بغداد في بداية الستينات… منزل لعائلة فيلية في احد الاحياء الشعبية ببغداد. اطفال تجاوز عددهم العشرون جلسوا بصفوف امام التلفاز يتابعون برامج الاطفال. صاحبة الدار منهمكة في اعداد العشاء الذي كان يتألف عادة من الرز (التمن) واحد انواع المرق، كعادة كل العراقيين. كانت في ذلك اليوم قد نجحت في شراء اوعية الطعام من الالمنيوم ( الفافون)، وبذلك انهت معاناتها من صحون الزجاج التي كانت تؤرقها عندما كانت تقدم فيها الطعام لهذا الجمع، كان قلقها نابع من سببين الاول خوفها على الصحون الغالية الثمن من الكسر والثاني وهذا كان اهم عندها من الاول ، هو خوفها على الاطفال ان يصابوا باي جرح في حالة كسر الصحن، والاولاد هم ابناء المحلة ،ضيوفها المرحب بهم ، وكانت تقول انهم أمانة عندها،من لحظة دخولهم دارها. كانوا يجتمعون كل مساء لمتابعة برامج التلفاز، لان هذا الجهاز كان الوحيد في المنطقة لذا لم تقبل هذه العائلة الا ان يشاركوا ابناءها كل ابناء المحلة في تسليتهم هذه *(1).
المشهد الثاني:
بغداد في منتصف السبعينات
نفس العائلة يطرق الباب بعنف، تخرج ربة الدار مفزوعة لتعرف ماذا هناك، يحيها بصوت اجش وبلهجة صارمة ، نعم ابني ، اكو شي؟ يحاول ان يغير لهجته للحظة وهو تذكر من تقف امامه، هي نفسها التي كانت تحنو عليه وخاصة عندما كان الاطفال يعيروه بعاهته المستديمة، حتى اصبحت ملاصقة لاسمه ككنية، وكيف كانوا ابناءها يردون الاطفال عنه، وتذكر كم مرة شاركهم العشاء في تلك الامسيات حول التلفاز، اي بالعراقي الفصيح كان يجمعه واياهم الزاد والملح. في اشارة الى عمق الاصرة ، ومن يجمعك وأياه هذه الاصرة يجب ان لا يخان، لان في مجتمعنا العراقي عندما كان يطلق على شخص ما صفة “خائن الزاد والملح” وتلك كانت صفة ذميمة كبيرة ،يفقد فيه ثقة الناس واحترامهم.
عاد وتذكر المهمة التي جاء من اجلها فأخشوشن صوته اكثر ” وين ابنچ؟” فاجابته: “یومه یاهو منهم؟” .
“ابنچ ح..”.
” یومه مو تدری هوه بالجامعة ، يجي مرة كل شهر”
“يا جامعة؟ هي بقت جامعة بسليمانية ، گولي ابنج ويا الجيب العميل، وگاعد هسة وية الخونة يحاربنا”
لم تتمالك نفسها من هول الموقف، فسقطت مخشية عليها.
تلك الليلة والليالي التي تبعتها، كانت العائلة تنام بكامل ثيابها تحسباً، لمداهمة الامن لدارهم،لسوقهم الى حقول الالغام التي تفصل بين جبهتي القتال التي يتخندق في احداها البيشمركة، ابطال الثورة الكوردية، وفي الاخرى القوات العراقية التي كان جنودها من ابناء الجنوب الفقير، والذي كانت السلطة تستخدمهم كوقود في حروبها الداخلية والخارجية. تلك السياسة التي ابتدعها عقل الطاغية كعقوبة جماعية ضد اهالي من التحقوا بالثورة الكوردية. وقد ذكر في حينه ان خال الطاغية صدام “تندر واصفاً أستخدامهم لابناء الجنوب، الملتحقين بالخدمة الاجبارية في الجيش(خدمة العلم) في حربهم ضد الاكراد “چلب الله علی عدوا الله” . اي بمعنى آخر انهم يستخدمون اعدائهم الشيعة ضد أعدائهم من الاكراد.
*(1)كان من ضمن الجمع المتحلق حول تلفاز ابناء جارهم الميسور الحال المتزوج من امرأتين، كان يقال انه يملك 37 داراً، من دخله في العمل في أحد محطات البنزين؟؟؟!!!. لكنه اتصف بالبخل او كان هذا ما يشيعه ابناءه عنه، رغم انه كان قد زار بيت الله الحرام وكان يحمل لقب حجي الذي يفرض الاحترام في مجتمعنا العراقي. كان قد اتخذ من أحد بيوته الواسعة، ذو الطابقين سكناً له ولعائلته. تسكن كل زوجة وابناءها في احد الطوابق. الغريب في الامر ان سكنهم في طابقين مختلفين انعكس في اتجاهم السياسي ايضاً. حيث كان انتماء ابناء الطابق العلوي الى اليسار العراقي واضحاً، بينما انضم ابناء الطابق السفلي لقوى استخبارات الامن الصدامية. وعند متابعة ابناء العائلة الفيلية وهم في المهجرلاخبار العراق، عام ،2005، اعلنت أحد محطات التلفاز عن اعتقال “سياف صدام حسين” ، وكان الابن الاكبر لسكنة الطابق السفلي.