اولاد وبنات صغار وقفوا على المرتفع يترقبون الطريق القادم من بغداد. بعضهم اتى بطلب من الاهل والاخرون بطمع في ان يكونوا اول من يخبر بوصول أحد الاقارب. كانت الاوضاع السياسية قلقة في بغداد، وتاثير ما سميت بانتفاضة رشيد عالي الكيلاني ، بدى واضحاً على الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية في البلاد. ونظرا لانتشار البطالة وانخفاض المستوى المعاشي ، أضطرت الحكومة الى توزيع بطاقات على الناس للحصول على التموين، وذكر ان الخبز في بغداد في تلك الايام اصبح لونه اسوداً من كثر الشوائب فيه،. واصبحت النساء ترتدي البسة من “الخام الاسمر” *(1)، لان العالم كان يمر بفترة الحرب العالمية الثانية وكان قد سبقه كساد عالمي. ورغم ان مدينة بغداد كانت مركز الاستقطاب للكورد الفيلية ، ومكان توجهم للعمل والسكن لعقود سبق ذلك التاريخ ، الا انه حدثت هجرة معاكسة في تلك الفترة، لان الناس كانوا قلقين على احوالهم وما يدور، وخاصة والمعارك كانت مستعرة في كل مكان في العالم وحتى اصبحت قريبة منهم لذا لجأ البعض الى بشتكو لانهم اعتبروها مكان اكثر امناً ، لطبيعتها الجغرافية الجبلية العصية، وكذلك لسهولة الحياة في الريف الكوردي الفيلي ،لقوة الاواصر الاجتماعية التكافلية في ذلك المجتمع الذي ما زال يحتفظ بارتباطاتها العشائرية وتقاليدها، والتي تعد ضمان اجتماعي لتلك المجموعات في ظل هكذا ظروف. تعود الناس وعلى مر القرون على السفر الى الاماكن المقدسة في بغداد ومدينتي النجف وكربلاء المقدستين. وكانت تلك الزيارات حلماً وامنية لاي منهم ، لاتوازيه سوى مراسم الحج، وبما ان هذه الزيارة كانت اسهل واقل تكلفة، لذا كانت تحقق بعض احلامهم . لم يكن ليعترفوا باي حدود دولية مستحدثة تقسم اراضيهم، كما كانت الحكومة لا تعنيها هذه المسألة كثيراً، لانها كانت لا تغشى منهم ، لما كانوا يتمتعون بخلق عالي قل نظيرها عند جماعات أخرى كانت تأتي الى العراق وعبر طرق رسمية ومشروعة، كان البعض منهم يبقى في مدن العراق القريبة من ديارهم ،وخاصة المدن الكبيرة كبغداد والبصرة. ليقوموا باعمال بسيطة ، لا يقوم بها ابناء المدن والاغلب يقوم بها المهاجرين وخاصة غير الشرعيين. كما هو الحال في اوربا اليوم، حيث يلجأ وحتى حملة شهادة عالية الى ايجاد عمل في مواقع بعيدة عن اختصاصاتهم ، واكثرها في اعمال المطاعم السريعة والمحلات التي لها علاقة بالمواد الغذائية والتي لا تحتاج الى رأس مال كبير ولا الى موافقة ابناء بلد اللجوء للعمل فيها. وبما انه من عادة الاكراد ان يطبقوا مقولة “الكار مو عار” لانهم يعتبرون بقاء الرجل بدون عمل او اعتماده على الاخرين ، عار ما بعده عار. لذا لم يتوانى بعضهم من الاشتغال “كعتالين” ،لما يتمتعون به من قوى جسمانية، وكان معظمهم يعملون عند أقارب لهم من التجار، لان معظم التجار في مدن العراق الكبيرة كانوا من ابناء هذه الشريحة ، حيث كان لهم دور بارز في السوق العراقية وانهاضها. بينما لجأ المهاجرون من الريف العربي العراقي الى العمل في دوائر البلديات في اعمال التنظيف الذي كان يرفض ان يقوم بها ابناء المدن. لم تكن رحلاتهم تلك دوماً سهلة لانها كانت تتأثر مداً وجزراً ، بالعلاقة بين الحكومتين العراقية والايرانية. وفي ايام كانت تشتد المراقبة على الحدود ولذلك كانوا يلتجؤون الى الادلاء والمهربين ، وفي احد ايام صيف في ستينات القرن المنصرم ، عرفنا ان مجموعة تاهت ، وماتت من العطش؟؟ وكانت تتكون من 44 شخصاُ كان احدهم قريباً لجارتنا. كان البعض يلجأ الى سلك طريق غير شرعي عند دخوله الى العراق، وذلك لان الدخول الى العراق كان يتطلب فيزة يجب ان يحصل عليها من مدينة طهران، التي كانت تبعد عنه مسيرة يومين بالسيارة بالاضافة الى مخاطر الطريق وتكاليفها. وعندما كان ينتهي من زيارته كان يذهب الى السفارة الايرانية في بغداد ليبلغهم انه دخل العراق بطريق غير شرعي لزيارة المراقد المقدسة. فكانت السفارة تسهل امره مع السلطات العراقية ، وتضمن له طريق العودة عبر خانقين ثم “النفط خانة” فالمنذرية ثم يأخذ الطريق جنوباُ داخل الاراضي الايرانية ليصل الى مرابع الاهل. *1. كانت تتعجب الوالدة عندما أصبح اللباس المصنوع من قماش “الخام الاسمر” والذي عادة يستخدم كأغلفة داخلية للفرش والاغطية، الى موضة ونحن كنا نرتديها ونحن طلبة في الجامعة في السبعينات. وكانت تذكرها بتلك الفترة العصيبة التي عاشتها بغداد في الاربعينات، واحمد الله انه رزقها بالشهادة قبل ان ترى ما الت اليه اوضاع العراقيين في هذه الايام.