في امن الرمادي ، علمت ُ بوجود أم سلوان في ألإنفرادي ، بعد أن أصبحتُ ضمن الطاقم المشرف على توزيع الطعام ، ومن خلال هذا الواجب كنت ُ أشاهد السجّانين ينقلون الطعام صباحا ً ومساء ً إلى قسم النساء.
ولمحتُ في إحدى المرات ( ترمس ) الشاي الخاص بها .. وكان معنا في المعتقل ، رجل مصري شهم ، اسمه فاروق مارش ، اعتقل بسبب تهريب العملة ، ولا بأس من ذكر تفاصيل قصته الطريفة ..
حيث ُ كان يهربُ العملة عن طريق الأردن ، وفي إحدى سفراته اصطحب معه صديق آخر من مصر أيضا ً.. توقفت السيارة للتفتيش و التدقيق في الحدود العراقية الا ردنيه على طريق طريبيل .. لكن الشرطه لم تعثر على شيء .. فعبروا إلى الأردن .. وكان معهم في السيارة صحفي أردني تنصّت للأحاديث التي دارت بين السائق والمصريين .. ومن خلال جملة ( الحمد لله عبرنا بسلام ) أدرك أنهم قد ادخلوا معهم إلى الأردن شيئا ً ممنوعا ً
ونشر الصحفي ، الذي قد يكون جاسوسا ً، هذا الحديث في الصحافه ووصلت المادة المنشورة إلى الأمن العراقي .. وحينما رجع فاروق مارش إلى العراق اعتقلوه وجلبوه إلى أمن الرمادي ..
في أمن الرمادي أصبح فاروق مسؤلا ً عن الموقوفين . وبحكم نشأته الريفية ، وطيبته توطدت علاقتي به وكنا نتبادل اطراف الحديث دائما ً.
وحينما علِم بوجود أم سلوان ، بين المعتقلات في السجن الأ نفرادي ، تأثر للغاية وَرَتـَبَ لي موعدا ً معها من خلال الشباك الصغير ، وفي هذا اللقاء القصير ، جرى الاتفاق بيننا على الاتصال و المراسلة من خلال ترمس الشاي الذي كان ينتقل بيننا مرتين في اليوم وكان الأمن يراقبُ كل شيء ٍ بما فيه الطعام المقدم للسجناء .. حيث يجري تنقيبه بحثا ً عن أية وسيلةٍ للاتصال بين المعتقلين أو ذويهم لكنهم لم يتوقعوا أن تكون ثمة رسائل في ترمس الشاي .
وساعد على نجاح هذا الأتصال ، إن الإنفرادي قد افتتح قبل موعده المقرر ، تحت تأثير ضغط الأحداث في الحرب العراقية – الإيرانية ووقوع صاروخ إيراني بالقرب من سجن مديرية الأمن العامه في بغداد .. كما أسلفنا ..
حيث ُ جرى نقل السجناء إليه ، قبل أن يستكمل بناؤه من الناحية الفنية لذلك لم تكن غُرَفهِ مراقبه ومصوّرة بالكاميرات ..
إ ستمرينا نتراسل بهذ ه الطريقة ، التي تركت أثرا ً لا يُنسى في نفسي ، ولا تزال تلك الرسائل محفوظة لدي ّ بعد أن أخفتها زوجتي الشهيدة أم سلوان ، في أسفل حذائها ، الذي أرسلته لي قبل إعدامها . وعددها (12) رسالة ، تبادلناها خلال أربعة أشهر ، وهي رسائل توثق التحقيق ، والفضل يعود لشهامة فاروق المصري ، الذي يَعتقدُ إنني في عداد الأموات ، وقد رُحِّـل إ لى بلده مصر بعد الإفراج عنه رغمَ إنه كان مساهما ً في سبعة كتائب للجيش الشعبي أثناء الحرب .
وأ ُسجل امتناني العميق لهذا الرجل الذي لم تستطع الفاشية أن تنزع قلبه الإنساني الكبير .
صباح كنجي
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مقتطف من كتاب اعده الكاتب عام 1995بعنوان( دهاليز الموت..جولة في أروقة المعتقلات العراقية) الذي تمت مصادرته من قبل مخابرات دولةعربية أثناء مداهمتها للمطبعة .