يخطئ من يظن أن الكرد بلا تاريخ، أو أن إضافتهم إلى الحضارة معدومة. إنهم على العكس من ذلك تماماً، إذ أن لهم تاريخهم، وكذلك إضافتهم، بدلالة محمولهم الثقافي الخصب، والغني، الذي يأتي إلينا كقراء عبر اكثر من حاململحمة، حكاية فولكلورية، مثل وأغنية شعبيتان، قصيدة، قصة،ورواية.. إلخ من أدوات التعبير التي عرفها الانسان.
هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن المثقفين الكرد يعرفون اكثر من غيرهم، شكل وأبعاد المؤامرة التي تعرّض لها تاريخهم، وهم قبل غيرهم يدركون، أن شخصيتهم هي الأخرى تعرضت لمحاولات التشويه، كما جرت محاولات عديدة للتقليل من شأن ثقافتهم، التي هي الدلالة إلى هويتهم ومنظومتهم اللتين حوربتا بضراوة وشدّة، لاتختلفان بأي حال من الأحوال، عما واجهت الشعوب التي عانت من القمع والاستلاب والتغيب القسري.
في العدد (113) من مجلة علمان الأردنية، كتبت دراسة بعنوان “تخصيب النصّ الشعري”، تناولت فيها قصيدة (شيركو بيكه س) الروائية الطويلة: الصليب والثعبان ويوميات شاعر. وكما نعرف فإن شيركو مثل أغلب الأدباء، الكرد، لاتعرفهم إلا نخبة قليلة من الأدباء والمثقفين العرب. صحيح أن المحبّين ممن يهتمون بمشروعي النقدي أفرحتهم الدراسة كثيراً، وأنهّم طالبوا من جانب آخر وبإلحاح مواصلة الكتابة عن الأدب الكردي، والتعريف به، والكشف عن تجلياته ومايحمل من موضوعات، إلا أن الدراسة نفسها أثارت حفيظة أدباء آخرين. وهؤلاء الذين أثارت الدراسة حفيظتهم، من العروبيين الذين يتصورون أن شجرة العروبة من أجل أن تظل معافاة، تشترط اقتلاع أشجار الآخرين، أو حرقها، وبضمنها شجرة الكرد، الذين يشاركون العرب، مثلما يشاركون غيرهم من الأقوام، الماء والهواء والتراب والسماء وحتى الدين مثلما حالتنا، شاء أولئك الذين أثارت الدراسة حفيظتهم أم أبوا. هنا لابد من التنويه، أنه على عكس هؤلاء، فإن أولئك الذين أفرحتهم الدراسة، كانوا أصحاب عقول نيرة ومنفتحة، وهم كما هو عهدي بهم، أصحاب قلوب نقية، ويحبّون الكرد، تارة بسبب صلاح الدين، وأخرى بسبب الاحساس بمظلوميتهم عبر التاريخ.
هؤلاء ممن يسعون إلى إنصاف الكرد، ويهتمون بحاملهم الثقافي، تماماً مثلما فعلوا من خلال تعاملهم مع المحمول الثقافي عند كل من الفلسطينيين والهنود الحمر، وسواهم من الشعوب التي حوربت هوياتها بقسوة، قد تصل حد محاولة الإسكات ونفي الوجود تماماً.
من بين أولئك الذين أثارت الدراسة حفيظتهم، صديق ظل يتكسب بالمواقف، قبل مغادرة العراق. ومما زاد حفيظته حدّة، أنه اكتشف عندما التقينا في مجلة أفكار، عند مدير تحريرها عزمي خميس، أنه وضعت بين يديه دراسة حول الملحمة كجنس تعبيري عند الكرد. لقد اتهمني ذلك الصديق- اختلاف الرأي لايفسد للود قضية..
بالضعف أمام وزارة الداخلية الكردية الزوجة، والانصياع لأوامرها، ربمّا دون أن يعرف أن عشقي للكرد سبق زواجي الذي كان من بين نتائج هذا العشق وليس العكس. ذلك الصاحب على الرغم من خلافاتنا المتكررة، واحد من مجانين كثيرين، يظنون بالآخر في الغالب ظنّ السوء، وعندهم، أو في قاموسهم السياسي، أو القومي العربي، فأن الكتابة عن الكرد، في أي من شؤون حياتهم، ليست سوى نوعاً من التبشير بلون من المستعمرين الجدد، بل إن هؤلاء المجانين الذين تضيق جماجمهم ولاتستوعب أي رأي يخالف السائد الذي لم يأت بغير الانكسارات، لابدّ أن يضعوا كل من هم على شاكلتي، في خانة الخونة المذمومين الذين يتنازلون عن العروبة من أجل وزارة داخلية متأمرة كما يتصورون.
صحيح أنّ أمر هؤلاء المجانين يثير السخط، ولكن مما يخّفف الحدّة، أقصد حدّة الألم، وجود أولئك الذين يتعاطفون مع مثل دراستي، التي تحاول إنصاف الكردي المظلوم، على الأقل من خلال الوقوف أمام حامله الثقافي. ولكن علينا أن ندرك، أنه في مقابل هذا الدور الذي يمكن أن يمارسه المثقف العربي، أن المثقفين الكرد، قبل غيرهم ، عليهم عبء الانتصار لأنفسهم، ولشعبهم، من خلال رسم السبل الكفيلة باسترداد ماسرق من محمولهم الثقافي، كما عليهم العمل بجدّية كبيرة لإيصال هذا المحمول، إلى المثقفين العرب، الذين لايعرفون الكثر عنه، وباللغة العربية تحديداً، فهل يقبل الأخوة الكرد النصيحة، أم أنهّم سيكونون مثل شركاء التراب المّر الذين نجهل حقيقتهم؟