الرئيسية » الآثار والتنقيبات » منجم الفحم الحجري في ناصالح

منجم الفحم الحجري في ناصالح

كان ذلك يوما في ربيع عام 1990 قبل حرب غزو دولة الكويت ، زميلي الدكتور عباس صالح البدري من المؤسسه العامه للمسح الجيولوجي والتحري المعدني ببغداد بتخصصه النادر في مجال الجيوكيمياء من انكلترا .. كان الاقليم لا يزال تحت سيطرة صدام ومن غير المدن الرئيسيه الكورديه كان كل من يتواجد خارجها يطلق عليه الرصاص من النقاط العسكريه المحاذيه لطرق المواصلات بين المدن وقد كانت القرى الكَرميانيه مختفيه ومهدمه ومهجوره واصحابها كانوا يعيشون في نومهم الابدي في المقابر الجماعيه بعد اصدار احكام الانفال القذره والعفنه على اهل كَرميان ..
توجهنا بامر من دائرة البحث والتطوير المشترك بين وزارة النفط و التصنيع العسكري للبحث عن مناجم الفحم الحجري في كوردستان بهدف ايجاد بدائل للمواد المستورده التي منعت على اساس بسبب الحصار الاقتصادي المزعوم . كانت الحاجه في بغداد الى بديل لنوع من الفحم الحجري ومن النوع القيري الذي يتوائم مع المشتقات النفطيه ومن معلوماتي الشخصيه ان مسقط رأسي مدينة كفري تقرب من منجم للفحم الحجري في قرية ناصالح التي لا تبعد سوى كيلومترين شرقا . ولهذا السبب اختاروني مصطحبا زميلي للذهاب الى منطقه تؤمّن شيئين مهمين في تلك المهمه اوّلا سلامتنا من اي مكروه قد يحدث بسبب الظروف السياسيه الممتزجه بالعمليات العسكريه في كوردستان وخاصة كَرميان وثانيا استحصال الماده المطلوبه بسهوله . اعتمد زميلي كليا عليّ في سلامة الوصول الى كفري بعد ان كان يعرفني جيدا اني من ابناء هذه المدينه وقد كان ذو ثقه بالغه وصداقتنا كانت حميمه لما كان يتحلى هذا الانسان من مزايا حضاريه واخلاق عاليه . جئنا بسياره حكوميه ومن دون المرور بالمدينه نظرا لضيق وقتنا واتجهنا الى قرية ناصالح وقبل سيطرة نهاية مدينة كفري الى مدينة كلار كان احد الشبان من اهل المدينه حارسا ومن منتسبي ما كان شائعا الافواج الخفيفه آنذاك .. اعترض لنا بطبيعة الحال وبشده لما رآى سياره حكوميه في هذه المنطقه المحرمه والخطره امنياً . طلب منا الترجل ومن دون اي تردد تقدمت اليه وحييته بالكوردي وهو مدجج بالسلاح ، عرّفته بنفسي وبهويتي وبكتاب عدم التعرض وشرحت له تفصيليا الهدف من مجيئنا . ما لبث الشاب الطيب الا وكاد يطير من الفرح .. ترك واجبه جانبا وترك النقطه ورمى سلاحه بيننا وقال : ايها الاستاذ بماذا تأمرني ان اقدم لك خدمة تضاهي مجهودك في استثمار خيرات مدينة كفري ؟ سالني زميلي الطيب وترجمت له الموقف وثم قلت للاخ العسكري : اريد منك عيّنه بالغة النقاوه من الفحم من داخل وعمق المنجم الذي كان متروكا منذ ما اكثر من نصف قرن وقد كان مليئا بما لا يحمد من عواقب . اندفع الشاب الطيب الى داخل المنجم غير مباليا باية مخاطر والاهم ترك سلاحه بحوزتنا . وزميلي الدكتور عباس ينظر لي باندهاش وخوف من تركه للواجب والسلاح وسط خوف المنطقه المقفره من اية حركه غيرنا . تاخر الشاب لفتره طويله داخل المنجم ليخرج الينا وبيده كيس كبير مليئ بالفحم ومنظره كان عجيبا بحيث لا يمكن رؤية اي شيئ منه الا عينيه فقط وكل جزء من بدنه كان مسودّاً بالفحم . نفض ملابسه واغتسل بشيئ من الماء في موضعه وعاد الينا لياخذ سلاحه . اقترح زميلي ان نكرمه لما تحمّل من مسؤوليه باعطاءه مبلغا من المال كان من صلاحيتنا لاستئجار العمال لاداء عمل خدمي في مهمتنا . العجيب ان الشاب رفض التكريم بشده بالرغم من الحاحي عليه وقال بالحرف الواحد : ايها الاستاذ الكريم انا لولا اهمية واجبك في اعطاء بصيص من الامل في انعاش مدينة كفري لما قمت بهذا العمل لقاء اجور انا لو اعطوني آلاف الدنانير لما تركت واجبي العسكري . انا لست محتاجا الى المال لكني احتاج الى من ينهض بالمدينه ، فمهمتك لا تقدر بثمن وعيب مني ان اؤدي لك هذه الخدمه لقاء ثمن .. كان زميلي وسط اندهاش لنقاشنا ينتظرني لترجمه النقاش الحاد بيننا . ولما افهمته بالامر قال : ابو محمد هل نحن نتعامل مع شخص عراقي ام من غير كوكب ؟ هل اهالي مدينتك بهذه المزايا وصدام يحاربهم ؟ قلت له : يا دكتور هذا ليس عسكريا لكنه ينتمي الى مؤسسات بديله للخدمه العسكريه تاسست من قبل الدوله لايواء الرافضين لحروب صدام . اخيرا سالني الشاب النبيل من اكون ؟ قلت له : اني من الاسره القره داغيه ونسيب الراحل حسين حاجي سمين شلّ وصلاح محي الدين زرداوي . امتلئ وجهه بالفخر والاعتزاز لكون احد ابناء مدينته لم ينساها وتأمل اليوم الذي قد تكون هذه الزياره سببا في استثمار منجم الفحم الحجري الذي كان ذات يوم مستثمرا من قبل آباءه بعدة عقود .. للاسف الشديد التجارب التي اجريت على العينه لم تاتي بنتائج ايجابيه لتحقيق الهدف بسبب المواصفات الفنيه وهذا لا يعني بعدم جدوى هذا المنجم وبعد الانتهاء من مهمتنا لاحظ زميلي الدكتور عباس خطاً عرضيا اصفر اللون في سفح الجبل الذي وقفنا عليه في قرية ناصالح . قال لي وهو يحفر الخط بمطرقته التخصصيه : انظر انه البوكسايت . اوكسيد الالمنيوم . انظر كلما حفرت بالخط يتسع سمكه ويحتمل ان يصل الى نصف متر بعد ان كان ببضعة سنتمترات . قال ايضا : لو نبدأ بالحفر الان على هذا الخط الاصفر لأتسع الى منجم آخر للبوكسايت بجانب الفحم الحجري . وكما معروف لدينا في نطاق الكيمياء الصناعيه ان اعظم المصادر السهله لمعدن الالمنيوم هو البوكسايت الذي يتحول بسهوله الى معدن الالمنويم بمواصفاته التجاريه .. هكذا انهينا زيارتنا الى مدينة كفري وسط آمال واحلام باعادة الروح الى هذه المدينه التي كانت ذات يوم رافدة للمعرفة والعلم بابناء مخلصين ليجدوا اليوم والنسيان والاهمال في اعلى درجاته . وبالرغم من التقصير في الحلقات المسؤوله لاداء مستحقات هذه المدينه الا ان السكان مطالبون مباشرة بالنهوض وعدم التلكؤ وهجر الكسل وضياع الوقت وعدم انتظار من يغيّرهم وهذه من سمات الانسان بمعايير الحضاره وإلا فان المسؤولين غارقين في تخمتهم ونهبهم لخيرات الاقليم .. لنتذكر ذود هذا الشاب الوطني المخلص لمدينته ووطنه باندفاعه الهائل متأملا نهضة مدينته على اعقاب الدمار الذي حل بكَرميان ..