الرئيسية » بيستون » مشاهد فيلية.. عاش الزعيم

مشاهد فيلية.. عاش الزعيم

رغم قصر الفترة التي حكم فيها الزعيم الخالد عبد الكريم قاسم، مؤسس الجمهورية العراقية، الا ان انجازات الثورة كانت كبيرة، لكن ما سنتطرق اليه اليوم هو شئ مختلف تماماً. كانت المسيرات التي تقام في المناسبات وخاصة الرسمية هي اكثر ما لصقت في ذاكرتها، كم كانت تحسد شقيقتها الكبرى، وهي تتهيأ ضمن فريق المدرسة لهذه الاحتفالات، استغربت أجتهاد اهلها على تهيأتها للمساهمة في أحداها، وتذكر ملابسها المزركشة والمصنوعة من الورق التي ارتدتها اختها في تلك المناسبة مع سلة ورد كانت تحملها، وكانت الورود هي الاخرى ورقية. و ما شد انتباهها أكثر التناسق في اختيار الالوان.
تلك الليلة وضعت العائلة المنبه. كي لا يفوت الابنة الكبرى موعد ذهابها الى الاحتفال، وكل ما كانت تذكره ان الظلام كان مازال مخيماً عندما غادرت شقيقتها بصحبة ابيها. وعادت خائرة القوى عصر ذلك اليوم، ونامت دون ان تقول لهم اي شئ وهم كانوا متلهفين لسماع الاخبار منها.

في أحد الايام اصطحبتها اختها بعد ان أعطتها وعداً، بأن تمسك بثوبها دوماً حتى لا تضيع وسط الزحام. كان الزحام شديداً، ولكنها وبخفتها المعهودة وجدت لهم موقعاً (في احد اركان شارع الرشيد، في الجهة المقابلة لبناية البنك المركزي العراقي والتي كانت قيد الانشاء أنذاك) يطلون منه لمشاهدة المسيرة التي أقيمت على ما تعتقد، بذكرى ثورة تموز، كانت المشاهد المتنقلة على السيارات تعكس كل جوانب الحياة العراقية، فكانت اشكال مصغرة من المصانع والحقول تأتي وتغادر لتأتي أخرى، حتى ان مخبزاً(للصمون) كان يشتغل على ظهر احدى السيارات، وكلما كان ينتهي العامل من اعداد وجبة يتلقفها منه الناس.
بعد مرور هذا المشهد، طلبت منها شقيقتها المغادرة و بالسرعة الممكنة، مسكت بيديها وسحبتها لكن الجمع كان هائلاً، ولم تفهم ما حدث، وصلوا الى منتصف سوق،كانت الطرق مغلقة من قبل الشرطة، وارشدوهم الى طرق التفافية تؤدي الى أحياء مسيحية في بغداد (عكد النصارى)، والتي كانت تمتاز بالهدوء والنظافة، ليمروا عبرها ليخرجوا الى الشارع فوجدوا الشرطة أمامهم مجدداً، ولكن يبدوا ان صغر سنهم شفع لهم ففتحوا لهم الطريق ليمروا حتى يصلوا البيت. لم تع ما حدث، لكن وجدوا الاهل في فزع تام، وقلق عليهم. , ثم فهموا ان المسيرة قد “ضربت”، لانه كانت هناك هتافات تردد بالمطالبة لاشراك الحزب الشيوعي في الحكومة. ذكر ان كثيرين جرحوا او ربما استشهدوا، وفي ذات المكان الذي كانوا فيه قبل لحظات وآخرين دهسوا تحت الاقدام اثناء التدافع والهرب.

في تلك الايام كان الحزب الشيوعي يسيطر على الساحة السياسية، لكنه كان غير ممثلا في الحكومة. تلك المسيرة والمطالبة، استغلتها الاطراف المعادية للثورة، لدق أسفين بين قائد الثورة والحزب الشيوعي العراقي، وكانت بداية النهاية لفترة حكم، كان امل، الطبقات المسحوقة،و لم يشهد العراق قبله ولا بعده، مثل نزاهة الحاكم ووطنيته على مر العصور من تاريخه الطويل.

الايام تمر متثاقلة وبدأت تأتي بنذير شؤم، الاوضاع السياسية لم تعد مستقرة، رغم ان شعبية الزعيم لم تكن قد انخفضت وخاصة في وسط الطبقات الفقيرة والمسحوقة. لم تعد الام تزور ابنة عمها كما كانت تفعل دوماً، كانت في منزلة ام لها للفارق الكبير في السن، وقرب سنها مع عمر ابناءها. كانت تحبها كثيراً، وكان أبناؤها يتصورون انها شقيقتها، ولم يعرفوا بخلاف ذلك لحين ان كبروا، وكانت هي وعائلتها اقرب الناس اليهم. كانت متألمة منها، والسبب كما وضحته، ان أبنة عمها قد وضعت بيرقاً صغيراً على سطح الدار ،تطلب من الله ان يستجيب لدعائها، للتخلص من الزعيم، لانه كان سبباً في اعتقال ابنها، وعدم اطلاق سراحه. كان قد اعتقل مع المتظاهرين المطالبين بالسلم في كوردستان. وكذلك لتسبب الزعيم وسياساته في عودة الحرب لربوع كوردستان. بينما الام كانت لا ترى في كل ذلك سبباً وجيهاً لفعلة ابنة عمها. وبقيت لسنوات لاحقة تَعْزي كل المصائب ،التي اصاب الشعب العراقي اليها، والعلم الذي رفعته.
لم يطرأ على ذهن ابنة عمها, انها ستسلب منها ابناءها واملاكها، وترمى وبقية عائلتها بعيداً عن وطنها، لتموت في ارض غريبة دون ان تعرف مصيرهم. ولم تعثر بناتها بعد سقوط صنم بغداد، سوى ورقة وجدت فيها اسماء اشقائهم، تعلن عن تنفيذ حكم الاعدام فيهم؟؟؟!!! وهذه هي كل ما تبقى من اثر لهم .

كانت المؤامرات تحاك في السر والعلن، ضد الثورة والجمهورية الوليدة. من كافة الاطراف، وخاصة البلدان العربية المجاورة المتواطئة في السر والعلن مع الاستعمار الغربي، الذي تضررت مصالحه، نتيجة للقرارات الثورية التي اتخذتها الحكومة، كما استغل سمو اخلاق الزعيم، وتمسكه بالقيم العراقية الاصيلة لنصل الى ذلك الصباح المشؤوم من شباط 1963.