يسحب الهواء المعتدل المنعش الى غرف المنزل بطريقة تلقائية!
اما شطر فاكهة (الركي) الى قسمين ووضعهما عند الغروب فوق-الطوفة- فقد كان يؤدي، وبعد فترة من الوقت الى تثليج شطري (الركي) وكأنهما وضعا في مجمدة حديثة!
كان (ركي) الموصل الهائل الحجم، و(ركي) سامراء الحلو المذاق، من اشهر وألذ الفواكه التي يقبل عليها البغداديون في موسم الصيف! في الحارات الأكثر شعبية في بغداد مثل، (القشل)، و(رأس الساكية) و(عكد الاكراد)، و(الفضل)، و(العمار)، و(الصدرية)، و(سرتبة)، كان الاطفال في ايام الاعياد يستقلون العربانات الخشبية والتي تدفع باليد في جولات ممتعة لقاء (فلسين) فقط في معظم الأحيان!
اما البغداديون الكبار، فكانوا يستقلون العربات التي تجرها الخيول، للتزاور، او المتعة،.. او العبور من حارة تسكنها المحبوبة الغائبة عن الانظار! كانت حياة جميلة ولاشك..، لها طعم التمر السكري السائل من غابات نخيل البصرة، و”الرمان” ذو الطعم المشوب بـ “الحامض حلو” المتساقط من أشجار الرمان الكثيفة في (بدره)،..
فهل هناك نخيل الآن في (البصرة) أم هل هناك اشجار رمان في (بدره)؟!
منذ زمن بعيد قال الشاعر الشعبـي (الملا عبود الكرخي):
بغداد مبنية بتمر فلش وكل خستاوي!
لذلك كانت الاعياد والحياة حلوة، ولذيذة في بغداد..، محبة لا حد لها لـ(بغداد)..، لناسها، وازقتها، وبيوتها، وطفولتها!

-3-
ولم تكن متعة ارتياد دور السينما الشعبية في بغداد، اقل اثارة من المتع الاخرى للاعياد فيها.
فـ”دور السينما الشعبية” كانت تعرض الافلام التي يعجب بها الاطفال ويجبونها.. افلاما مثل “طرزان والقردة شيتا”،.. وكان اول “طرزان” حاز على شهرة واسعة هو الممثل وبطل السباحة العالمية “جوني ويسمولر”،.. وقد توفي هذا الفنان العظيم الذي درت عليه افلامه ملايين الدولارات، ثم افلس فأضطر للعمل بوابا في احد الفنادق بـ (لوس انجلوس)!
تبعه في تمثيل ادوار -طرزان-، الممثل الاشقر الوسيم “ليكس ثاركر”.
كما كانت دور السينما الشعبية في بغداد تعرض افلام رعاة البقر في الغرب الاميركي، اشهرها، افلام: (الولد ابن الحداد) و-وجون واين والن لاد وافلام: (الخفاش) الذي يسمى الآن (باتمان) و(فلاش كوردن) و(الملك كالا) وهي سلسلة شيقة من افلام الفضاء الخارجي رصدت في اخراجها احدث مبتكرات التكنلوجيا!
كان (الملك كالا) الشرير، الطاغية، موضع غضب وكراهية الاطفال المشاهدين، وكانوا يوجهون اليه، عند ظهوره على الشاشة الفضية، اقذع الشتائم البغدادية ذات المغزى العميق، والمحبوك بعناية فائقة! وبالطبع فان موقف الاطفال البغداديين من (الملك الشرير) الذي يقسو على بطل وبطلة الفيلم والناس العاديين، لم يكن موقفا سياسيا بمعناه المألوف، بل لأن البغداديين، ومنذ طفولتهم جبلوا على رفض الطغيان والظلم، سواء اكان اجتماعيا ام سياسيا! وبهذا الصدد، يحكى انه تم تعيين معلم في المدرسة الحسينية الابتدائية بمنطقة (الدهانة).. وكانت والدة المعلم المذكور تعمل طاهية في (قصر الرحاب) الذي كان يسكنه الامير (عبد الاله) خال الملك فيصل الثاني.
وقد تم استقبال المعلم بشكل احرج المدير والهيئة التدريسية، حيث كتبت شعارات سياسية مناهضة للملكية على لوحات الكتابة (السبورات) بالطباشير، وكان احد الشعارات:
يسقط الاستعمار، يعيش جمال عبد الناصر!
وقد كتب ذلك الشعار تلميذ من الكرد الفيليين!
ولم تقتصر العروض السينمائية على الافلام الاجنبية، بل ان الافلام الهزلية الضاحكة للفنان الراحل (اسماعيل ياسين) كانت مثار اعجاب ومتعة الاطفال البغداديين، وهي افلام كانت تعرض خاصة في أيام الاعياد، مع افلام (شكوكو)، وكبير الرحيمية.. طوي!! ومغامرات (فريد شوقي) والافلام المغناة لـ(فريد الاطرش) مثل (بساط الريح)، و(بلبل افندي)، و(انتصار الشباب)م مع الراحلة (اسمهان)!
ومن افلام المغامرات الشيقة، فيلم (اميرة الجزيرة) بطولة كارم محمود، والممثلة الجميلة (زمردة)،.. وكان اسمها يليق بها حقا، فقد كانت زمردة.. لامعة، فاتنة! ودور السينما الشعبية في بغداد، كانت تزدحم في أيام الاعياد بآلاف المتفرجين، حيث كانت تعرض احيانا افلاما طويلة جدا مثل (فلاش كوردن) الذي كان يتألف من (36) فصلا.
وانتشرت بالمناسبة مزحة طريفة تقول:- ان العوائل البغدادية كانت تصطحب معها (الثريمزات) والقدور والصحون لاعداد وجبة من الطعام لافراد العائلة اثناء الاستراحة بين فصول العرض السينمائي الطويل!!
أشهر دور السينما الشعبية في بغداد، سينما الفردوس الشتوي والصيفي في شارع الملك فيصل الثاني الذي سمي بعد الثورة بـ (شارع الوثبة).. وشارع الملك غازي، الذي سمي بـ(شارع الكفاح) وامتداده من (عكد الاكراد) الى (فضوة عرب) والصالة الصيفية سميت كذلك لكونها مكشوفة، وفي الهواء الطلق، وايضا سينما (الرشيد) و(الزوراء) في (العوينة)، وسينما (الحمراء)، و(دنيا)!. اما دور السينما الفاخرة، فكان منها سينما (غازي) التي تم هدمها واقيم في مكانها (ساحة التحرير واللوحة (الثانورامية) الرائعة للفنان الراحل (جواد سليم) وقد قدمت سينما (غازي) العرض الاول للفيلم الناطق الشهير (اضواء المدينة) للعبقري “شارلي شاثلن” كذلك سينما (روكسي) وسينما (ريكس) المتخصصتان بعرض افلام (مترو كولدوين ماير) مثل وادي الملوك، والرداء، ودماء على الرمال، وسبارتاكوس، وذئاب الميناء، وافلام جيمس دين الذي رحل في ريعان شبابه بعد ان مثل (شرقي عدن) وافلاما قليلة اخرى.
في الحقبة الزمنية التي كان سعر الكيلوغرام الواحد من لحم الغنم الطري لا يتجاوز (سبعين فلسا) والدينار كما هو معروف، يتألف من الف فلس.. كان الآباء يشترون لاولادهم وبناتهم القمصان الجميلة والاحذية والسراويل، البوبلين والكريشة!
كانت تهيئة مثل هذه الهدايا لأيام العيد، لا تكلف في الحقيقة مبلغا باهظا. هذا الكلام ليس دفاعا عن الملكية البائدة، وحكم نوري السعيد بطبيعة الحال، ولكن المثل البغدادي الشهير يقول:-
اشوفك الموت،.. حتى ترضى بالصخونة!!
أي أريك الموت حتى ترضى بالحمى.
كانت الاقمشة التي يغرق بها التجار اسواق بغداد، وتلقى اقبالا واسعا من لدن البغداديين، هي الاقمشة الانكليزية ذات الماركات التجارية المعروفة مثل:- أبو العلمين وأبو الخروفين-.
وكان الخياطون يرتاحون في خياطتها، حيث كانت من النوع (المطواع) ان جاز التعبير، ولا تستعصي على أبر مكائن الخياطة، ولا تنجم عنها تعقيدات مزعجة أثناء عمل الثراوات-!
اما معمل اقمشة (فتاح باشا) فكان ينتج الاقمشة الشعبية، وكانت بغداد وجميع “الالوية” أي المحافظات العراقية تقبل عليها اقبالا عجيبا وواسع النطاق!
وفي الحقبة الأولى للخمسينات، اشتهرت معارض احذية (باتا) وبعد ذلك (دجلة) في عرض ارقى انواع الاحذية الشعبية التي لا يتجاوز سعر البعض منها نصف الدينار!!
احذية (باتا) و(دجلة) كانت تصنع اوتوماتيكيا، اما محل أحذية (الكاهيجي) بالقرب من منطقة (سيد سلطان علي)، عند رصيف الشارع الفرعي المؤدي الى (العبخانة)، فكانت الاحذية فيها تصنع يدويا وكان يقبل عليها البغداديون القدامى الأصلاء من وجهاء بغداد والأفندية، و-الأخو خيته-: أي الشهم المعروف على صعيد المحلة والمحلات السكنية المجاورة، وما اكثرهم في بغداد آنذاك!.
أشهر وأرقى القمصان الأجنبية، القميص الانكليزي علامة آرو، السهم وكان سعره دينار وربع الدينار! وفي المنطقة المقابلة لـ”العباخانة” بشارع الملك فيصل الثاني:- الوثبة بعد ثورة الرابع عشر من تموز- كان يتألق ستوديو (تاج) للتصوير الفوتوغرافي بواجهته الزجاجية التي تضم خلفها نماذج رائعة للصور الشخصية.
كان الحلم الذهبي لكل اطفال المنطقة ان يصطحبهم اباؤهم ايام الاعياد لالتقاط صورة تذكارية لدى المصور (تاج) ولطالما كان مثل هذا الحلم بعيد المنال مثل احلام كثيرة لم تتحقق لا لـ (بغداد) ولا للبغداديين،.. ولطالما مرت اعياد لم تحتفل بها بغداد! والذين تباعدت المسافات والازمنة بينهم وبين بغداد وما أكثرهم،.. تركوا فيها آلاف الصور والحكايات في مواسم الاعياد وغير مواسم الاعياد.
هذا طفولته.. وهذا حبيبته!، هذا بيته، وملاعب صباه وشبابه، اما القاسم المشترك بينهم كلهم، وبدون استثناء، فهو انهم تركوا قلوبهم في محلة ببغداد..، وركن هادئ ببغداد، وفي (برداغ) جميل عند ضفاف دجلة ببغداد وكما يقول العظيم الراحل محمد مهدي الجواهري عاشق دجلة والعراق:
عهد المروءة ان اعودا أرعى لك العهد السعيدا
أرعى لك العشرين تطمح بعد خمس ان تزيدا
عهد المروءة ان أعود وان اعاد وان اعيدا!