الرئيسية » مدن كوردية » مندلي مدينة القلاع الأربع والملاكون الطيبون

مندلي مدينة القلاع الأربع والملاكون الطيبون

يحرضنا اسم “مندلي” على تخيل صورة لمدينة ذات شكل برونزي متأكسد أو حجري يشبه المنحوتات القديمة، تنبثق من أعماق تاريخ يمنحها وقاراً ويذكرنا بوقار المدن الدينية، وزهد المدن التي ركنتها ثورة المواصلات وتطوراتها على الحدود البعيدة، بعد أن كانت ثغوراً لها قول الفصل في حياة البلدان والأقاليم. صورة أولى لكي لاستغرقنا تصوراتنا وتخيلاتنا، لنجمع مكونات صورة المدينة من الواقع.. ويبدأ ذلك عندما نعبر مشروع ري مندلي الذي يعول عليه كثيراً في حياة المدينة، ونصل مباشرة إلى جسر صغير يقوم على منخفض يسمى “وادي النفط” فتلوح لنا قمم جبال حمرين على شكل تموجات بنية اللون متلاشية مع غيوم وأبخرة داكنة تظهر عليها أحياناً لطخات ضوئية ساطعة هي انعكاس لضوء الشمس على بعض القمم الجبلية والصخور البيض وربما الثلجية!.. عند أسفل الجبل تقع مندلي.. نشق الطريق إليها عبر خلاء شبه صحراوي يسمى “منطقة العيون”، كان الشارع الإسفلتي خالياً إلا من سيارتنا، ويبدو أن المنظر استفز السائق فراح يتحدث عن ماض باذخ للمدينة يوم كانت حركة السيارات والمارة تملأ الشارع والمناطق المحيطة به وخاصة في مواسم زيارة المراقد الدينية التي تكثر في المدينة، وذروة النشاط التجاري والزراعي فيها. على يمين الشارع تظهر لنا قبة منفردة من دون أسوار، وتعرف أنه مرقد نبي الله بنيامين (ع) والمسمى ايضاً نبي (طهران) من قبل عامة الناس، حيث لقب بـ “طهران” لأنه كان أطهر الناس خلقاً وأخلاقاً… تبدأ الصورة تحاكي لغة السائق المتأسية، البساتين المهجورة والبيوت المهدمة والصمت الابدي، كلها ترسم صورة بالغة الدقة للهجرة والرحيل نتيجة مغامرات الحروب الحمقاء التي دأب عليها النظام السابق… شكل الوحشة والدمار وبقايا الحروب لا يخفي تلميحات لحياة باذخة كانت هنا قبل أن ندور دورة الزمن القاسية جالبة معها أقسى حرب.

الألمان كانوا هنا يتشكل مدخل المدينة من مجموعة أحياء جديدة بنيت بالطابوق، أول هذه الأحياء الحي الذي يسمى “دور الألمان” وهي بيوت صغيرة بنتها شركة المانية لأهالي المدينة- وتشترك معظم هذه الأحياء ببيوتها المهدمة، وهناك اسباب عديدة للهدم منها القصف اثناء الحرب العراقية- الايرانية وبقاؤها بدون اعمار بالرغم من مرور سنوات على انتهاء الحرب، ومنها عبث اللصوص الذين أستغلوا محنة المدينة في زمن الحصار، كما أن بعض أصحاب هذه البيوت قلعوا الأبواب والشبابيك قبل هجرتهم منها.. مندلي القديمة تتكون من بقايا أربع قلاع أو محلات رئيسية منفصلة عن بعضها كانت تشكل المدينة كلها، يضمها سور كبير فيه اربعة أبواب ولاتتصل هذه المحلات أو القلاع إلا من خلال البساتين المتصلة أو من خلال السوق الكبير الذي يتوسطها ويسمى “بقطايا” أو “باقطنايا” ومازالت آثاره قائمة حتى اليوم، ويسمى السوق الكبير، أما القلاع الأربع فهي قلعة “ميرحاج” وسميت أيضاً “قلم حاج” ويعتقد أنها سميت بهذا الاسم نسبة الى رئيس عشيرة أو قوم يسكنون هذه القلعة، ومحلة أو قلعة “جميل بيك” وقلعة “بوياقي” أو “بويقيا” وقلعة “النقيب” وقد تغيرت أسماء هذه المحلات رسمياً في السنوات الأخيرة، لكن عامة الناس مازالوا يتدوالون الأسماء القديمة… الذي أثار انتباهنا في هذه المنطقة، السوق الكبير بسعة مساحته وطراز بنائه، وقد كان ضاجاً بالحركة حتى منتصف الثمانينيات قبل أن تصل القوات الايرانية حدود المدينة، ويتكون من اكثر من خمسمائة دكان، وعدد كبير من القيصريات والخانات المبنية بالطين والحصى الكبير والخشب والجص والنورة ويعود تاريخ بنائها الى فترة الحكم العثماني، ويتكون السوق من طبقتين من الدكاكين واحدة أرضية وأخرى علوية مازالت محافظة على قوتها وحتى الأبواب الكبيرة التي تشبه ابواب القلاع القديمة مازالت محافظة على خشبها ومساميرها ذات الرؤوس الكبيرة، ونعتقد أن ترميمها بسيطاً يمكن أن يعيد لهذا السوق الحياة، لابل يصلح أن يكون منطقة سياحية لأنه عابق برائحة التاريخ. أوكرانيا… كاليفورنيا… مندلي الحال الذي آلت اليه مندلي ناجم عن سببين حسب رأي الأهالي؛ الأول أنها أصبحت ساحة عمليات في الحرب العراقية الأيرانية مما استدعى رحيل وترحيل أهلها عنها، حيث أنها تبعد عن الحدود العراقية- الأيرانية أربعة كيلومترات فقط والسبب الثاني هو المياه، وكما نعرف أينما وجدت المياه وجدت الحياة، ومندلي تأخذ مياهها من مصدرين، الأول هو “وادي حران” القادم من الحدود الأيرانية، وهذا له مشاكله الكبيرة التي تمتد جذورها الى زمن الدولة العثمانية، لأنه يخضع لبارومتر العلاقات السياسية بين العراق وايران، والمصدر الثاني، هو قناة مندلي الاروائية التي تأخذ المياه من صدر نهر ديالى بقناة طولها 54 كيلومترا، وهو مشروع اروائي يسمى “مشروع ري مندلي” صمم لمعالجة مشاكل المياه مع ايران، لكن التجاوزات على هذا المشروع أفرغته من أهميته. هذان السببان أديا الى تقليص عدد سكان المدينة من “34” الف نسمة في مركز مندلي فقط قبل الحرب مع أيران، الى أربعة الاف وثلاثمائة وتسعين نسمة قبل سقوط النظام الدكتاتوري. بعض السكان يضيفون أسباباً أخرى أهمها اهمال السلطات السابقة للمدينة، ووضعها ضمن موازنات الحرب مع ايران وأبعادها النفسية والإعلامية، فبدلاً من أن يعزز النظام السابق الوضع النفسي لأهالي مندلي دمره بقرار تنزيل مرتبة مندلي الاداري من قضاء عام 1987 الى ناحية وقد ترتب على هذا القرار تحويل الدوائر الرسمية إلى بلدروز، وسبب هذا القرار هو خوف النظام السابق من ســـــقوط مندلي بأيدي الإيرانيين -وهي كانت على وشك السقوط- لكي يقال أن الذي سقط هو ناحية صغيرة وليس قضاء.. زراعياً تعتبر أراضي مندلي من أخصب الأراضي في العالم، لابل أن أراضي مندلي وأوكرانيا وكاليفورنيا تعد أخصب أراضي العالم حسب رأي خبراء الزراعة والجغرافية في العالم. وتتأكد هذه الحقيقة تاريخياً، حيث عثر المنقبون في عام 1961 على أقدم مشروع اروائي يعود تاريخه إلى ستة آلاف سنة قبل الميلاد، ومادمنا نتحدث عن الزراعة فقد أدهشنا هذا العدد من النخيل فيها بالرغم من الظروف القاسية التي مر ذكرها سابقاً، حيث توجد في مندلي نحو مليون وربع مليون نخلة تعطي أجود أنواع التمور والتي يعد بعضها نادر جداً مثل الأشرسي والقرنفلي، كما تنفرد مندلي بنوع من التمر يسمى “ميرحاج” ويصل عدد أنواع التمور في بساتينها الى أكثر من (170) نوعاً. كما تشتهر أيضاً ببساتين البرتقال والرمان والمشمش، لكن أغلب هذه البساتين دمرتها الحرب وتحولت الى حقول لزراعة الحنطة والشعير والسمسم. جغرافية وتاريخ تقع مدينة مندلي في سهل خصب على بعد 160كم شمال شرق مدينة بغداد يحدها من الشمال قضاء خانقين وقضاء المقدادية ومن الشرق إيران، ومن الجنوب محافظة واسط، ومن الغرب قضاء المقدادية وقضاء بعقوبة. تعد مندلي من أقدم الأقضية في العراق، وكانت تتبع أدارياً الى بغداد عندما كانت تسمى “مندلجين” أو “بندينج” وقد أصبحت قضاءً في عهد الوالي مدحت باشا، وعندما تشكلت الحكومة العراقية سنة 1921 أصبحت قائممقامية وبقيت كذلك حتى عام 1987. أما اسم المدينة فقد مر بتحولات كثيرة كما هو شأن الكثير من المدن العراقية كما أرتبط بمعتقدات أهلها، ومن هذه المعتقدات التي يتداولها العامة أن اسمها جاء من قول الأمام علي بن ابي طال (ع) لأصحابه عندما وصلها بعد حربه مع الخوارج “تمندلوا يا صحابة” أي استريحوا بعد أن وجد طيب مناخها ورقة نسيمها، خاصة وأنهم خرجوا لتوهم من مدينة “شهربان” التي أصابت الكثير من أصحابه وجيشه بالأمراض بسبب سوء مناخها. لكن الوقائع التاريخية تنفي هذه الحكاية، وتقدم جذراً آخر للتسمية، فكما ذكرنا أن مندلي من المدن القديمة ويعود تاريخها الى ستة آلاف سنة قبل الميلاد، وكانت تعرف بـ “البندينجين”، وهو لفظ تثنية مثل “البحرين” كما ذكر ذلك ياقوت الحموي في معجم البلدان، وقيل أن التسمية معرفة عن “وندتنكيان” ومعناها “الملاكون الطيبون” وقيل أيضا ان معناها (الرباط الحسن)، لكن أغلب المصادر ترجع التسمية الى عهود الآشوريين، وتذكر بثلاث لفظات هي؛ “وردنيكا” و “أردليكا” و “ورديكا” ومعنى هذه الألفاظ في اللغة الآشورية “المدينة الفسيحة الواقعة في سفح الجبل” وبعد ذلك تحولت الى “بندينجين” و “منديجين” و “مندلج” وكذلك “مندوعلي” وأطلقت هذه التسمية بعد انتهاء معركة النهروان ومن ثم تحولت إلى (مندلي) الاسم الحالي. وهناك أكثر من مؤشر على صحة أصل التسمية “البنديجين” ولعل أهمها وجود عوائل حتى إلى وقت قريب تلقب بـ “البندنيج”، كما يذكر لنا التاريخ بعض الأعلام الذين تلقبوا بهذا اللقب ومنهم أبو بشر اليماني البندنيجي النحوي الذي ولد في سنة (200)هجرية. مراقد دينية ومواقع اثرية تشتهر مندلي بعدد من المراقد الدينية والمواقع الاثارية، منها ” منطقة “شيخ محمد” نسبة إلى محمد بن أبي بكر الصديق “رض” لأنه عسكر فيها، أما أشهر المراقد فهو مرقد الإمام “كرز الدين” وهو سيد أحمد بن أسحق بن هاشم بن جعفر الطيار (رض) الملقب بأحمر العينين، أما أسم “كرز الدين” فلم نجد له معنى، لكن البعض يقول أنه اسم مستعار للتستر في وقت ملاحقة العلويين. وهناك أيضاً مرقد حاج يوسف ويقال أنه من أحفاد الإمام الحسن بن علي (ع) والبعض يعتقد انه من حاملي البريد أثناء الفتوحات الإسلامية في الشرق. وفي قلب مندلي ينتصب مرقد سيد أحمد بن الإمام زين العابدين (ع) ويسمى من قبل العامة “بابا حافظ” لأنه اشتهر بتحفيظه القرآن للأطفال.

من موقع موسوعة تركمان العراق