أدارة الموقع: البحث ينشر لاول مرة ، وهو هدية الاستاذ جودت هوشيار بمناسبة أنطلاق موقعنا، فله الف شكر.
لن نأتى بجديد اذا قلنا أن العلاقات الوثيقة المتتعددة الأوجه بين الشعبين الكردى والأرمنى ، تضرب بجذورها فى أعماق التأريخ. فقد عاشا لعهود طويلة جنبا الى جنب فى وئام وسلام فى كردستان الشمالية، كما احتضنت أرمينيا عشرات الألوف من أبناء الشعب الكردى الذين اضطروا الى اللجؤ اليها فى فترات زمنية مختلفة ، هربا من الظلم والأضطهاد والحياة البائسة فى ظل الأمبراطوريتين الفارسية والعثمانية .
ولقد حاول أعداء الشعبين زرع بذور الخلاف والشقاق بينهما ، بيد أن هذه المحاولات باءت بالأخفاق وظلت الروابط التأريخية والنضالية بين الكرد والأرمن قوية ومتينة، ذلك لأن العلاقات الأنسانية المبنية على القيم الأجتماعية وضرورات الحياة لها الغلبة دائما ، كما أن ارادة الخير ،هى التى تنتصر فى نهاية المطاف .
والحق أن المثقفين الأرمن كانوا السباقين الى الدعوة للتضامن النضالى بين الشعبين ضد الأضطهاد القومى وفى الأهتمام بالكرد والثقافة الكردية ، حيث ظهر العديد من المثقفين والكتاب الأرمن الذين كتبوا عن تأريخ ولغة وتراث الكرد وفى مقدمتهم ( غ.أبو فيان ) الذى نشر فى أواسط القرن التاسع عشر عدة مقالات تحت عنوان ( الكرد ) فى جريدة ( القفقاس ) عن تأريخ الكرد وثقافتهم وحياتهم الأجتماعية وفلكلورهم ووجه أبو فيان نداءا الى الى المستشرقين لدراسة أصل الكرد ولغتهم لأنهم أصحاب حضارة عريقة .
كما ظهر بين المثقفين الكرد ، العديد من رجال الفكر والثقافة الذين لعبوا دورا كبيرا فى التصدى لمحاولات الشوفينيين لأثارة الشقاق بين الكرد و الأرمن وتتبادر الى الأذعان هنا مقالات رواد القومية الكردية من أمثال عبدالرحمن بدرخان و الدكتور عبالله جودت فى الصحافة الأرمنية . ولقد ظل الأهتمام المتبادل من قبل المثقفين والعلماء الأرمن والكرد بالثقافتين الأرمنية والكردية قائما ومستمراحتى يومنا هذا . ولكن مما لاريب فيه أن أبرز وأشهر كردولوجى ظهر بين الأرمن هو الأكاديمى يوسف ايكوروفيج اوربيلى ( 1887 – 1961 ) الذى أولى لغة وثقافة الكرد عناية خاصة .
ولد اوربيلى فى أرمينيا عام 1887 وتخرج فى جامعة بطرسبورغ عام 1911 ، حيث نال شهادتين فى آن واحد ، شهادة كلية التأريخ وفقه اللغة وشهادة كلية اللغات الشرقية. وفى تموز من العام ذاته أوفدته أكاديمية العلوم الروسية فى بعثة علمية لدراسة لهجات اللغتين الأرمنية و الكردية فى منطقة وان وآثار الحضارات القديمة لشرقى آسيا الصغرى، و هى منطقة كان يعيش فيها الكرد و الأرمن جنبا الى جنب منذ أقدم العصور ، حيث تختلط وتتشابه أنماط حياتهم و تتشابك آدابهم وفنونهم الشعبية .
بدأت رحلة اوربيلى فى الأول من شهر تموز عام 1911 ، وبعد وصوله بلدة ( موكس ) القريبة من مدينة ( وان ) ، شرع بدراسة اللهجات المحلية للغتين الأرمنية والكردية ، وتعد هذه الفترة حاسمة فى حياة اوربيلى و فى تكوين وبلورة آرائه حول العلاقة بين الشعبين الكردى و الأرمنى ونقطة انطلاق لأهتماماته العلمية اللاحقة بالكرد و كردستان .
فى أوائل ايلول عام 1911كتب اوربيلى رسالة الى والديه يقول فيها :-
( أعيش فى بيت مدير ناحية موكس وهو من الكرد القلائل الذين قاموا بحماية الأرمن ، خلال المذابح و صديق روسيا الكبير – اننى نادرا ما رأيت فى حياتى شيخا أكثر جاذبية و وسامة منه . ولكن الأهم من ذلك كله ، أنه انسان مثقف على نحو مدهش ، رغم أنه لم يسافر قط الى خارج ولاية وان ، و معاملته معى رائعة.)
وقد ترك سكان موكس من الكرد انطباعا طيبا للغاية فى نفس المستشرق ( الناشىء فى ذلك الحين ) ، و كما قال اوربيلى نفسه أكثر من مرة فيما بعد، أنه أدرك – هنا فى موكس _ أن الكرد والأرمن يعيشون فى المناطق المختلطة مثل موكس فى تفاهم وهدؤ و سلام .
وظل أوربيلى طوال حياته يحمل أجمل الذكريات عن كرد موكس الذين عاش بينهم عدة أشهر فى مقتبل عمره .
وخلال هذه الرحلة العلمية ، تمكن من تدوين مجموعة من النصوص الفولكلورية الكردية وتأليف معجم كردى – روسى مع ملحق يتضمن ملخصا لقواعد اللغة الكردية . ويبدو أن أوربيلى قد اكتسب شهرة كبيرة خلال فترة قصيرة . ففى شباط عام 1913 بعث عبدالرزاق بدرخان ، عن طريق وكيل القنصل الروسى فى ( خوى ) ، رسالة الى الحكومة الروسية تضمنت عدة مقترحات لتعزيز العلاقات الكردية – الروسية و بخاصة فى مجالات التعليم و الثقافة . و من بين تلك البمقترحات ، ايفاد الكردولوجى يوسف أوربيلى الى كردستان لأعداد كتاب عن قواعد اللغة الكردية و معجم كردى -روسى ، وأشار عبدالرزاق بدرخان فى رسالته الى ( أن مهمة أوربيلى تشمل أيضا القيام بترجمة الآثار الأدبية الروسية الى اللغة الكردية وترجمة النتاجات الشعرية المهمة للشعراء الكرد البارزين الى اللغة الروسية والذين لم تترجم أعمالهم لحد الآن الى أية لغة أوروبية ، ان انجاز هذا العمل سوف يساعد كثيرا على تقارب الشعبين ) .
و يبدو أن مقترحات عبدالرزاق بدرخان قد حظى بتأييد وكيل القنصل الروسى فى خوى وموافقة وزارة الخارجية الروسية التى قامت على اثر ذلك بالطلب من وزارة التعليم الروسية استحداث كرسى فى جامعة بطرسبورغ لتدريس اللغة الكردية و آخر لأثنوغرافيا الكرد. وقد استجابت وزارة التعليم لهذا الطلب و اوعزت الى جامعة بطرسبورغ تكليف يوسف أوربيلى للقيام بتدريس المادتين المذكورتين .
وباشر يوسف أوربيلى بأعداد برنامج مادة أثنوغرافيا الكرد ، الذى جرى التركيز فيه على دراسة كل ما يتعلق بأوضاع وثقافة و عادات و تقاليد العشائر الكردية .
وفى عام 1914 سافر عبدالرزاق بدرخان بصفته ممثلا للجمعية الثقافية الكردية ( جى خاندن ) أى ( دار التعليم ) التى كانت تمارس نشاطها فى مدينة خوى ، الى العاصمة الروسية ( بطرسبورغ ) للعمل على وضع أبجدية كردية على أساس الحروف الروسية. وقد قامت أكاديمية العلوم الروسية بتكليف أوربيلى لأعداد الأبجدية المطلوبة ، وقد أنجز العالم الشاب هذه الأبجدية ، ولكن نشوب الحرب العالمية الأولى حال دون تطبيقها عمليا، كما أدى الى عرقلة تنفيذ البرامج الموضوع للكردولوجيا فى جامعة بطرسبورغ . ولكن اتيحت لأوربيلى فرصة أخرى لزيارة منطقة ( وان ) للمرة الثانية وذلك خلال الحرب العالمية الأولى بصحبة العالم الآثارى واللغوى الجورجى الأصل ( نيكولاى مار )، حيث قام الأخير بتنقيبات أثرية فى تل ( توبراق قلعة ). أما أوربيلى ، فقد شرع بأجراء التنقيبات فى سفوح جبال وان ، ولكن انسحاب القوات الروسية من المنطقة تحت ضغط القوات التركية ، أدى الى توقف أعمال التنقيب وعودة بعثة مار – اوربيلى الى روسيا .
وبعد اندلاع ثورة اكتوبر 1917 فى روسيا لم يتوقف اوربيلى عن الأهتمام بالتراث والثقافة الكرديين على الرغم من المهام الأدارية والأجتماعية الكبيرة التى انيطت به بعد الثورة. ففى عام 1926 نشر عدة نصوص كردية مع معجم لباحث علمى فى جامعة فيينا ( هوكو ماكاش ) وهى تعكس اللهجة الكردية لكرد منطقة ( ماردين ) فى كردستان الشمالية. وفى عام 1927 قام برحلة الى المناطق الكردية فى أرمينيا، حيث تمكن من تسجيل العديد من النصوص الكردية الشفاهية وفى مقدمتها النصوص الشعبية للقصة الشعرية ” مم و زين ” لأحمد خانى والتى – أى النصوص – ما زالت تحتفظ بقيمتها العلمية الكبيرة.
وكان اوربيلى أول من أشار الى مكانة الشاعر والفيلسوف الخالد أحمد خانى والذى يعتبر مؤسس الأدب الكردى الكلاسيكى. وقد قال عنه اوربيلى أنه أحد الشعراء العظام فى الشرق فى القرون الوسطى من أمثال روستافيلى الجورجى والفردوسى الفارسى .
ويمكن اعتبار اوربيلى المؤسس الحقيقى للمدرسة اللينينغرادية السوفيتية فى الكردولوجيا ، ففى عام 1928 حين أرسلت السلطات الأرمنية عددا من الطلبة الكرد الى جامعة الكادحين فى لينينغراد ، كان أوربيلى هو لولب القسم الذى افتتح فى الجامعة المذكورة لتدريس اللغة الكردية واثنوغرافيا الكرد، حيث كان مكلفا بأعداد والقاء المحاضرات فى هاتين المادتين ، كما أشرف على رسائل الدكتوراه فى الكردولوجيا فى جامعة لينينغراد ، واليه يعود الفضل فى اعداد نخبة ممتازة من علماء الكردلوجيا و بخاصة فى مجال دراسة اللغة الكردية وقواعدها من أمثال اسحاق تسوكرمان وقناتى كوردييف .
ورغم انشغال أوربيلى بالدراسات القفقاسية لفترة طويلة الا أنه ظل المرجع الأعلى فى روسيا ، فى كل ما يتعلق بالدراسات الفيلولوجية واللغوية الكردية . وتجنبا للأطالة نورد هنا مثالا واحدا فقط فى هذا المجال .
ففى عام 1929 عندما قام الكاتب الكردى الشهير عرب شمو ( وهو من كرد أرمينيا ) بوضع أول أ بجدية لاتينية متكاملة للغة الكردية ، نصحه وزير التعليم الأرمنى بالسفر الى لينينغراد ( بطرسبورغ حاليا ) لعرض الأبجدية ومناقشتها مع اوربيلى ، ويذكر عرب شمو كيف أنه خضع لأمتحان رهيب من قبل اوربيلى وكيف قاما معا بتدقيق الأبجدية المقترحة وتعديلها وضبطها وفق الأسس العلمية المتبعة فى هذا المجال ، وبعد اسبوعين متواصلين من المناقشات العلمية المستفيضة والجادة ، حين انتهى العمل ، تنفس عرب شمو الصعداء ، حيث حصل على موافقة اوربيلى على صلاحية الأبجدية المقترحة .
وكان اوربيلى متضلعا فى اللغة الكردية و أسرارها الدقيقة وتحت اشرافه صدر فى العهد السوفييتى العديد من الكتب و المعاجم ( الكردية – الروسية ) و ( الروسية – الكردية ) ، نذكر منها المعجم الكردى – الروسى الذى وضعه ( ج. باكاييف ) حيث كتب أوربيلى مقدمة علمية ضافية لهذا المعجم واشار الى أهميته لتطوير الدراسة الكردية فى أرمينيا والمناطق الكردية فى الجمهوريات السوفيتية الأخرى .
وكان اوربيلى فى محاضراته الكردولوجية ينوه دائما بدور الكرد فى تأريخ وثقافة شعوب الشرق الأدنى واسهامات العلمار الكرد فى تطور الحضارة الأسلامية ويؤكد أهمية الفترتين الأيوبية والشدادية فى تأريخ شعوب القفقاس .
بيد أن أهم عمل قام به أوربيلى فى مجال تطوير الكردولوجيا هو اشرافه على تأسيس قسم مستقل علميا واداريا وماليا للكردولوجيا فى معهد الأستشراق فى لينينغراد ( بطرسبورغ حاليا ) وذلك فى عام 1958 حينما كان مديرا للمعهد المذكور ، بعد ان كانت الدراسات الكردية حتى ذلك الحين جزءا من الدراسات الأيرانية ، وقد شكلت هذه الخطوة نقطة تحول اساسية وحقيقية فى تطور الكردولوجيا فى العهد السوفييتى وضم القسم أفضل وأهم الكردولوجيين الروس والكرد السوفييت ، الذين قدموا فى الأعوام اللاحقة انجازات علمية كبيرة وكثيرة . ويكفى أن نشير هنا الى الى بعض الأسماء اللامعة من الذين عملوا فى هذا القسم بأشراف اوربيلى ( كوردييف ، تسوكرمان ، رودينكو ، جليلى جليل ، موسيليان ، سميرنوفا ، يوسوبوفا ، ديمينتيفا ) وقد تخرج على ايدى هؤلاء الكردولوجيين عدد من الطلبة الكرد العراقيين الذين أصبحوا اساتذة الدراسات الكردية فى جامعات بغداد و جامعة صلاح الدين فى اربيل وجامعة السليمانية ، والتأثر الشديد لهؤلاء الأخيرين بأساتذتهم السوفييت بادية فى دراساتهم المنشورة وهم ما زالوا أسرى لأفكار وانجازات أساتذتهم ، فعل سبيل المثال لا الحصر نشير الى أن كل من كتب من هؤلاء الخريجين شيئا عن ملحمة ( مم و زين ) لم يستطع التخلص من تحليلات واستنتاجات المستشرقة الفذة مرجريت رودينكو عن هذه الملحمة ، ولكن هذا حديث ذو شجون ، ربما سنكرس له دراسة مستقلة فى المستقبل القريب ، نقول ربما ، لأن مثل هذه الدراسة ستثير عاصفة من ردود الفعل الأنفعالية ، نحن فى غنى عنها .
يتضح مما تقدم أن لأوربيلى اليد الطولى فى معظم الأنجازات العلمية الكردولوجية التى تحققت فى العهد السوفييتى . ومما لا ريب فيه أن الأعمال العلمية الجادة التى أنجزها خيرة علماء الكردولوجيا من منتسبى هذا القسم ، تعد ذروة الدراسات الكردية فى روسيا والعالم .
توفى أوربيلى فى عام 1961 ، وعلى الرغم من اسهاماته الكبيرة فى تطوير الدراسات الكردية الا ان احدا من تلامذته الكرد العراقيين ، لم يكتب او ينشر شيئا يذكر عما اسداه هذا العالم الجليل من خدمات للتراث و الثقافة الكرديين ، وربما كانت هذه الدراسة الموجزة اول اشارة الى دور أوربيلى فى تطور الكردولوجيا فى خمسينات القرن المنصر م وتأثير تلامذته على مسار هذا التطور منذ وفاته وحتى يومنا هذا .
واذا كان نسيان الأفضال من شيمة الأنسان _ ربما أى انسان – الا أن الأمر يختلف بالنسبة الى المؤسسات العلمية والثقافية الرسمية ، التى ينبغى عليها الأهتمام بمن اسدى للشعب الكردى خدمات جليلة ، مثل ترجمة اعمالهم ونشرها فى الأقل وهذا أضعف الأيمان .
وتبقى كلمة أخيرة ينبغى أن تقال وهى الأهمية العظيمة لأهتمام عالم ارمنى بالمصير التأريخى للشعب الكردى وابراز دور رجال الحكم والشعراء الكرد فى العصور المختلفة و الأشادة بدور الكرد الحضارى وبخاصة فى مناطق القفقاس والعمل على تمتين العلاقات الكردية – الأرمنية ، رغم ما شاب هذه العلاقات من أحداث دراماتيكية فى العقدين الأخيرين من القرن التاسع عشر والعقدين الأولين للقرن العشرين . نقول ان هذا الأهتمام وحده – ناهيك عن خدمات أوربيلى العلمية والثقافية للبشعب الكردى – ، كاف لتخليد دوره المتميز فى بناء أواصر الأخوة والتعاون بين الشعبين الأرمنى والكردى . وبخاصة فى الظرف الراهن الذى يعانى فيه كرد القفقاس من ظلم بعض الحكام الشوفينيين الأرمن .
جودت هوشيار