يعد (جاسم جليل) من الرواد الأوائل الذين أرسوا دعائم الثقافة الكوردية في الاتحاد السوفييتي السابق، مثل (عرب شمو)، و(حاجي جندي)، و(أمين عفدال)، و(وزير نادري)، و(اوجاغ مراد)، و(علي عبد الرحمن)، و(سعيد إيبو)، و(قناتي كردو)، و(بشكو حسن). وقد يكون جاسم متفوقاً عليهم بإبداعاته ونشاطاته، ووقفته التي دامت سبعين عاماً في خدمة ومساندة الثقافة الكوردية.
ولد (جاسم جليل) في العام 1908 في قرية (قزل قولا) في محلة (ديكور) في منطقة (قارس). وفي العام1918 وبعد الحرب العالمية الأولى وإنسحاب الجيش الروسي من قارس، هاجم الجيش التركي بقيادة( كاظم قره باشا) منطقة ( قارس) ومارس القتل ضد الشعب الكوردي والأرمني بشكل وحشي ومخيف، حينها كان جاسم في العاشرة من عمره، وأثناء ذلك القتل الوحشي، أبيدت عائلته بالكامل والمتألفة من أكثر من خمسين شخصاً، ولم ينجُ منها سوى جاسم وأخته خجي، ومع الأسف ضاعت أخته بين جيش الفارين إلى جبال (الاغوز). إستطاع الطفل المسكين أن يصل مع جمع المتشردين، جائعاً ، حافياً وعارياً إلى يريفان. تربى جاسم مع آلاف الأطفال اليتامى من الكورد والأرمن في ميتم (الكسندرا بولي) و(جلالوخليي). وفي العام 1928 رشح للإلتحاق بالمدرسة العسكرية في باكو، ونظراً لذكائه أرسل الى تبليس لدراسة مرحلة أعلى من السابقة. وفي بدايات العام 1929، بعد أن تحسن وضع كورد ما وراء القفقاس (أذربيجان، أرمينيا، جورجيا)، و بعد أن وضع (عرب شمو) بمساعدة مورغوف ألف باء اللغة الكوردية، فتحت الدولة المجال أمام الكورد لتعلم لغتهم قراءة وكتابة، ولكن لقلة الكادر الكوردي الذي يستطيع أن يقوم بعمله المطلوب في المدارس والمعاهد، اختاروا عدداً من يتامى الكورد والأرمن (الأذكياء منهم) وكان جاسم من بينهم، حينها كان عمره (23)عاماً. وهكذا عاد جاسم من تبليس إلى يريفان لخدمة الثقافة الكوردية، وأصبح عضواً في الحزب الشيوعي السوفياتي في العام 1930، ومديراً لمعهد إعداد كوادر الكورد والأرمن في المراكز والمدارس الكوردية لما وراء القفقاس في العام 1931. وقد تخرج على يديه مئات الشباب والفتيات الكورد، وأصبحوا مدرسين في المدارس الكوردية. ولتفوقه في معهد إعداد الكوادر، إختارته الحكومة الأرمنية في العام 1932مديراً للطباعة وتطوير اللغة والأدب الكوردي، وبعد هذا التغيير أصبح المسؤول الأول لطباعة الكتب الكوردية، ومنذ ذلك الحين شقت الكتب المكتوبة باللغة الكوردية طريقها إلى الصدور مثل جميع اللغات في الاتحاد السوفييتي. وما بين عامي(1932- 1938) وفي السنة الأخيرة أوقف ستالين هذه الإصدارات، وكان جاسم في ذلك الحين قد طبع مئات الكتب باللغة الكوردية من كتب المدارس إلى دواوين الشعر وترجمة الكلاسيك الروسي إلى اللغة الكوردية. لقد أعد جاسم لوحده حوالي عشرة كتب للمدارس الكوردية إضافة إلى ترجمة عدة كتابات لماركس ولينين إلى اللغة الكوردية، ولا تزال بعض كتبه تقرأ وتدرس. وبعدها درس ثلاث سنوات في الجامعة ، في كلية الحقوق ونال شهادة الدبلوم. وفي سنوات الحرب العالمية الثانية أصبح مدرساً للغة الكوردية في المدارس العسكرية الخاصة، و بناءََ على طلب من الحزب الشيوعي في يريفان نظم حوالي (500) أمسية في المناطق الكوردية، حول حب الوطن ومحبة الأمم.
لعب (جاسم جليل) دوراً كبيراً في مجال تطوير اللغة والأدب الكورديين بعد الحرب العالمية الثانية. وفي الذكرى المائة والخمسين لميلاد الشاعر الكلاسيكي الروسي (أ، س، بوشكين)، ترجم جاسم مجموعة من أشعاره إلى اللغة الكوردية ونشرها. وبعد وفاة ستالين ، فتح المجال مرة أخرى أمام اللغة في القرى الكوردية، وأعادت جريدة (ريا تازه) البسمة إلى وجوه الكورد إثر صدورها مرة أخرى. ولكن الحدث المهم بالنسبة للكورد جميعاً خاصة لكورد ما وراء القفقاس، هو فتح الإذاعة الكوردية في يريفان 1955 وبإدارة (جاسم جليل) ، وبفضله انتشر صوت الشعب الكوردي إلى العالم ، وراح الكورد في الأنحاء الأربعة من العالم يستمعون إلى موسيقاهم وفولكلورهم، وبفضله أنقذت حوالي (1000) أغنية ومقاطع موسيقية من الضياع والاندثار. لم يكن جاسم عاشقاً لسماع الأغنية الكوردية فحسب، بل كان موسيقياً أيضاً يعزف على الناي، فكان يتذكر أغاني طفولته، وطفولة قرى آبائه وأجداده، فكثيراً ما كان يغني ويدندن تلك الأغاني، ويشعر بالراحة والترويح عن النفس. وكان للقسم الكوردي في إذاعة يريفان دور كبير في إيقاظ الكورد في النواحي الأربعة. وفي العام 1970 أصبح مسؤولاً عن طباعة الكتب الكوردية في مطابع الدولة على مدى عشر سنوات، وطبع خلالها المئات من الكتب.
وهب (جاسم جليل) سبعين عاماً من عمره هدية للشعب الكوردي دون أن يتوقف يوماً عن حب وطنه، فقد كان الوطن دائماً في فكره وقلبه. وكان عاشقاً لفولكلوره، وغالباً كان الفولكور أساساً لكتاباته ومزيناً لها، حيث كان يسعى جاهداً لتعريف فولكلوره الغني للشعوب المجاورة من الأرمن والروس والجيورجين. ترجمت العديد من أشعاره إلى اللغة الروسية، ونشرت في كبريات الصحف السوفياتية مثل (برافدا) و (ايزفستا) وصحف أخرى ، وفي العام 1963 أثناء الظلم الوحشي الذي كانت تمارسه الحكومة العراقية على ثورة البارزاني, كتب العديد من القصائد ونشرها. وبفضله ترجمت أشعار الكثير من الكتاب الكورد إلى اللغة الروسية، اولإنكليزية، والأذربيجانية، والأرمنية، ونشرت في مجلات مختلفة في أرمينيا. وكان جاسم مثالاً للبارزين في الاتحاد السوفياتي السابق ، فلم تبق مجلة أو صحيفة في أرمينيا إلا ونشرت قصائده، وتحدثت عنه بايجابية. وفي العام 1936في اتحاد الكتاب السوفييت، ولعدة مرات أصبح ممثلاً في الكونفرنسات في موسكو ويريفان لنشاطه الدائم والمثمر، ونال العديد من الجوائز. وفي 24/ 10/ 1998 فارق الحياة في إحد مشافي يريفان عاصمة جمهورية أرمينيا بعد أن عاش تسعين عاماً ذاق خلالها المرارة والسواد، وبقيت رؤية أرض الآباء والأجداد حسرة في قلبه ودفن فوق تل يبعد 15 كم عن يريفان. إلى الشمال من قبره ترى جبال (ألاغوز) بوضوح، تلك الجبال التي أنقذته من الموت ذات يوم.
ذهب العالم الجليل و ترك خلفه ثلاثة أبناء، هم : الكبير البروفيسور(اورديخان جليل) وهو أستاذ باحث في الفولكلور، وإبنه الأصغر البروفيسور (جليلي جليل) المؤرخ المشهور، وإبنته (جميلة جليل) باحثة وموسيقية ماهرة، وهؤلاء أيضاً كرسوا حياتهم لخدمة الثقافة الكوردية.
عن صحيفة المدى